رحل رسام الكاريكاتير حجازي صباح الجمعة الماضية.. وهو يعد بحق فنان الشعب تماما مثل بيرم التونسي شاعر الشعب ورائد العامية المصرية ..رحل بعد ان أبهج وأضحك وأمتع وأبكي وأوجع وأحدث انقلابا في الكاريكاتير المصري الحديث مع صلاح جاهين.. وشكل اسطورته من تلك البساطة المتناهية التي تعيد سيرة السهل الممتنع بخطوطه التي كانت تنساب بريشة فصيحة.. ريشة فيلسوف تضيء علي حياتنا السياسية والاجتماعية . في رسوم حجازي كما يقول الدكتور علي الراعي يتأكد أن الرسم الناجح له " زبان "حاد للدغ لاغني عنه.. وإذا فقد هذا الزبان لم يعد للكاريكاتير قيمة.. انه وحده الذي يحفظ لفنان الكاريكاتير مكانه القوي بين باقي الفنون التشكيلية " . منذ مايقرب من 6 سنوات وفي هدوء شديد.. غادر حجازي شقته بحي المنيل وعاد الي بلدته طنطا بعد ان اعتزل الكاريكاتيرلاكثر من 25 عاما حتي رحيله وظل يعيش هناك بعيدا عن الصخب الصحفي و السياسي.. واستقال من الفن الصحفي المشاكس.. ولكن ماابدعه لايعتزل ولا يستقيل.. انه الآن ملء عيون القراء ورسومه التي يعاد نشرها ونطالعها في مجلات وصحف كثيرة.. مازالت تعلن ان حبرها لم يجف . واذا كان حجازي قد اعتزل الكاريكاتير إلا أنه ظل مخلصا لرسوم الاطفال وكانت تربطني به صداقة كبيرة واذهب اليه في الغربية في السنوات الاخيرة ..كان يضيف الكثير بلمسته في فن كتاب الطفل مع مايكتبه صديقه الحميم الفنان مجدي نجيب وكاتب الاطفال عبدالتواب يوسف والكاتبة لينا الكيلاني . ومع تلك اللقاءات كثر حديثه من الطفولة والنشأة الي الصحافة والفن والسياسة . القطار وبداية الرحلة يقول حجازي: "رأيت مصر كلها.. بحري والصعيد.. الريف والحضر.. الكفور والنجوع من نافذ ة القطار.. والدي كان يعمل سائقا لقطارات السكة الحديد وطوال فترة الصيف اسافر معه.. ومن هنا رأيت كل مفردات الحياة الاجتماعية ". وقد ساعدته تلك الاجواء علي الامتلاء بمصر منذ الصغر. في بداية دخول حجازي المدرسة التحق بمدرسة القباري بالاسكندرية حيث اقامت الاسرة هناك لفترة.. كان يرسم باستمرار كأي طفل وعندما عادت الاسرة الي طنطا التحق بمدرسة الاحمدية الثانوية.. لم يكن يخطر بباله ان يكون رساما بل كان يعد نفسه لأن يكون شاعرا وكاتبا خاصة ومتعته الوحيدة كانت في القراءة.. وفي شارع البحر بطنطا كان يطل كشك عم ابراهيم لبيع واستعارة وتبادل الكتب.. وامام الكشك عدد من الدكك الخشبية ومن كان يأخذ الكتاب ليقرأه بالمنزل بقرش صاغ ومن يقرأه علي الدكة أمامه بتعريفة . ومازال فنان الشعب حجازي يتذكر طفولته عبر اكثر من لقاء لنا معه من قبل بين شقته بالمنيل ومنزله بطنطا حيث كان يسكن بشارع حسان بن ثابت بعد أن عادت اللؤلؤة اللي محارتها لمجرد ان قالت له احدي اخواته.. كفاية غربة ياحجازي !!. يقول : "كنت اختار نوعية الكتب الكبيرة والضخمة في عدد صفحاتها حتي اشعر أنني أحقق اقصي استفادة مقابل القرش الذي ادفعه. أيضا كنت اتردد علي مكتبة البلدية.. هناك قرأت ديوان بيرم التونسي ووجدت في أشعاره مايشبه الكاريكاتير من تلك المبالغات الموحية والساخرة كما في قصيدة العامل المصري : ليه امشي حافي وانا بنيت مراكبكم ليه امشي عريان وانا منجد مراتبكم ليه بيتي خربان وانا نجار دوالبكم هي كده اسمتي الله يحاسبكم ". هو والرسم " في ذلك الوقت ظننت ان كل الناس يرسمون.. وان الرسم نوع من التنفيس لا أكثر مثلما يرسم الاطفال الصغار علي الحوائط.. ومن هناعندما كان مدرس الرسم ينادي الناظر ويصحبه مع مدرسي المدرسة لمشاهدة رسومي.. لم اعتبر حتي هذه اللحظة ان هذا شيء ذو قيمة.. وكانت رسومي في المدرسة في ذلك الوقت من النوع الواقعي.. رسوم تعبيرية ذات نبرة وطنية عالية مثل وجوه احمد عرابي ومصطفي كامل وسعد زغلول . وكنت ارسم بلا توقف دون أن أعي اهمية ذلك.. ولم أكن أعرف أنه نوع من الفن الا عندما طالعت " روزاليوسف " ورأيت رسوم عبدالسميع التي تتصدر غلافها بالاحمر والاسود وتمتليء بها الصفحات.. تناصر الملك فاروق أو آخر حكمه.. وتتصدي للاستعمارالبريطاني والرجعية.. ولقد احدثت تلك الرسوم بداخلي نوعا من الفوران مع هذا التوافق والاتزان الذي جعلني لاول مرة اشعر بقيمة ماانجزه من رسوم في هذه السن . طنطا.. القاهرة وحجازي المولود بأحد أحياء طنطا الفقيرة عام 1936.. حي اسمه "كفر الجاز".. ظل يتعلم في المدارس لثانوية حتي جاء اليوم الذي عجز فيه والده عن دفع المصروفات المدرسية الضئيلة التي لابد أن يدفعها.. وهنا قرر ترك طنطا وعقد العزم علي فتح القاهرة و غزو عاصمة البلاد.. حدث هذا صباح يوم الامتحان.. واقتنع معه بالفكرة صديقه اسحاق قلادة الذي يكتب الرواية.. وترك خطابا موجها إلي والده تضمن سطورا قليلة قال فيها " انني لا أستطيع أن استمر عبئا علي هذه الاسرة وأريد أن اتحمل المسئولية.. مسئولية نفسي " . وفي الغرفة الفقيرة التي عاش فيها بحي بولاق.. اخذ فناننا يتدبر أمره وهو جالس علي بعض الجرائد القديمة والتي تعد كل ما كان يملك من أثاث منزله.. تأمل الصحف التي ينام عليها وما بها من صور لبعض الشخصيات وامسك بورقة وقلم وبدأ يرسم كل الصور التي بالجريدة. يقول حجازي : انه لم يدخل مدرسة للفنون الجميلة ولم يدرس الفن او الرسم في أي مكان وأن موهبته نمت وترعرعت بفضل اثنين: الفقر وروزاليوسف! في صباح اليوم التالي حمل ماخطه من رسوم بالحجرة الصغيرة ببولاق وذهب الي مجلة "التحرير " التي يصدرها مجلس قيادة الثورة وهناك التقي المشرف الفني حسن فؤاد الذي رأها وتأملها باهتمام وبدأت أولي خطواته علي صفحات المجلة وعندما انتقل الفنان حسن فؤاد إلي روزاليوسف انتقل معه وبدأ الاعداد لمولود صحفي جديد : مجلة صباح الخير التي صدرت عام 1956 واختاره حسن فؤاد مع احمد بهاء الدين رئيس التحرير للعمل بها مع اهل بيت الكاريكاتير المصري الحديث: جاهين ورجائي وجورج وبهجت . يقول حجازي: أنا أحب الكاريكاتير.. ولا أعرف بالضبط ماذا كنت أحب أن أعمل لو لم اشتغل رساما.. ولقد تعلمت الرسم من كل من سبقوني وكل من جاءوا بعدي.. و تعلمت بطبيعة الحال من صلاح جاهين أكثر ماتعلمت.. فهو الذي أنشأ التحول الأساسي في خط الكاريكاتير المصري مغيرا اسلوب الخطوط بحيث تكون اكثر تعبيرا وعمقا ومباشرة . حجازي وبيرم التونسي في تصورنا أن هناك علاقة كبيرة بين بيرم التونسي وحجازي.. حتي ان اشعار بيرم نجدها في خطوط حجازي.. وكأنها تتطابق بين نغم الكلمة ونغم التشكيل بالخطوط.. وكلاهما كان يستقي عالمه من معين واحد.. معين الإبداع الشعبي . وحجازي كان يجسد بنت البلد من فلاحة الي ربة بيت الي موظفة وطالبة بالجامعة.. وفي هذه الصور.. تغني بالعيون المتسعة الكحيلة.. كل هذا مع الاختزال الشديد بأبسط الخطوط واعمقها.. ونحن نجد في تلك الشخصية تصويرا لها عند بيرم في قصيدته التي تغني فيها ببنت البلد :" احب بنت البلد والحب بهدلني.. ومن بروج الأدب والفن نزلني " . وسر عظمة حجازي مع وعيه الشديد وثقافته الرفيعة وانسانيته، هو الصدق الذي كان يحدوه دائما وهو الذي جعل منه تلك القامة والقيمة الكبيرة. حين ترك شقته بالمنيل.. حدث أن صاحب الشقة بعد ان علم انه سيتركها احضر اليه 140 الف جنيه مقابل تركه لها ولكنه رفض ذلك قائلا ان كل مادفعه حتي يقيم فيها مجرد ايجار شهر وشهر آخر تأمين.. وبالتالي ليس من حقه هذا المبلغ.. هكذا كان دائما.. حياته يعيشها ببساطة.. وتاجها مبادئه وقيمه الرفيعة . وقد صور الشخصية المصرية بكل ملامحها.. وتعرض الي أدق تفاصيل مشاكل الحياة اليومية وتناول المرأة والزواج والحب والامية والمخدرات والريف والمدينة والمواصلات والطلاق ودنيا الموظفين وسي السيد في البيت وعالم الفن. وقد صدر كتاب حول عالم حجازي للفنان محمد بغدادي " كاريكاتير حجازي ..فنان الحارة المصرية ". . كما صدر للاطفال عن المركز القومي للطفل كتاب " 9 فنانين كبار في دنيا الاطفال " لكاتب هذه السطورومن بينهم حجازي . رسام الأطفال وعندما رأس أحمد بهاء الدين " دار الهلال ".. يضيف فناننا الراحل : طلبني للعمل هناك بصحافة الطفل وقدمت مسلسل "تنابلة الصبيان " لمجلة سمير.. وكان هذا اول مسلسل بفكر مصري ليس له علاقة بالنقل من الخواجات.. كنت ارسمه بمنطق "الهزار ".. كنوع من الملاطفة والدعابة مع الطفل المصري.. تعاملت معه ومن خلاله كصديق ومواطن صغير له وجهة نظر . فالخطأ أن نربي اطفالنا علي طريقة " اسمع كلام الآخرين ولاتسمع كلام نفسك".. نقول له : " اسمع الكلام ولانقول افهم الكلام ".. مع أن المفروض أن يفهم حتي لايكون خاضعا.. وحتي يصبح إنسانا مشاركا وفعالا. وقد رسم حجازي عشرات من كتب الاطفال الجميلة لدار المعارف ودار الهلال ومؤسسة روزاليوسف ودار الفتي العربي والدار المصرية اللبنانية.. كل هذا بريشة شديدة الخصوصية جعلت منه "ديك برونا "مصر فقيمته تتوازي مع الفنان الهولندي الشهير.. واقبال الاطفال علي كتبه ليس له منافس . وشارك حجازي في تأسيس مجلة «ماجد» للاطفال عام 1978 والتي تصدر عن مؤسسة الاتحاد بدولة الإمارات العربية وقام بتصميم شخصياتها الرئيسية.. بالإضافة إلي رسومه بمجلة "علاء الدين " ومجلة " تاتا.. تاتا " أول مجلة اطفال مصريه لاطفال ماقبل المدرسة والتي كانت تصدر برئاسة تحرير الكاتبة فاطمة المعدول والتي اصدرت له العديد من الكتب حين كانت رئيسة للمركز القومي للطفل . تحية إلي روح فنان الشعب حجازي وإلي ريشته النبيلة الصادقة.. ريشة صداحة غنت لمصر.