هل ينجح المثقف خاصة إن كان مبدعا حين يتربع علي عرش الحكم ويستحوذ علي مفاتيح غرف صناعة القرار؟ ..المثقف هو بالفعل ضمير أمته.. وبانبثاقات بصيرته التي تستمد نورها من تلك المنطقة اللامرئية يري ما لايراه غيره.. انه زرقاء اليمامة.. لكنه ان كان ضمير الأمة فقد لايكون عقلها.. ! وهذا ما ألحظه كلما احتشد مثقفونا.. المبدعون تحديدا في منتدياتنا الثقافية.. كلما ألمت بالأمة مأساة ما.. يصرخون ويحذرون ويطالبون.. كل هذا يصنف في اطار كونهم ضمير الأمة أو زرقاء اليمامة.. لكن ان طلب منهم برنامج عملي يرتكز علي الوعي السياسي وقراءة دقيقة للامكانيات المتاحة والأهداف المتوخاة من النادر أن يوفقوا في ذلك.. بل أنهم كثيرا ما يخلطون بين ماهو مطلوب منهم وماهو مطلوب من السياسي.. حتي أنهم يغفلون ماهو مطلوب منهم.. ويلجأون للأيسر.. مطالبة السياسي بما لايكون في مقدوره:اطرد السفير.. اقطع العلاقات.. جيش الجيوش !وحالات النجاح التي حققها المبدع كسياسي.. أي ان كان ضمير أمته ووجدانها ثم عقلها.. تكاد تكون نادرة..وفي زمننا هذا يكاد الأمر يقتصر علي بضعة حالات مثل الشاعر ليبولد سنجور رئيس السنغال الأسبق.. والكاتب المسرحي فاتسلاف هافل رئيس جمهوريةالتشيك السابق.. ومع ذلك..فسنجور رغم تصنيفه كأحد حكماء افريقيا حين ترك الحكم خلف وراءه بلدا ينهشه الفقر والتخلف.. بل ويكاد يكون المتهم الرئيسي في نشر الفرانكفونية في أفريقيا ! وهل الفرانكفونية تهمة؟ هكذا يراها الكثير من المفكرين باعتبارها نوعا آخر من الاستعمار في مرحلة ما بعد الكوليانيالية.. فاذا كان الاستعمار في شكله التقليدي القديم كما ظهر وانتشر عقب الكشوف الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.. وتمدد بتأثيره المهلك لشعوب العالم الثالث الي أواسط القرن العشرين.. فالفرانكفونية حركة منظمة سعت - من وجهة نظر مناوئيها - الي نشر الثقافة الفرنسية.. بل وسبغ الهوية الفرنسية علي العشرات من شعوب العالم.. خاصة تلك التي كانت خاضعة الي الاستعمار الفرنسي في السابق.. ولأن ليوبولد سنجور كان شاعرا متميزا يكتب أشعاره بالفرنسية.. وتحتفي دور النشر في باريس بأعماله.. وتبسط الميديا الفرنسية مساحات واسعة لما يقوله النقاد عنه.. بالاضافة الي كونه حكيما منصوتا له في أفريقيا.. فلقد ساهم ذلك في تمكين الفكر الفرانكفوني خاصة في أفريقيا.. بل وأصبح الرجل قدوة ونموذجا للعشرات من أدباء أفريقيا والعالم الثالث الذين احتذوا به في كتابة أعمالهم باللغة الفرنسية ! تجربة هافل تختلف .. أما الكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافل فهو مبدع عظيم وأحد كبار الكتَّاب المستنيرين في أوروبا خلال ربع القرن الأخير.. ولقد حقق انجازات هائلة لبلاده حين تولي مقاليد السلطة فيها.. لكن لاينبغي أن ننسي أن من أعانه علي انتشال مجتمعه من التخلف.. هذا الخبيرالاقتصادي العظيم فاتسلاف كلاوس الذي شغل مناصب وزير المالية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب.. قبل أن يصبح رئيسا لجمهورية التشيك عقب انتخابات 2008 .. ..وبالطبع يحسب ل"هافل أنه كان منصتا عظيما لأهل الاختصاص.. لم يكن فريسة لأخطبوط النرجسية وداء العظمة اللذين يتوحشان تحت جلد بعض المثقفين.. فيظن كل منهم أنه تحت أظافره يكمن المخزون الاستراتيجي من الحكمة الذي اختصه الله به دون غيره.. فإن حكم وكما نري في منتدياتنا الأدبية فقد يكون اكثرديكتاتورية من نيرون نفسه.. !وربما استعلاء من هتلر.. ! ولم أفاجأ خلال الندوة التي نظمها نادي القصة منذ عدة أشهر حول العلاقة بين السلطة والمثقف بكل من اعتلي المنصة يصب جام غضبه علي السلطة الغاشمة التي دائما تحاول اقصاء المثقف وتهمش دوره.. وليس في نادي القصة فقط.. بل في كل منتدياتنا وأدبياتنا حين يكون الحديث عن العلاقة بين الخندقين تدمغ السلطة بالبشاعة والعدوانية في صراعها مع المثقف.. والمثقف دائما هو الضحية.. فهل هذا هو التوصيف الدقيق للعلاقة بين الخندقين..؟ سؤال طرحته علي الحضور وكان يجاورني علي المنصة الشاعرالدكتور عبدالولي الشميري سفير اليمن في القاهرة ومندوبها الدائم لدي جامعة الدول العربية.. وكما نعرف.. كان للدبلوماسي اليمني الفضل في تأسيس منتدي المثقف العربي الذي نجح في جذب اهتمام مئات المثقفين المصريين والعرب من خلال ندواته التي كان يقيمها في باخرة السرايا بنيل الزمالك.. ولقد أنفق الدكتور عبدالولي مساحة كبيرة من كلمته في التأكيد علي أن مشواره في الحياة العامة كانت الكلمة العليا فيها للمثقف الشاعر وليس للمسئول السلطوي.. وما يقوله يصب في المجري التاريخي الذي يتدفق ويفيض بطرح أحادي وكأنها الحقيقة المطلقة.. ان المثقف دائما علي حق في صراعه مع السلطة وهو صراع أزلي انفجر مع صيحة أحدهم منذ بدء الخليقة : أنا الأب.. أو أنا الزعيم.. أو أنا القائد.. ! ليتصدي له المثقف.. سواء كان كاهنا أو شاعرا أو حكيما ! ألايمكن أن تكون السلطة مستنيرة وتسعي باخلاص الي اسعاد شعبها وتحقيق مصالحه.. الا أنها تكابد عبر حسابات محلية واقليمية وعالمية شديدة التعقيد قد تغيب حتي عن المثقف نفسه لتحقيق ما تسمح به امكانيات الدولة لتحقيق ما يصبو اليه الشعب؟!.. وقد يكون نجاح السلطة جزئيا.. مما لايرضي المثقف الحالم فيصوب مدافعه الثقيلة نحوها.. ! ما دور المثقف تحديدا؟ عبر الثورات الكبري في التاريخ كان المثقف بمثابة البستاني الذي يزرع رياحين الفكر المستنير ليستمد من عبيرها الثوار الأفكار والرؤي التي يثورون من أجلها.. وفي هذا الشأن كانت أفكار مونتسكيو وجان جاك روسو وفولتير...عن العدل و الحرية والأخوة والمساواة نبراس فرسان الثورة الفرنسية التي اشتعلت عام 1789 ومن حق المثقف أن يكون ضمير الأمة ورأس حكمتها.. لكن لا ينبغي أن يغفل وهو يمارس دوره أن ثمة حسابات سياسية واقتصادية معقدة كما نوهت قد تكون متاحة للسياسي.. وغائبة عنه.. وهذا ما يحدث في أعرق الديمقراطيات الغربية.. وتجربة هافل في دولة التشيك ما كانت تنجح الا لادراك هذا المثقف الكبير لتلك الحقيقة.. فعرف حدوده كمثقف ليتكأ علي اقتصادي عظيم لاتغيب عن ذهنه تضاريس الخرائط السياسية في اوربا والعالم هو فاتسلاف كلاوس.. فيكمل كل منهما الآخر ويتلازمان في خندق واحد.. المثقف السوري انها تجربة ينبغي أن يضعها كل مثقف أمام نصب عينيه في علاقته بالسلطة.. ان التجييش والتخندق لايكونان الا أمام سلطة فاسدة ومستبدة.. فإن كانت سلطة مستنيرة فلماذا العداء والصراع؟..حتي ان اختلفت الرؤي.. واختلاف الرؤي طبيعي لاختلاف المنطلقات.. فالسياسي أمامه خرائط يقرأها جيدا قبل أن يصدر قراره.. والمثقف لديه منطلقه اليوتوبي.. الا أنه طالما أن السلطة مستنيرة.. والمثقف علي وعي بمنطلقات السلطة فالعلاقة قد تتأرجح ما بين الاختلاف والاتفاق.. لكنها لاتنزلق الي حافة الصراع ! أمامنا الآن نموذج صارخ للعلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة.. ما يجري في سوريا.. وخلال المؤتمرالذي نظمه اتحاد كتَّاب مصر مؤخرا تحت لافتة " الثقافة وتحديات التغير " قوبل الكاتب السوري حسين جمعة بهجوم حاد من كتاب مصريين وسوريين لموقفه المؤيد للنظام.. وغير جمعة ثمة مثقففون سوريون لايخفون دعمهم لنظام بشار الأسد.. هل يرونه بالفعل نظاما تقدميا ومقاوما شرسا للمخططات الصهيونية في المنطقة؟.. هل هو الخوف من بطش النظام حتي أن التزموا الصمت فيسارعون باعلان تأييدهم له؟.. أم أنها شبكة المصالح التي تربطهم به..؟ وأيا كان الأمر فمن المحتمل أن شريحة من المثقفين قد تكون ضحية الحيرة والتردد من اتخاذ موقف مؤيد للثورة التي هي عرضة للامتطاء من قبل تيارات دينية لاتنسجم وجهاتها مع توجهاتهم العلمانية.. وهو مأزق من المحتمل أن يكون عشرات المثقفين المصريين يعانون ايضا منه.. فالغالبية العظمي من المثقفين لم يكتفوا بتأييد ثور 25 يناير بل شاركوا فيها.. الا أن مشاركتهم بدت وجدانية تنبثق عن طبيعة المثقف ككائن متمرد علي السلطة خاصة لو كانت غاشمة وقامعة..ولم يتجاوز البعض هذا الموقف الجيني ليضع ما يحدث تحت مجهر المحلل لما يجري.. وينتهي الي رأي مؤيد أو معارض لمعتصمي التحرير وما يقال عن استبدادهم او التيارات الدينية التي كان غالبية المثقفين - قبل 25 يناير- يبدون رفضهم لتوجهاتها المنغلقة او ادارة المجلس العسكري للشأن المصري خلال تلك المرحلة الانتقالية واتهامه بالتراخي وانه امتداد لنظام السابق.. ومن فعل ذلك من المثقفين فعبر مبادرات فردية تتمثل في مقال هنا أو هناك وليس عبر عمل ممنهج ومدروس وينظر اليه كتوجه قوي لعموم المثقفين ينصت اليه صانع القرار.. وأخشي القول إن ثورة يناير كشفت عن قصور في الوعي الثوري لبعض مثقفينا.. حيث اتسمت المواقف بشيء من الصبيانية البريئة.. مجرد التأييد التام أو الرفض التام.. أما الاشكاليات التي تمخضت عن الثورة فلم يلتفت اليها أحد وكأنها ثورة في زيمبابوي وليست في مصر .