«عمق الرؤية» ليس تقديرا أدبيا، بل هو علم، علم أساسه كيفية انتخاب عناصر بعينها من الواقع المحيط بنا، بحيث تكشف عما يبرر سلوكنا، وعما تحدده النظم السياسة والاجتماعية التي نجد أنفسنا سجناء أطرها، والتي نسعي - بما نملكه من قدرة علي تكبير تفاصيل الواقع- إلي «تجاوز» أوضاعنا الحالية كي نفتح لحياة من حولنا آفاقا جديدة. ولنترك العموميات جانبا، ولنر أعمال تيودوراكس عن قرب خلف أعماله، خبرات حياتية حافلة، هي التي تحدد رؤيته الفنية أولها خبرته السياسية. علامة فارقة لقد ولد في قبرص عام 1921 إذا لم تخني الذاكرة، ثم من قبرص رحل إلي الإسكندرية، ومنها إلي القاهرة وكان ذلك عام 1946 . عام 1946 في تاريخ مصر يشكل علامة أساسية من علامات طريق شعب يناضل للتحرر من الاستعمار البريطاني أو يسعي إلي استقلاله كاملا. لكن لماذا تتوقف عند عام 1946 بالذات؟ لأنه العام الذي تصاعد فيه المد الثوري بانضمام الحركة الطلابية إلي الحركة العمالية، وكلها تطالب بريطانيا «العظمي وقتذاك» بأن تفي بوعودها، فهي مثلها مثل فرنسا، قد وعدت أبناء مستعمراتها إذا اشتركوا معها في حربها ضد النازية والفاشية، ستمنحهم الاستقلال التام. لم يحدث أي شيء من هذا، لا عندنا بل في كل المستعمرات الفرنسية، خاصة في الجزائر وفي غرب أفريقيا مما أدي إلي الغليان الثوري، ثم تكوين حركات سياسية أبرزها في مصر، الحركة الوطنية للتحرير الوطني، ثم حركة العمال الفلاحين ثم مصر الفتاة، وغيرها وغيرها من حركات هي تنويع علي الحركة الأم. عروض سينمائية وسط هذه البوتقة تفتّح وعي المهاجر القبرصي، وكان أهل قبرص يشاركون الجالية اليونانية في اهتماماتها، وبينها تعاون وتضامن لا مثيل له، من يصل من المهاجرين يوجدون له عملا علي الفور، وأعمالهم كانت في المقاهي الكبري والبارات والفنادق ثم تخصص البعض في مكيانيكا السيارات، أما البعض الآخر فقد اتجه إلي العمل في كبائن دور العرض، يدير بوبينات الفيلم، وفي إحدي دور العرض وأظنها في شبرا كان يعمل كاكويانيس، لم يكن يدير آلات العرض فحسب، بل يدرس كيفية تكوين المشاهد السينمائية، وفي ذلك الوقت كانت دور العرض في القاهرةوالإسكندرية قائمة علي التخصص، بيجال للعروض الفرنسية وأوديون للعروض الإيطالية ثم ميامي موزعة بين العديد من الأفلام الأوروبية. المدرسة الأولي كان العمل وراء جهاز العرض السينمائي المدرسة الأولي التي تعلم فيها مخرجنا كيف يتكون إطار الصورة وكيف تتوزع عناصر الصورة من أسطح وحجوم وفراغات وهو ما سوف نلحظه في بناء مشاهد زوربا وسط صخور جزيرة عارية من المعمار الحديث. ثم من العمل وراء جهاز دور العرض، ينتقل إلي العمل باستديو نحاس، وهناك رأي كيف تتم عمليات الدوبلاج في صالة يدير أجهزتها، وتعرَّف أيضا علي شاب يتقد حماسا تجاه الفن السابع، لكنه يتفوق عليه من الناحية العملية، فقد كان المساعد الأول للمخرج الإيطالي الجنسية المصري: «فورنيتشو» وربما يكون فيلم «من عرق جبيني» بطولة فاتن حمامة ومحسن سرحان هو النموذج المصري لاتجاه الواقعية الجديدة الذي ولد في شوارع وحواري وأزقة المدن الإيطالية بعيدا عن آليات الاستديو. المساعد الأول من أسرة مهاجرة واسمه يوسف شاهين أجداده من بلاد الشام والقبرصي والشامي ارتبطا بصداقة دامت دوام حياتها. النضال من أجل التحرر هذا عن الفن السابع أما النضال من أجل التحرر من الاستعمار، فهو المدرسة الثانية التي تعلم فيها كاكويانيس بواعث السلوك لدي بسطاء الناس، ونزعات الطغيان عند من يملكون ومن تحرسهم كلاب حراسة النظام، وعلي مستوي العلاقات الإنسانية توطدت أواصر الصداقة بين القبرصي وبين شاب مصري يعمل في سكرتارية شئون الطلبة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول كان يعمل ويدرس ويحضر رسالة ماجستير عن «الصدفة في الطبيعة» اسمه: محمود أمين العالم وأود لو شهرت ابنته أسرعت بطبع هذه الرسالة وكذلك الرسائل المتبادلة بين مخرج زوربا وموسيقار زوربا بالمثل وأعني به: «ميكيس تيودوراكس» الحق ان ما من ناقد أوروبي أو مؤرخ سينمائي كان يعرف هذه الصفحات المتألقة في حياة كاكويانيس. اتيحت لمخرجنا فرصة إخراج أول فيلم طويل له، لا أذكر اسمه الآن، وهو حاليا في حوزة السيد بيني الملحق الثقافي للسفارة اليونانية وكذلك فيلمان آخران لم أتحمس لهما لدي مشاهدتهما في مركز الثقافة السينمائية بالقاهرة، لكن تلك الأفلام كشفت عن دور اليونانيين في تطور السينما المصرية وعلي الأخص مجال الموسيقي التصويرية، إذ قدموا لنا الموسيقار أندريه رايدر، ورايدر ربما لا يعرف الكثيرون هذا الموزع الموسيقي لألحان وأغاني محمد عبدالوهاب. دراسة الإخراج كما كان صديق كوكايانيس، الشاب يوسف شاهين يحلم بالسفر إلي هوليوود كي يدرس الإخراج السينمائي، كان كاكويانيس يحلم بالسفر إلي لندن ليدرس فن الإخراج والتمثيل المسرحي بالمدرسة الملحقة بأهم مسارح بريطانيا ألا وهو أولد فيك، وفاز بأعلي الدرجات في المجالين: الإخراج والتمثيل. اتاح له هذا النجاح ان يلتحق بالإذاعة البريطانية «BBC» في قسم ما وراء البحار وتبلورت آنذاك الفكرة التي سوف تسيطر علي كل أعماله إنها «ثنائية اللغة وثنائية الثقافة» ففي الشارع وفي البيوت يتحدث الناس لغة دارجة هيslaug في انجلترا و patois في فرنسا، بينما في الصحف لغة أخري، لغة ممتعة لكنها ليست اللغة الرصينة التي نجدها في الأعمال الأدبية خاصة الكلاسيكية من شعر ودراما ورواية. كيف نضيق وعلي نحو مستمر المدة بين لغة الصفوة ولغة الجماهير العريضة؟ يبدأ ذلك بتحويل النصوص الكلاسيكية إلي السياق المعاصر لا بتبسيطها بل بنص «المجاز» ورده إلي الصورة الحسية، فمثلا قد نكتب: «الجبل الجليل» بينما التعبير المعاصر هو: «الجبل عالي الارتفاع» وقد نكتب «العلم نور» ويقابلها بلغة معاصرة: «التنوير» كفعل قابل للتحقيق. علي هذا النحو بدأ كوكايانيس إخراج عدة نصوص من الأدب الإغريقي أهمها «الأوريستيات» وهي ثلاثية تتبع شجرة عائلة بأكملها بدءا من عاهلها اجممنون، ثم قتله علي يد زوجته كليتيمنتر، لأنه أراد أن يذبح ابنة ايفيجينيا، إذ أتاه وحي الآلهة عندما توقفت سفنه عن الحركة، ولم تعد تواتيها الرياح، بلا ضحية، لن تسهل الآلهة مسار الفن، لكن للأم منطقا آخر، منطق الأمومة الحقيقية وما ان يحدث ذلك حتي نجد الأم تسعي إلي محو ذاكرة أسرتها، فتزوجت إيجست الطاغية، فأمر بنفي الابن «أوريست» وحبس الابنة الكترا في زنزانة بالقلعة. هل يستمر ذلك طويلا؟ الوحي مرة أخري، انه يطالب بتحقيق العدالة. وتقسم الكترا علي قبر أبيها اجممنون انها لن تكف عن البكاء حتي تثأر له. وكلنا يعرف القصة لكن المهم هو أن يقبل المشاهد الحالي علي العمل الدرامي الذي كتب قبل الميلاد بعدة قرون ويراه كأنما قد كتب إليه خصيصا، اليوم، وعلي هذا المنوال أخرج للأولد فيك نحو خمسة أعمال ليوربيدس وسوفوكل، وفي عام 1953 يعود كوكايانيس إلي أثينا، ويشرع في إخراج أول فيلم طويل يستحق ان يوقع عليه، فهو يحمل ثمار كل تلك التجارب. الفيلم هو: «ستيلا» stella المحور الرئيسي هو: «هل يملك المجتمع جسم المرأة؟ هل يفرض الجيران ومن في الشوارع نوع الذي ترتديه هذه الفتاة أو تلك؟» ستيلا يونانية شابة، من أسرة متواضعة، وجدت نفسها في إتقان الغناء والرقص، وهي مهنة في نظر الأسر التقليدية تعني «احتراف الدعارة» تماما كما في صعيد مصر، ويتابع المخرج تطور سلوك ستيلا تمردها ثم ثورتها ثم إيجاد مناخ آخر يدرك معني «الفن» النابع من طوايا النفس. في 1956 يجيء فيلم «الفتاة ذات الرداء الأسود» ليلقي بنا في مناخ علي عكس مناخ ستيلا غير انه الوجه الآخر لليونان: الحياة في الجزر حيث الصيف مصدر الرزق الوحيد لسكانها. نحن في جزيرة هيدرا، ونتوقف عند أحد المصطافين. روائي شاب، مثالي ذهب إلي الجزيرة ليكتب رواية بعيدا عن ضغوط العمل وضجيج المدينة، واستأجر حجرة في شقة أسرة سواحلية، كما هو المعتاد في تلك الأجواء ولم يفطن إلي ما تكنه له ابنة صاحب الشقة من عواطف، لقد استولي الشاب علي كل مشاعرها، بينما هو ما زال سارحا في أجوائه الرومانسية، لم يصل بعد إلي النضوج العاطفي ثم فجأة تقع الأحداث التي تنقله من سماء الفن الخالص إلي أرض الواقع الصلبة، مظاهرات للمزارعين والصيادين تطالب الدولة بالتدخل إزاء سلطة أصحاب العقارات الذين ينتزعون أراضي الفلاحين ليقيموا عليها شاليهات وعمائر وقري سياحية، تمرد البسطاء يفتح وعي الشاب، فإذا به ينتقل من النقيض إلي النقيض. إلي هنا وننهي المرحلة الأولي في حياة وأعمال المخرج اليوناني الأصيل أما المرحلة الثانية فتبدأ بالأوريستيات الأفريقية لتصل إلي جزيرة أخري، حيث الفقر، وحيث ترجم العاهرات وحيث تباع الأجساد لكن أيضا حيث نجد ابن الجزيرة الأصيل وقد امتلأ حياة انه يرقص نشوانا يرقص علي موسيقي شعبية، هي الاستريكا، ويسمي: «زوربا»، زوربا اليوناني، نراه لا بعيني المخرج بل بعيني شاب انجليزي من طبقة أخري، ومن ثقافة أخري انه بازيل الذي يكتشف معني الحياة من خلال زوربا، ونكتشف معه حياة من يقيمون في بيوت صخرية فوق الجبل وتحته، ونري عجائز يهجمن علي مسكن امرأة توفيت فينتزعون كل محتويات البيت، ونري أيضاً كيف بعقولهم المحدودة يصدرون حكمهم برجم امرأة لم تتح لها الحياة سوي مصير بائعة الهوي.