يبدو أن هذه النار قد لامست روح أمل نصر فملأتها بالدفء والطاقة ونهم المعرفة والبحث عن كل ما هو نبيل وجميل، لعلها تضع لنا بعض العلامات المضيئة في الطريق.. أو تقدم لنا بعض الإجابات التي قد تقلل حيرتنا وتساعدنا علي تحديد الاتجاه وتقليل الخسائر. فهي تدافع عن حق الزهور في التفتح.. وحق الطيور في الغناء، إنها روح مستلبة تبحث عن التحرر والانطلاق عبر الألوان والظلال وكأنها إحدي جنيات ألف ليلة وليلة التي تعبر بحر الظلمات والبحور السبع في بحثها عن البوابة السحرية التي تقود إلي الخلاص.. لكنها للأسف لا تعود.. وتتوه عند جزر المغناطيس.. وتتحول إلي قصة جديدة تضاف إلي باقي القصص والحكايا التي يرويها الأطفال في حواري المحروسة، لكنها هذه المرة قصة ملونة.. مليئة بالأضواء والظلال والخطوط وضربات الفرشاة ..!! دكتور جيكل.. ومستر هايد ظلت العلاقة بين الفنان والناقد دائما علاقة جدلية، فالفن أشبه بوتر القوس الذي يجذب بين طرفين متعارضين يرغب كل منهما في التحرر من الآخر، فمنهج الفنان في ممارسة فنه وإبداعه يختلف - أحيانا إلي حد التناقض - مع منهج الناقد في ممارسة بحثه وتنظيره، فمنهج الفنان يعتمد علي الحرية المطلقة في ممارسة إبداعه دون حدود أو قيود.. وتجاوز كل ما هو ثابت في حدود الفن في سبيل الوصول إلي قيم فنية وجمالية جديدة. أما الناقد فيعتمد علي منهج عقلي منتظم ومنظم يربط المقدمات بالنتائج والشكل بالمضمون والرمز بالدلالة، فما بالك عندما يجتمع هذان الخطان - المتوازيان أحيانا.. والمتناقضان أحيانا أخري - في وعي وروح شخص واحد، كيف يمكن الجمع بين الحرية المطلقة في الإبداع وبين العقلانية التراتبية في التنظير ..!! إنها ثنائية قد تصيب من تجتمع لديه بالفصام إن لم يكن متمكنا من أدواته وفي حالة من التوافق بين عقله وروحه. إنها حالة أقرب إلي ( دكتور جيكل ومستر هايد ) تلك الرواية الشهيرة التي عالجتها السينما العالمية في أفلام متعددة والتي تصور كيف يمكن الجمع بين شخصين متناقضين داخل جسد إنسان واحد.. بين دكتور جيكل ذلك الطبيب الودود المتسامح ومستر هايد ذلك الوحش البشري المختبيء داخله، إنها ازدواجية قد تؤدي إلي انهيار صاحبها وتدفعه إلي الجنون ..!! وهنا يصبح الفن هو الطريق الوحيد - تقريبا - للنجاة حيث يترك لنا حرية التحليق والانطلاق إلي أبعاد متعددة.. ويتيح لنا جميعا آلية التنفيس عما يعتمل بداخلنا من هواجس وأحزان.. وأحيانا شرور، إنها حرية التقمص الفني.. ففي كل لوحة تكون أكثر من شخص وأكثر من شخصية ..!! إنها السبيل الوحيد للتوازن بين التناقضات وهو ما حاولت أن تفعله أمل في معرضها الأخير، حيث أخرجت كل ما بداخلها إلي سطح اللوحة في محاولة منها لإحداث هذه الحالة من الاتزان بين عقلها النقدي المنظم وروحها المبدعة المنطلقة، وأعتقد أنها قد نجحت - لو قليلا - بأن تحول هذا التناقض إلي تكامل، حيث حولته إلي خط إبداعي واحد ولكن له نبعاين .. (الفن والنقد)، إنها حالة من البحث الإبداعي في كل موجودات الكون عن قيم الحق والخير والجمال، فإذا لم تجد الإجابة في سطح اللوحة بحثت عنها في ثنايا التفسير والتحليل النقدي. لكنها في بحثها الدائم عن الإجابات لا تجد إلا العديد من الأسئلة التي تطرح بدورها مزيدا من الأسئلة.. حتي امتلأت حياتها وحياتنا بعلامات الاستفهام والأكثر منها علامات التعجب.. فاندفعت إلي الصياح والصراخ، فتحولت صرخاتها إلي ألوان وصيحاتها إلي أمواج.. توحدت مع أمواج بحر إسكندرية.. مثل فينوس التي خلقت من زبد البحر ..!! خربشات علي جدار الزمن إن سطح اللوحة الأبيض.. رغم أنه أبيض لكنه يحتوي علي كل تجارب الآخرين، ومن هنا يأتي مأزق الفنان عندما تأتي لحظة المواجهة مع السطح الأبيض، وضرورة أن يضيف شيئا جديدا ويبدع عملا مختلفا.. حيث يدخل الفنان في حالة صراع مع سطح اللوحة ومن يمعن النظر في لوحات أمل نصر سيجد أن ألوانها تتحرك بدافع وجداني داخلي مجهول.. غير قابل للتبرير أو التفسير - وهذا هو سر قوته وجماله - إنها مغامرة مع المجهول، صراع مع السطح الأبيض، حيث نتفاجأ نحن وهي بالنهايات الفنية الغير معدة مسبقا..!! إن أعمالها كأنها خربشات طفولية علي جدار الزمن، لم يتبق منها إلا خيالات وأطياف بشرية وبقايا أسماك ومحار.. وبقايا البقايا..!! وكأن الأشياء والأشكال تتدفق من داخلها رغما عنها، حيث تلاحق سطح اللوحة بخطوط وضربات سريعة متلاحقة في محاولة منها للسيطرة عليه وهزيمته فهي في حالة انتقال دائم.. وهروب دائم - رغم هدوءها الظاهر - حيث تهرب من داخلها إلي خارجها.. ومن خارجها إلي داخلها، وما بين ما هو داخلي وما هو خارجي تكون قد باحت بأسرارها إلي الموج والضوء. وتكون قد وصلت إلي حد الإنهاك.. واعتلال الروح التي أرهقها التعب والرحيل من هنا إلي هناك.. ثم إلي هناك أبعد.. وهناك أبعد وأبعد.. رحيل عبر المكان.. عبر الأفق.. لعلها تصل إلي المستحيل.. إلي الجانب الآخر من الشمس ..!!