يوسف زيدان كاتب خاض مجال السرد الروائي، حققت روايته «عزازيل» نجاحا مستحقا فحاز عنها جائزة «البوكر» مما جعل القراء تواقين لأي عمل روائي يطرحه، فيقدم لنا روايته الجديدة «النبطي». يستهل الكاتب روايته بديباجة يعنونها ب«في سند الرواية» تكريسا لرسم شجرة إسناد متسلسلة الرواة يستخدمها كوسيلة سردية ينفذ من خلالها إلي مجال سرده الروائي باستعماله أسلوب كتابي تراثي، وهو «العنعنات». تدور أحداث الرواية حول مارية الفتاة القبطية من أسرة بسيطة توفي والدها بمرض عضال وهو السل، تكدح أمها توفيرا لحد الكفاف لابنتها «مارية» وشقيقها «بنيامين» ،تجاوزت «مارية» حاجز الثامنة عشرة دون زواج، الأمر الذي ينذر بعنوستها حيث تتزوج الفتيات صغارا، ثم ما يلبث ان يتقدم لخطبتها خطيب عربي مسيحي هو «سلامة» الذي يكبرها سنا وعادي الهيئة مع اصابته بحول خفيف، إلا انه ميسور الحال لعمله في التجارة، حضر «سلامة» بصحبة أخويه «الهودي» الذي يكبره بخمسة عشر عاماً وهو علي دين اليهود رغم رفضهم الاعتراف الكامل به لعدم نقاء أصله، فأمه أممية وكان مع «سلامة» أيضا أخوه الأصغر النبطي المقتر في كلامه والأجمل في المنظر والذي لفت انتباه «مارية» ورغم ان الخاطبين قد أمهلوا «مارية» وأهلها شهرا استعدادا لإتمام الزواج إلا أنهم يعودون علي عجل بعد مضي عشرة أيام لنشوء اضطرابات تنذر بحرب محتملة بين الفرس والروم، فيقيمون مراسم الإكليل بعد تساهل الكاهن وموافقته علي إقامة الزيجة في الصوم متجاوزا بذلك حدود الشريعة لضرورة الظروف الطارئة، ترحل «مارية» مع زوجها في رحلة شاقة تطوي خلالها الصحاري والجبال، كما تعرج علي دير للراهبات في سيناء، الأمر الذي أصابها بإعياء بالغ وبالتهابات جلدية حتي تصل إلي ديار زوجها شمال غرب جزيرة العرب، فتلتقي بعائلة زوجها حيث أمه المدعوة «بأم البنين» لإنجابها البنين، فالعرب يحتفون بإنجاب الذكور ولا يحتسبون الإناث، كما يجوز لديهم تعدد الزوجات إلا أنهم يحترمون زوجاتهم ولا يضربونهن، كما يسمحون لهن بالمتاجرة. تمضي «مارية» سنين في كنف رعاية «أم البنين» التي تموت بعد سنين فتحزن «مارية» عليها، كما تنشأ صداقة حميمة بين «مارية» و«ليلي» أخت زوجها «سلامة» الملقب ب«سلومة الأبخر» أي ذي فم كريه الرائحة، لم تنجب «مارية» من زوجها، أخبرتها «ليلي» بانه عقيم لم ينجب من زوجتيه السابقتين، تتابع مارية النبطي في تهويماته، حيث كانت تفتتن بكلامه إذا كان يخبرهم بانه يتلقي وحيا سماويا، تمضي السنون ويدخل سلومة في الإسلام وتتبعه مارية، تتوطد علاقة سلومة بأمير الحرب، «عمرو بن العاص» الذي يستعين بخبرات سلومة ومارية عن مصر تأهبا لفتحها، يستعد سلومة وأخوه مالك «صريع العواتك» للارتحال إلي مصر مع جماعات من اليهود لتهيئة أهلها لاستقبال الفتح الإسلامي، فيتشبث النبطي بالبقاء وحيدا وعدم الارتحال مع أهله مع تفكير مارية في العودة إليه والعيش معه. التوالد السردي يطل علينا من شرفة الحكي راوية أنثي الخالة مارية من خلال ضمير المتكلم فتكون الراوية شريكا رئيسياً في خط الأحداث، فتتبوأ الراوية مقعد «الراوي العليم» الذي يمتلك رؤية من الخلف، يأخذ السرد مسارا تصاعديا في سرد الأحداث مع القيام باسترجاعات سردية، تشكل تفريعات عديدة تخرج عن مسار الحكاية الرئيسي، عبر مستويين أولهما رأسي بالارتداد إلي تاريخ الشخصيات، والآخر أفقي بالتقديم لشخصيات جديدة، وتسير الراوية علي إيقاع روائي يبدو متفاوت السرعات فالباب الأول من الرواية «الحيوة الأولي» يحكي أحداثا وقعت في أحد عشر يوما في متن مائة وواحد وثلاثين صفحة مما يجعلنا إزاء إيقاع روائي متمهل ربما يعكس حالة احتشاد الراوية وتأملها الدقيق في لحظة مفصلية فارقة في حياتها، حيث كان يتهددها خطر العنوسة فتنتقل إلي حياة الزوجية، غير ان الراوية تقوم بالكثير من عمليات الاسترجاع والارتدادات «flash Back» مع التقديم المتوسع لعديد من شخوص الرواية بما يشكل نتوءات سردية، وهذا هو حال الباب الثاني من الرواية إذ يصف في استغراق مسهب رحلة مارية مع زوجها عبر الصحاري وصولا إلي بيت الزوجية، أما باب الرواية الثالث «الحيوة الثالثة» والذي يطوي أحداثا وقعت فيما يناهز عشر سنوات مما يجلي إيقاعا روائياً يبدو متسارعاً، والكاتب في صياغة إيقاعه الروائي ينوع في تقنياته إلا انه يكثر من تقنيتي المشهد حيث يتعادل فيه زمان الحكاية وهو الزمن الخارجي مع زمن القص، كذلك يكثر من تقنية التباطؤ باستغراقاته في وصف خواطر الشخوص النفسية استجلاء لدواخلها، مع بروز تقنية الاختصار في الباب الثالث، حيث تختزل كثير من الأحداث المتعاقبة في سطور قليلة، كذلك يعمد الكاتب لاستخدام تقنية تيار الوعي في تشييد البناء النفسي لروايته حيث تصدر لنا فقرات استغراق متمادية في حوار داخلي «مونولوج» مما قد يمثل دفقات شعورية ممتدة ناجمة عن شحنات انفعالية مكبوتة بدواخل الرواية، كما يعمد الكاتب إلي جلاء طبقات اللاشعور لشخوص روايته باستخدام تقنية الحلم كما تحكي الراوية «في ص 102»: «رأيت أني أطير من غير أجنحة أطير، وأفرح تؤرجحني في الفراغ نسمات رحيمة، فأسبح في هواء لا يشبه الهواء تحملني الأحلام الحنون من فوق الكفر، إلي سماء البرابي المجاورة، وبراب أخري ما رأيتها من قبل «إن حلما كهذا يجسد رغبة دفينة في مكنون لا وعي الرواية بالانطلاق المحلق والتحرر تجاوزا لعوالمها المحدودة نشدانا لبلوغ عوالم جديدة ، ثم تروي في حلم آخر «رأيتني شمعة تتوهج كلها، أنا الشمعة وضوؤها الدوار/ ورأيتني عصفورا يطير ويرف/ بأجنحة لها لون الدنانير .../ ورأيتي سحابة في السماء، تمر.. فتحرك حولنا الحب والهواء، تمر/ فتسقي المشتاقين وتؤنس الغرباء، تمر/ ورأيت وجها يكلمني بلغة لا أعرفها/ ورأيت فراشات تطير/ وبحرا لا سفنية فيه، ولا تحوطه من الجانبين جبال/ ورأيت أسماكا تحلق في خيال/ وطيورا تعوم، وملائكة تعيش بين أشجار «فتصوغ الذات الراوية بلغة شعرية عذبة حلما بأنها شمعة متوهجة أي أنها مركز إشعاع نوراني، كما تحلم بأنها عصفور منطلق بلا أجنحة تثقلها، وبالتمدد كسحابة في السماء تسقي المشتاقين وبأنها سفينة تنتقل بحرا بلا حدود جبلية، ان الذات الراوية تحلم بعالم بلا فواصل وبلا حدود، عالم متمازج الأطراف، كذلك يعني السرد برسم طبوغرافية الأماكن متناولا كل تفاصيلها الدقيقة، وكذلك يعني الكاتب برصد نثريات دقيقة كمشاهد الطيور المتحركة والألوان والروائح ، كما يعمد إلي إحداث تقاطع بين أحداث الرواية والتاريخ كصراع الفرس والروم وبزوغ شمس الإسلام وقيام الفتوحات الإسلامية، فإن التماس بين أحداث الرواية والتاريخ يضفي عليها مسحة من الواقعية، إلا أن عناية الكاتب برصد تلك النثريات الدقيقة قد طغي وجار علي حساب بنية السرد الدرامي، كذلك فإن الخطاب الروائي المكون من سرد أي وصف وحوار يطغي فيه السرد علي حساب الحوار، فقد انتقيت فصلا كعينة عشوائية ذات دلالة إحصائية، وهو فصل «باخوم» من «ص38: 51» فوجدنا ان السرد يشكل فيه 305 جمل من 322 بما يمثل نسبة تناهز 95% من مساحة الخطاب الروائي، كذلك يأتي الشطر الأعظم من السرد ليصف أرضية المشهد أو تاريخ إحدي شخصياته مما قلص من نسبة الوصف لأحداث درامية، فكان له تأثير بالغ علي أحداث الرواية ودراميتها، فأتت بنية الرواية مشتجرة أشبه بشجر الصفصاف كثير التفرعات دون صلابتها، حيث أثرت التفريعات السردية والإسهاب في وصف التفاصيل النثرية الفرعية علي تماسك النسيج الروائي، كذلك تجلي الذات الراوية تصورا لعالم سحري ميتافيزيقي تحكمه قوي غيبية، فتصدر الذات الراوية عقائد ميثيولوجية عن تناسخ الأرواح بأن روح الذكر تسكن بعد مواته روح أنثي والعكس وأن أرواح الأشرار تسكن بعد الرحيل حيوانات. ويتبدي لنا انه من المفارقة المجافية لمنطق بنية الشخوص هو احتفاظ وعي الراوية بتمايزات عقائدية وهو أمر لا يتناغم مع كونها فتاة بسيطة لم تصب من التعليم شيئاً. ورغم عناية الكاتب بجلاء أبعاد نفسية لشخوص روايته، إلا انه أحيانا ما يحدث ذلك تناقضا غير مبرر منطقيا، فسلومة زوج مارية المتيم حبا بها وإخلاصا لها! تقول راويتنا عنه «اعتدل في جلسته وقال مخاطبا اخته والحاضرون كلهم ينظرون: اسمعي يا صفا، قد أخبرني حاطب بن أبي بلتعة، ان النبي محمدا قال: «يزوج المؤمن في الجنة اثنتين وسبعين زوجة من نساء الجنة واثنتين من نساء الدنيا»: .. وأنا يا أختاه لا اشتهي من نساء الدنيا ولا الآخرة، إلا امرأتي هذه. ثم فجأة ينقلب سلومة بلا مبرر علي غير ما بدا منه علي امتداد مسار السرد، فيبدي رغبته في الزواج باثنتين علي مارية بل ويعاملها بغلظة، الأمر الذي يجلي تناقضا غير مبرر نفسيا ولا منطقياً، وفي إطار سعي الكاتب إلي رسم ملامح فارقة لشخوص وطوائف روايته، تقول الراوية: «رجال اليهود هادئون، وتحوطهم دوما سحابة من بؤس، وهم عادة عابسون حين يمشون، يتلفتون حولهم كأنهم خائفون». فثمة ربط بين اعتناق عقائدي وبين التطبع بحالة نفسية ما وانتهاج سلوكيات معينة، فيبدو لنا تعميما ووثبا إلي نتائج ربما يكون من المبالغة الانتهاء إليها، فليس بالضرورة ان يكون كل رجال اليهود عابسين، خائفين، ان هذا الوصف التعميمي لهو مجاف لمنطق التمايز البشري ولمبادئ الاختلاف والفروق الفردية. بكارة الصورة وعناية الكاتب بالموسيقي يرسم الكاتب صور روايته ممتدة حافلة بالتفاصيل الدقيقة، كما يرسم صورا جزئية من تشبيهات وغيرها تأتي متشحة بعناصر البيئة التي تدور فيها أحداث الرواية، كما تورد الراوية تصوير الاضطراب خواطرها فتقول: «رأسي يدور كحجر الرحي الطاحن.. وفي رأسي تجوس خواطر حارة غامضة رهيفة الأطراف كحواف الصوان المكسور». ويبدو ان الراوية تشكل صورها من عناصر بيئتها المحيطة بها، كما تأتي بعض الصور عاكسة لأحوال نفسية، كتشبيه أهل الكفر المترقبين حربا ضارية بين الفرس والروم «دخل الناس إلي بيوتتهم وكأنها قبورهم»، كذلك يعني الكاتب بموسيقي جمله بما يورده من حلي موسيقية وهو ما يجدر بروايته التي خالطت العرب أهل الفصاحة والتنميق اللغوي لسنوات، ومن الحلي التنغيمية الواردة بشكل ملحوظ عبر الرواية يأتي الجناس الذي يتخطي حد كونه وسيلة تنغيم موسيقي بما يوجده من تماثل أو تقارب لفظي، بل يتخطي ذلك إلي جلاء ما بين المتجانسات من تماثل أو تقارب معنوي أو ربما تخالف في المعني، كما تروي الراوية عن بسنتي الذي يراودها ملحا في منحها هدية «فأصر بأن صر حاجبيه»، فيلفت الجناس الانتباه لعلاقة قائمة بين الاصرار وهو معطي نفسي داخلي وبين صر الحاجبين وهو مجلي ظاهري خارجي لهذا الإصرار، وفي موضع آخر تقول الراوية «أجواء العزاء تصقل الحزن وتثقل الأنفاس» فيجلي الجناس بين «تصقل» و«تثقل» فعل أجواء العزاء علي المستوي السيكولوجي من صقل الحزن يتوازي معه أثر بيولوجي وهو ثقل الأنفاس، وفي جناس آخر «في الأسفار حسبما تقول ليلي:« إسفار وإظهار» فيجلي الجناس ما بين «الأسفار وإسفار» من علاقة سببية فالأسفار تؤدي إلي إسفار، بينما في موضع آخر للجناس يقول أحد القساوسة عن إحدي الكنائس «كنيسة الباطل» : ما فائدة الناقوس مع مخالفة الناموس، العقيدة أهم من الكنيسة، ومن الأجراس والشموع» فالجناس بالتقارب الصوتي بين «الناقوس» و«الناموس» يعكس مفارقة تجلي انفصاما وتناقضا بين الشكل في استيفاء الكنيسة لمواصفاتها المادية والبنائية وبين الجوهر في مخالفة تلك الكنيسة لأصول العقيدة، كذلك يعمد السرد إلي إيجاد تماثل إيقاعي بين بعض الجمل ارتكازا علي تماثل تركيبي، كما يتبدي ذلك في قول الراوية: «الشمس حنون حين تطلع قاسية حين تسطع، حزينة حين تغيب»، فرغم تماثل الإيقاع لتماثل التركيب من حيث المستوي الأفقي الشكلي، إلا أنه علي المستوي الرأسي للمعني يعكس تمايزا وتحولا لأحوال الشمس.