تحكي لنا بعض الجمادات الكثير من تاريخنا المعلوم وتاريخنا السُفلي المسكوت عنه، وللعمارة ألسنة من حجارة تحتاج لمن يجليها فتُظهر ما جُهِِل من تاريخنا وأحداثه وغرائبه وطرائفه و مجهولِه! في العام 1993م بدأ الشروع في ترميم مسجد أثري بإشراف هيئة الآثار المصرية، يدعي جامع "المتولي" بمدينة "المحلة الكبري"، يرجع للعصر المملوكي ومؤرخ 813ه/1410م . و"المتولي" اسم وظيفة، وفي حالتنا هنا قد تولي وظيفة لشاهد الإثبات والنفي علي مايتعلق بديوان المُفرد المختص بالإنفاق علي مماليك السلطان، لذا فكان يجب أن يكون اسمه "مسجد متولي المٌفرد". نُسيت الوظيفة وظل الاسم الأول فقط "المتولي"، وعلي عادة شعوبنا بعد تتالي القرون أصبح يدعي بمسجد سيدي المتولي! فنادراً ما يكون المتولي اسماً، وغالبا ما يكون وظيفة، لكنه دوما ما يكون "سيدي" في المعتقد الشعبي! اكتشاف في أواخر السبعينات من القرن العشرين، لاحظ أحد رجال الآثار وجود لافتة خشبية فوق الباب الرئيسي للمسجد المذكور عليها عبارة"معهد المتولي الديني"، وهو معهد ملحق بالمسجد، وبإزاحة تلك اللافتة تمت مشاهدة لوحة رخامية متوارية خلفها مثبتة فوق الباب الرئيسي مباشرة، تحمل أبياتا شعرية لنص تأسيسي يشيد بالمشرف علي تجديد المسجد "شرمي بك"، وفي عملية ترميم تمت عام 1275ه /1858م، حينها كشفت اللوحة عن جانب تاريخي حديث بعض الشيء! مرت السنون ونُسي أمر تلك اللوحة، ثم استبدلت اللافتة الخشبية بأخري مضيئة من النيون في الثمانينات (تماشيا مع ذوق سياسة الانفتاح) أخذت مكانها في تغطية اللوحة الرخامية التاريخية، وكأن هناك أقداراً تصر علي إخفاء الأثر التاريخي خلف تلك اللافتات، ومع البدء في ترميم المسجد تم تفكيك اللوحة الرخامية من فوق الباب الرئيسي لتنظيفها والتعامل معها بما تحتاج من ترميم دقيق. فوجه اللوحة وهو الذي بدا لرجل الآثار في السبعينيات، وهو العالم الجليل "حسن المنسوب"، واضع قاعدة المعلومات، والتوثيق الأثري، والتاريخي لآثار محافظات الدلتا الإسلامية والقبطية، ليس بمفاجأة له، بينما بدت الإثارة فيما يتعلق بظهر اللوحة الرخامية إذ اتضح بعد فكها وتنظيفها مما علق بها من وسائل اللصق ومواد البناء أن ظهرها يحتوي كتابة أيضا غاية في الأهمية,، تشتمل علي مرسوم صادر من السلطان المملوكي «أبي سعيد جقمق»، حكم مصر بين (842/857ه - 1438/1453م) يفيد بإبطال البغاء، والموبقات التي كانت حاضرة بمدينة المحلة في عصره وأشياء أخري، وهذا النص أقدم من النص السابق بأكثر من أربعة قرون، مما يعني أن هذا هو وجه اللوحة في الأصل وليس ظهرها. نص المرسوم كتب بخط النسخ المملوكي في اثني عشر سطرا يصعب قراءتها إلا من قبل المختصين، لتآكل بعض حروف النص بفعل الزمن، وقدم أسلوب الكتابة وطبيعة الكلمات، وإن كانت لم تؤثر في السياق الكلي لمضمونه، وردت كالتالي: المرسوم الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات لما تفضل الله علي المسلمين بأيام السلطان الملك «جقمق أبي سعيد» أجر الله سعده علي أجمل العوايد وقطع بعزمه أيدي المفاسد رسم بإبطال مافي المحلة الكبري من الفواحش التي توالت تترا وهي ضمان القطن (..) الذي أخذ به ضامن محلة البرج عليها وعلي البلاد المجاورة وخزيت الحسنة المأخوذة0 (..) من الصعاليك والمتسببين وما يستأديه الكشاف والولاة من المحرمات ال (..) المزر واللبن والحشيش وبنات الخطا والمسجونين فتضاعفت بذلك الأدعية بدوام أيامه العادلة الطاهرة (..) الله (..) ومعينه وناصره ومن سعي في إعادة ذلك كان عليه لعنة الله والملائك (..) وصلّ الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وذلك في شهر شعبان سنة اثني وأربعين وثمانمائة من الهجرة النبوية والحمد لله وحده. تحليل المرسوم المرسوم الفائت يلاحقنا بمعلومات مهمة، ففي السطور الثلاثة الأولي دعاء متبع للحاكم ودعاية واضحة للسلطان جقمق الذي تولي السلطنة المصرية قبل صدور المرسوم بخمسة أشهر، فالمرسوم صدر في شعبان سنة 842ه، بينما هو قد تولي حكم مصر في 19ربيع أول سنة 842ه . وهو مايعني أنه بدأ حكمه بقرارات تعضد مكانته وجماهيريته بحرصه علي إبطال المفاسد التي سادت منطقة ملتهبة اقتصاديا واجتماعيا كالمحلة الكبري من ناحية ومن ناحية أخري فرض لقوة نظامه الجديد في الحكم ببسط نفوذ دولته علي مناطق التوتر الاجتماعي وشيوع الجريمة. في السطر الرابع يشير لأمره بإبطال الفواحش التي توالت (تِترا) بمعني التوالي واحداً تلو الآخر، وهي كلمة ربما أراد بها الإشارة إلي عهود سابقة اتخذت فيها الفواحش شكلا اعترافيا من الدولة والمجتمع في صورة بغاء رسمي أو شبه رسمي، في هذه البقعة وربما في بقاع أخري بمصر، وهو ما تشير إليه السطور الأربعة التالية بأنه كان هناك (ضامن) يتولي دفع ضريبة للدولة تفرض علي الحانات ومواضع اللهو يحصلها الضامن من أصحاب تلك المهن. كذلك أمر السلطان بإسقاط الضريبة المفروضة علي الصعاليك. و(المتسببين) التي وردت في السطر السادس وهي كلمة غائمة المعني تشير لأولاء الذين يقومون بأعمال متقطعة. وكذا أبطل السلطان مواضع اللهو المتمثلة في "المزر واللبن والحشيش" الواردة بالسطر السابع، والحشيش معروف حتي الآن، أما (المُزر) فهو نوع من النبيذ شاع استخدامه بمصر قديما ينتج من الشعير أو الحنطة أو الذرة، وأما اللبن فهو لبن مخمر (مِزاج شعبي قديم)! في السطر الثامن يأتي إبطال عمل (بنات الخطا) وهو تعبير مهذب يشير إلي البغايا والساقطات، بالإضافة للمسجونين الذين ذكروا ضمن من أسقطت عنهم الضريبة وشملتهم رعاية السلطان الجديد لفتح صفحة جديدة معهم ودفعهم نحو منحي جديد للحياة، أو اتقاءً لشر تمردهم وشغبهم، من نهاية السطر الثامن تظهر الأدعية المستقبلية مرة أخري، التي تشير لدعاء الشعب للسلطان بدوام أيامه العادلة الطاهرة والتي لم تكن قد تجاوزت مائة وخمسين يوما بعد! وكذلك تعضيد الله لحكمه، في طقس كهنوتي غير منقطع منذ قدماء المصريين وحتي يومنا هذا، يبارك الحاكم بسند الإله، ويظهر بوضوح عمل الجهاز الإعلامي للسلطان في التمكين له.ثم تستكمل اللوحة من نهاية السطر التاسع بأن من سعي في إعادة ذلك (السوء) مرة أخري فعليه لعنة الله والملائكة، ثم تأتي في نهاية السطر العاشر وحتي نهاية النص صيغة الصلاة علي الرسول وتاريخ الصدور "شعبان 842ه". كانت هذه الإشارة هي بداية عهد السلطان جقمق بالسلطة، تلاها كما يذكر ابن إياس الحنفي (ولد852ه) في "بدائع الزهور" ضمن حوادث سنة 842ه: أن الظاهر جقمق كان يكره مماليك السلطان الأشرف برسباي وهو الحاكم قبل السابق لعهده مما جعله يقتل أغلب مماليكه الأشرفية ونفي الباقين وصادر أملاكهم.. إذن فلغة التقوي والسطوة كانتا وجهي عهد السلطان الجديد، لكن هل كانت سابقة في التاريخ؟! يذكر ابن إياس أيضا، أن سبقه إلي عمل مشابه السلطان الظاهر بيبرس البندقداري في سنة 665ه/ 1266م، حيث أبطل ضمان الحشيش وكسر الحانات وسكب الخمر ومعاقبة المخالفين بعقوبات مغلظة في مصر والشام. وهذا يعني أن المرسوم "الجقمقي" قد أتي بعد القرارات "البيبرسية" بقرابة قرنين لينهي ما نهي عنه سلفا، ولكن الحياة تأبي إلا أن تفرض طبيعتها! فبعد مرور360 عاما أخري من المرسوم المثير، ومع حملة نابليون علي مصر 1798م ترك لنا علماء الحملة في موسوعة "وصف مصر" وصفا آخر مثيراً للحياة السرية للمحلة الكبري إذ جاء بالجزء الثالث:".. والمحلة الكبري هي ملتقي كل بغايا الدلتا بل وملجأ لكل اللاتي يتخوفن علي أنفسهن، في أماكن أخري بما فيها القاهرة، من ملاحقة الشرطة لهن. وهن يرتعن هناك في حرية مطلقة ومن هناك تدير زعيمتهن رحلاتهن إلي المناطق المجاورة، وتجذب الأسواق وموالد الأولياء علي الدوام عدداً كبيرا منهن، وقد حدث أكثر من مرة أثناء جولاتنا بالمدينة أن شاهدنا بعض هؤلاء الفتيات يهرولن أمام فرق جنودنا ويشوشن بنغمات الدفوف والصاجات التي يحملنها علي موسيقانا العسكرية، كما كن يلجأن لكل فنون التأنق لإغراء جنودنا كما كن ينصبن خيامهن وسط مخيماتنا"، وتحولت المدينة الصغيرة حينها إلي مقر يجمع البغايا والمطاردات، ولم ينته السوء. كما أرادت السياسة بمرسومي جقمق وبيبرس، فالفضائل لا تُرتغب بقرارات عليا، وحال المهمشين والطبقات الدنيا لم يتحسن بعد، وقد نُسي المرسوم وأمره، ثم جاء بعده من طمس عمل من أخفاه، والأبيات التي تشيد به، ووضع لافتة خشبية متواضعة فوقها تواري اللوحة بالكامل ثم جاءت أخري من النيون تواري كل هذه التراجيديات بكل ما تعنيه، وظل السؤال يطارد رجل الآثار الحائر، لماذا قام المرمم بدفن المرسوم السلطاني في الجدار؟! يغلب الظن أن مداراة المرسوم بدفنه فوق الباب، هو من قبيل مداراة ما يخجل أهل المدينة من سواقط تاريخها، ولاستنكافهم مضمونه أخلاقيا، مما جعل المرمم القديم يدفن المرسوم بكامل قصته في جدران المسجد حتي تعمل الأيام عملها في نسيان قديمها والتباهي بحديثها، ويصر المسجد أن يقوم بدوره في ستر ومحو الذنوب! ولكن أبت الأيام وجهود بعض الباحثين المخلصين، إلا أن تكشف عن جانب خفي من التاريخ، حيث كان لفعلة إخفاء المرسوم سببا في حفظه رغم إرادة فاعلها! أما اللوحة فقد عادت لمكانها الطبيعي كشاهد، حيث أعدت للعرض علي جانب من صحن المسجد تسمح برؤية وجهيها من كلتا الجهتين، لكي لا يُحرم التاريخ شواهده! وقد بدأ الترميم بمحاولة لإعادة بنيان المسجد إلي سابق عهده، وانتهي بحصولنا علي معلومات جديدة ورؤية لجانب مجهول من تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي. وإذا كانت الأقدار قد حمت هذا النص الثمين من الضياع، فلدينا الكثير من الشواهد الأثرية الأخري علي المنابر والرخام بالأقاليم، قد تضيف للتاريخ جديدا، تناشد المسئولين إنقاذها وحمايتها بقانون حماية الآثار قبل أن يطالها التلف والسرقة أو سوء المعالجة، ومازالت تقاوم الفناء حتي الآن.