ليس لفوزه بلقب أحسن روائي وكاتب للعام المنصرم، وليس لتكريمه من اتحاد الكتاب الجزائري في نفس العام، ولكن لخصوصيته الشديدة كمفكر وأديب وتميزه اللافت ككاتب ومبدع كان هذا المقال.. إن واسيني الأعرج يدرك تماما أن الأفكار وحدها مع لزوميتها وحتمية وجودها لا تصنع روائيا فريدا أو أديبا مبدعا، وكذلك أن اللغة وحدها بتوفر المقدرة علي إعادة تشكيلها وترتيب مفرداتها وصياغة عباراتها لا تفعل نفس الشيء.. إنه يعي حقا ضرورة اجتماعهما معا في العمل الإبداعي، كجناحي «الطائر» اللذين لا يمكن له الطيران والتحليق بدونهما، فالأفكار أو المضامين تمثل العمود الفقري للنص واللغة بتشكيلاتها المجازية القادرة علي تفجير الإحساس بالجمال ولذة التأثير الشعوري والوجداني تشكل روحه وأنفاسه. في روايته «أنثي السراب» الصادرة عام 2009 عن مطبوعات مجلة دبي الثقافية العدد 29 يتناول باختصار علاقة عاطفية شديدة الخصوصية بين بطل النص وهو الكاتب نفسه وامرأة من قرائه تدعي ليلي ورغم فورة الحب الذي جمع بينهما وقوة الشعور أو الاجتياح العاطفي الذي ضمهما ووحدهما في رحابه روحيا وجسديا، إلا أن تلك العلاقة لم يكتب لها الاستمرار في الواقع، لرفض البطل أو الكاتب وضعها في إطارها المعتاد بالزواج واختياره لتخليدها في إحدي رواياته، وكذلك لزواج البطلة أو العاشقة بآخر بعدها.. ولكن هذا الحب الذي جمع بينهما يوما ما يظل حيا متوقدا في قلب ليلي علي الدوام حتي بعد زواجها وإنجابها من ذلك الآخر رياض، فلا تستطيع منه فكاكا أو تحررا، وبقدر ما كانت تسعد بتوقده واستمرار اشتعال نيرانه في فؤادها، وتحسبه الشيء الوحيد الصادق والحقيقي في حياتها ووجودها، بقدر ما كانت تحس بالمعاناة والتألم تجاهه، ذلك أن الكاتب أو البطل جعل منها نسخة من بطلة روايته مريم ألبسها وجهها وقسماتها وملامحها، خلع عليها طباعها وسماتها وشخصيتها، فأحست ليلي بالهوان لضياع شخصيتها الحقيقية في تلك الشخصية المتخيلة.. ولذلك فهي تقرر الانتقام منها ومنه.. ولكن في إطار حبها الجارف له، وشوقها العارم للقائه. يستخدم واسيني في روايته أسلوبا غير تقليدي، يجمع فيه ما بين السرد الذاتي والوصف الآني، والاسترجاع، واستحضار الرسائل الشخصية والخاصة بين البطل والبطلة.. معبرا في كل هذه الأشكال أو الأساليب بلغة شديدة الخصوصية، لغة دسمة زاخرة لا أبالغ حقا إذا قلت إن كل فقرة من فقراتها طالت أو قصرت. تستحق الوقوف أمامها طويلا طويلا، لاستخراج ما بها من لآلئ أو كنوز فكرية كانت أو جمالية وإن كان هذا الأمر يسبب كما سنري، مشكلة كبيرة للكاتب نفسه علي مستوي تلقي أعماله، إذا كانت علي نفس مستوي السرد في هذه الرواية محل الدراسة بالنسبة لجمهور قرائه. ففي هذا الجزء من الرواية بعنوان «من سين إلي ليلي» من الفصل الأول «حنين الرماد» نقرأ هذه الفقرة: «.. ما الذي يقتل العلاقة غير الألفة والتكرار والدخول إلي الوظائفية والواجب؟ الحب كلما دخل في الوظائفية تحول إلي زواج مقنع، أشتهي لو كنت أسن القوانين، أن أغير نظام هذه الكذبة التي نعوم فيها جميعا، أن أقبل بالحل الوسط، ما دام الزواج مجرد عقد، ليتفق الاثنان: المرأة والرجل معا علي احترام الرباط الذي سيصبح مقدسا، ولكن شرط احترام كل البنود، وربما كان أهمها حرية تحديد مدة الزواج، خمس سنوات مثلا؟ عشر؟ أو حتي خمس عشرة سنة؟ وليوضع في خاتمة العقد جملة مكتوبة بشكل نافر ومميز، عقد قابل للتجديد في حالة واحدة: تراخي الطرفين، بهذه الطريقة يستعيد الحب ألقه، إذ لا يمكنه أن ينشأ خارج الإحساس العميق بالحرية والصدق، غياب الحرية في أية علاقة هو قتل لها ص36. هنا يطرح واسيني فكرة في غاية الأهمية والطرافة في ذات الوقت وهي عن الزواج أو تحديدا عقد الزواج المعتاد الذي يربط بين كل رجل وامرأة في وطننا العربي، وقد يكون في العالم كله.. إنه يتهم هذا العقد بسحق الحب أو وأد العلاقة العاطفية وتدميرها حيث لا ينص علي تحديد مدة الزواج وقبولها للتجديد في حالة تراضي الطرفين.. إنه يري في ذلك انتقاصا صارخا من حرية العلاقة المقدسة بين الرجل والمرأة، وقتلا متعمدا للارتباط الشعوري والوجداني بينهما. من هذا الجزء بعنوان «عمري عشرون سنة» من نفس الفصل نقرأ هذه الفقرة: «فجأة تتدفق مدينتنا في كفي كالمياه العذبة، تغرق في الأسئلة الجميلة، ماذا لو كنت هنا، حيث شهوة القلب؟ ماذا كانت ستعني لك وهران؟ مدينة الملائكة والقتلة والهاربين من محاكم التفتيش المقدس، والمحتالين والعلماء الهاربين من سلطان الحكام المرضي؟ هل أجدادي هم من بناها، أم مضطهدو أجدادي؟ من شيد إذن علي أعلي قممها سانتاكروث ليقنعني بأن تاريخا مر من هنا ومحا عذرية المدينة أعرف الآن فقط لماذا حبي لهذه المدينة هو بقدر نفوري منها.. بعد كل هذا لا وجه في المدينة إلا وجهك أنت وهران أنت سانتا كروث أنت المدينةالجديدة، أنت الكوريدا أنت مقام سيدي الهواري الطيب ابتدءًا من هذه اللحظة سأكون كاذبا إن ناديتك أختي ص43. هنا نري كيف استطاعت اللغة التعبيرية أن تكسر المألوف، وتحول الأشياء تحويلا هائلا، لقد حولت المدينة بكل مبانيها ودروبها وصخورها وأعمدتها وجبالها إلي مجرد عجينة طرية أو قطعة «صلصال» يشكلها الكاتب كيف يشاء لكي يعبر من خلالها عن لحظة فارقة في حياته، عن تحول وجداني أو نفسي أصابه وألم به. من هذا الجزء بعنوان «أية فجيعة كنت وراءها أيها المجنون؟» من رسالة في النص بعنوان «من مريم إلي سين» نقرأ هذه الفقرة: «أيها الطفل كم تحتاج من الجنون لتتفرد عن بقية الخلق، وتدرك أن حبك صار لا يطاق؟ وأني لا أحتاج إلي فقهاء المدينة، ولكن إليك أنت وحدك لليلة واحدة، الحب الجميل هو الذي نشتاق إليه دوما، المخاطرة فيه صعبة، ولكن علينا أن نعيشه لندرك الشطط الحقيقي للمتعة» ص76، هنا نلمس بالفعل هندسة اللغة التعبيرية للكاتب، حين بدأ العبارة بالاستفهام ثم النفي ثم التقديم والإلغاء، ثم الإخبار أو الجملة الخبرية، وانتهاءً بالتثبيت، لإدراك أن الحب الحقيقي هو قمة الاكتشاف والوصول والتحقق، ومن ثم الإحساس الفعلي بالمتعة والانتشاء. من نفس الجزء نقرأ هذه الفقرة: «حبيبي الغالي. لا تكثر الدق، فأنت تتعب يديك، كل الأبواب موصدة، بي الان رغبة عارمة لغلق كل ما تبقي من نوافذي ومنافذي الصغيرة والنوم داخل سكينة بلا نهاية مثل ازميرالدا التي هرب من يديها حبها الجميل، وعندما أستفيق تكون ذاكرتي مساحة من الضوء قد خلت من كل ظلام غبار السنوات الهاربة التي انسحبت داخل كذبة عالية وعظيمة اسمها الحياة» ص81. هنا تبرز فكرة زيف الحياة والدنيا والواقع المعاش، ونفي البقاء أو الخلود عن كل شيء عدا الحب.. الحب هو الصدق الوحيد والحقيقة المؤكدة في هذا الواقع الخالي من أي صدق أو تحقق.. كذلك فكرة الحب نفسه، فالحب هنا رمز لكل أنواع وأشكال الحب الممكن.. الحب للمعني للقيمة للمرأة للوطن للمبدأ لكل شيء سام ونبيل.. وهنا يكمن سر الوجود. من نفس الجزء كذلك نقرأ هذه الفقرة: «لا تعتب علي إن لم أكتب لك، سودت كلمات كثيرة، ولكني فشلت في تبييضها، وكلما تذكرت حماقتك، وأنت تردد علي إسطوانة كم صرت أكرهها لا أتزوج لأني غير صالح لأن أكون زوجا.. أكاد أصاب بالجنون.. يا أحمق! وهل أنا أحب الزواج، هذه الكذبة المتفق عليها من طرف الجميع؟ روحي لك، ولكن قل لي إذن ما هو الحل لكي استمر معك بجسدي؟ هل لديك مؤسسة أخري أجمل وأحلي؟ هل يمكنك أن تثبت لي أنك تحبني بغير ذلك؟.. لماذا تصر دائما علي إيقاظ جروحي؟ أنت مجنون! الوقت، بل الحياة نفسها لم تعد ملكي!»ص88، 89. هنا تتضح تتمة فكرة الرواية ومتن مضمونها الرئيسي، فكرة في منتهي الجرأة والاقتحام، إنه العمر المزيف والإطار المزيف الذي اعتدنا أن نظهر ونعيش عليه، ومن خلاله بما يحويه من صور متعددة للزواج والميلاد والموت والإنجاب، مراسم معتادة فارغة لا تحقق الإشباع أو الامتاع الحقيقي بكل ما تعنيه الكلمة.. فالزواج مثلا، هذا الأمر المهم والخطير في حياة الإنسان يضيع ويفني في المحافظة علي أطر زائفة وهلامية لا تحقق أو تضيف شيئا علي المستوي الإنساني والعاطفي والإبداعي ونقرأ أيضا من نفس الجزء: «لأول مرة تأتيني وأنا علي أهبة الانتحار، لم أعد قادرة علي الكذب علي نفسي، طوال هذا الزمن لم أكن إلا مع رجل واحد هو أنت، أشرب بك، أنام بك، أدخل الفراش مع زوجي وأنت معي ولا شيء غير ذلك، والآن أشهد أني أصبحت مريضة بك، سيغني قتلة الروح عني كثيرا مجرد فاجرة محظية محترفة! تركت فراش العفة وذهبت نحو فراش الدعارة! مساكين! لا يدرون أن أكبر دعارة نمارسها هي عندما ننام مع إنسان ونحن نفكر في غيره، فأنا لست عفيفة إلا معك وبين ذراعيك» ص92. هنا تكمن براعة اللغة المستخدمة في استحداث المعني الجديد، والتأويل الفريد لكلمتين هما في الأصل المعروف نقيضتان لبعضهما وهما: الدعارة والعفة. ولكن ما حدث كما قلنا بواسطة لغة الكاتب المستخدمة هو المساواة بين الاثنتين أو وهذا هو المدهش والمثير إعلاء قيمة الدعارة كمفهوم علي قيمة العفة كمعني، إنه هنا يعلن أن الدعارة مع من نحب أحسن وأجمل من العفة مع من نكره، وما كان من الممكن أن تحدث هذه المساواة أو هذا التعادل المعنوي الذي قد نتفق معه أو نختلف لولا تلك الحداثة اللغوية والفرادة التعبيرية عند واسيني والتي مهدت بتراكيبها الجديدة وعباراتها المبتكرة وما أفرزته من إيحائيات مثارة لهذا التعادل. من هذا الجزء من الرواية بعنوان «من ليلي إلي سين» نقرأ هذه الفقرة: «.. أنت لا تعرف جنوني المكتوم، تصور امرأة كتمت جنونها منذ صرخة الولادة التي لم تخرج من فمها، ماذا سيحدث عندما تنفجر بقوة؟ موسيقي الصمت التي فينا مثل الموج الهادر، لا بحر لها إلا جسدينا المنهكين من الجري وراء حقنا في حياة معلقة علي خيط، كلما لمع، ركضنا نحوه قبل أن ينسحب بعيدا وينظر إلينا بسخرية لا نحسد عليها، ونعاود الكرة قبل أن نتيقن أن كل ما حدث كان مجرد سراب قلق» ص114. هنا لا تعبر «اللغة» فقط، لا تقوم بمجرد وظيفة الإيصال أو الإخبار، ولكنها كيان قائم بذاته، قوة إنسانية هائلة تتحرك أمامنا وتتجسد بالفعل علي الورق، لا بل علي شاشات الحياة.. تعالوا لنعرف كيف جعلتنا اللغة هنا نحس الجنون لا نعرفه فقط أو نفهمه فحسب، بعد أن قالت ليلي لواسيني إنه لا يعرف جنونها المكتوم، صورت له هذا الجنون كأبدع ما يكون التصوير، هذا من مجرد بضع كلمات قليلة، لقد صورت امرأة لم تصرخ، كالمعتاد لحظة ولادتها، وظلت تكتم هذه الصرخة حتي كبرت وأصبح لديها هذا الكم من السنين والأعوام، وطلبت منه أن يتخيل هذه المرأة تريد أن تصرخ، أن تنفجر بعد كل هذا الزمن: الصراخ أو الانفجار الذي كان يجب أن تفعله منذ لحظة ولادتها، فكيف يكون ذلك، وعلي أي درجة يكون الفعل هنا.. لقد تخيلنا نحن القراء هول الجنون وأحسسنا به عند ليلي من جراء تلك الكلمات القليلة التي جسدتها روح اللغة هنا.. كذلك أيضا استطاعت اللغة بمفرداتها التعبيرية في نفس الفقرة أن تنقل إلينا الإحساس بشدة وسخونة ما يعتمل في النفس البشرية علي الرغم من الصمت البادي أو الظاهر أحيانا عليها.. لقد ضربت ليلي مثلا لهذا الصمت المخيم عليها، والذي ينقل لواسيني وغيره زيفا هدوءها وسكينتها، بالموج الهادر الذي يأتي سريعا سريعا، وينكسر عند شاطئ بحره، وما هذا البحر إلا الجسد، الجسد المنهك من اللهاث والعدو وراء الحق في حياة معلقة علي خيط، كلما لمع، ازداد ركض الجسد وراءه قبل أن يكتشف في كل مرة أنه مجرد سراب وأي سراب؟ أنه سراب قلق دائم التوتر والانتقال من مكان إلي مكان، ومن حيز وجودي إلي آخر، بحيث يشمل الحياة المعاشة كلها والدنيا القائمة بأسرها.. تماما يكون هذا الجسد كالبحر الذي تفور أمواجه وتهدر مياهه وتتحرك عدوا، ولكن في نفس المحل وفي محيط نفس الدائرة.. وبذلك استطاعت اللغة أن تعبر عن ثورة هذا الصمت وعن هول فورانه وامتلائه، وعن مدي زيف وخداع الحالة المنقولة عنه ومن خلاله للنفس البشرية المتعبة. ومن نفس الجزء من النص الروائي نقرأ: «ربما كان ذلك بفعل الكأس التي لا أرفع نخبها إلا معك، ورجفة جسد لا يحيا إلا علي وقع أناملك الناعمة، وهي تخط حروف العشق علي صدري البكر الذي انتظرك زمنا طويلا الذين سبقوك إليه حبيبي لم ينطقوه، ولهذا اندهشت عندما وجدتني عذراء بامتياز، وكنت قد حكيت لك عن كل الحمقي الذين عرفوني قبلك.. الكثيرات منا تمتن عذراوات علي الرغم من سرقة بكارتهن، العذرية حبيبي ليست غشاء فقط، هي عذرية جسد يغتصب كل مساء بدون أن ينطق بكل مخزوناته الجميلة والرائعة» ص115. وتمضي الرواية التي تبدو ساكنة للكثيرين من قرائها، موارة وفائرة للقليلين منهم، في طرح أفكارها الجديدة ورؤاها المغايرة، وتتحدث هذه المرة عن معني جديد ومثير للعذرية، فالعذرية هنا ليست هي أن تكون المرأة أو البنت بكرا دون زواج، دون خدش لبكارتها المعهودة كما هو معروف للجميع، ولكنها كما تطرحها الرواية وتقدم مفهوما جديدا لها، هي أن تظل المرأة أو الإنسان بشكل عام بلا حب بلا حبيب بلا اقتران حقيقي وفعلي بعاشق ومعشوق في نفس الوقت، يعرف كيف ينطق حبيبه أو معشوقه، كيف يفجر نصفه الآخر، نصفه الروحي والجسدي لكي يستخرج منه أحلي وأجمل ما فيه، أروع وأبهي ما يمتلكه ويتميز به دون غيره، يبعث منه مكنونه ودواخله، يكتشفه لكي يستمتع معه بهذا الاكتشاف وتزدهي الحياة وينجلي الوجود عن أجمل اللحظات وأسعد الأوقات.. ولذلك يعلن الكاتب في هذه الفقرة أن أغلب النساء يمتن عذراوات علي الرغم من زواجهن وإنجابهن هذا لافتقادهن الحب الحقيقي واللحظات السعيدة بجانب من أحين. فكر متجدد ولغة مبتكرة هذا ما تقدمه باختصار شديد رواية «أنثي السراب» لواسيني الأعرج الذي يواجه مشكلة حقيقية في الإمساك بتلابيب «قارئه»، منذ بداية النص وحتي نهايته، ذلك أن زخم الرواية الشديد بأفكارها المطروحة ولغتها المستحدثة علي امتداد صفحاتها، بل وسطورها أيضا يقف حائلا أمام تحمل القارئ واستيعابه، إلا إذا كان باحثا أو ناقدا مثل كاتب هذه السطور.