في مراحل فنية سابقة للفنان محمد عبلة قدم علاقة الإنسان والبيئة المحيطة.. ثم رسم طوبولوجيا للمكان برسمه من أعلي «بعين الطائر» وأسمي تلك المرحلة «المتاهة» ليأتي معرضه الحالي بجاليري الزمالك للفن وقد أسماه «أضواء المدينة».. وهو عنوان بسيط ومباشر في مقابل قيمة بعض لوحات معرضه هذا الذي فيه رؤية فراغية للمكان.. وقبل عرض رؤية لما قدم الفنان.. أشير إلي نظرية الفوضي «الكيوس» وهي نظرية تعالج تصرف مجموعة النظم اللاخطية التي لا تخضع للعلاقة بين مدخلات ومخرجات النظام أو المسببات والنتائج إلي علاقة خطية.. وهي التي تكشف في مجملها عن أن أي فوضي داخلها نظام.. أذكر هذا لما له علاقة تمتد بصلة رؤية بين نظرية فيزيائية ولوحة جمالية حول الفوضي المنظمة من الداخل والتي تخضع للعلاقات اللاخطية أي اللا هندسية في بعضها. أعود للبعض من لوحات المعرض التي تبدو في ظاهرها هي حالة للفوضي.. وهي حرفياً كما أراد الفنان أن يجعلها تمثل الشارع المصري وحركة السيارات وأنوار أعمدة الإضاءة والإعلانات في تداخل فوضوي. لكني سألمس ما نجح الفنان عبلة في إدراكه تشكيلياً وجمالياً بعيداً عن تمثل لحركة الشارع أو أضواء المدينة.. فقد استطاع بنجاح أن يجعل فضاء بعض لوحاته هو العنصر الأهم والذي داخله وفي باطنه من سطح اللوحة حتي عمقها تنتظم التدفقات المكانية الفوضوية وقد ضبط بقع اللون ولطشاته في اتجاه خدم المنظور.. ولتبدو السرعة السائلة في اللوحة المتجهة إلي عمقها تبدو كنافورة عصبية متخيلة أو افتراضية تتسع تشعباتها علي هيئة بقع واتجاهات لاخطية في حركة متواترة حيوية دائرية الاتجاه مكونة شبكة مقامة داخل فضاء اللوحة.. وجعل ديناميكية اللوحة تعمل علي دمج عملية الانتشار فيما بين فضاء اللوحة الأمامي ومركز النهاية بمهارة وكأنه يرسم خريطة بالليزر المجسم في مزاوجة بين الحركة في الفضاء وتأثير لطشات الضوء.. وهذه المزاوجة هي مشهد لخريطة فوضوية أو لطوبولوجية فضائية الشارع المصري.. واعتمد الفنان بحيوية علي ديناميكية لاخطية موزعة في المكان تنتشر تردداتها وذبذباتها في الهواء وموجاتها الضوئية داخل فضاء اللوحة بالكامل مما جعل الفضاء بيدو كحقل امتلأ بتوزيعات بين زوايا وكتل واتجاهات حركة تأخذ الانتباه وتدفع بحركة العين- بعصبية- داخل فضاء اللوحة ذاته وبعد ما كنا في مرحلته السابقة «المتاهة» نشاهد لوحاته من أعلي أي كنا خارج المشهد وقبلها كنا نشاهد لوحات الإنسان في بيئته في مقاطع رأسية وأيضاً كنا خارج المشهد.. لنجد أنفسنا في بعض من لوحات معرضه هذا ونحن داخل المشهد.. داخل فضاء اللوحة نفسه نتصارع وتغيرات متتالية بسبب ذلك التدفق الحيوي في زمن لحظي تلتقطه اللوحة لمشهد حدث وانقضي في جزء من الثانية وقد أصبح العنصر نفسه لا مرئي لكننا ندرك أثره المرئي.. وقد جعلنا بعض لوحاته جزءاً من مصادفة الفوضي والسرعة والبقع المضيئة فوق وجه الشارع المصري تحت دوامة سيل نافورة شبكية للمشهد بكامله ولسرعة انتشاره في فعل تكراري لدورات متغيرة لعناصر متحركة بذات الأثر والأصداء والأضواء في تماسك نغمي كآلات إيقاعية تؤدي أنغاماً شعبية مدوية يتردد صداها في أرجاء فضاء اللوحة دون اتجاهات الاتجاه المركز فتتكاتف البقع اللونية.. وهذ العمل أمامنا هو تعبير بالشكل لمشهد إيقاعات الحياة دون مفرداتها تفصيلاً لكي تتمكن الوحة من نقل الإحساس الجسدي المتحرك للمكان وقد جعل الفنان في نجاح الهيئة الأساسية للوحاته هو فضاتها الذي خلاله تمر وتتشابك العناصر وانعكاسات أثرها بعد انقضاء مرورها تردداً وصدي وضوءاً كأن هناك أنظمة ظاهرها فوضوي لكنها تشكل حدود الحياة اللحظية لمكان بعينه لحظة بعد أخري بتكرار منتظم متقن وبنفس الأثر رغم الفوضي الظاهرة لتخلق حالة من ثقافة عيش جديدة في مثل هذه الأماكن قد أسميها «ثقافة الفوضي».. وقد أراها قدرة جعل التذبذبات والموجات حتي الجزيئات مرئية تتأرجح خلال لطشات اللون لعناصر مرت بالمكان وانقضت.. في معرض الفنان عبلة عدد من اللوحات المعدودة أجاد فيها التعامل مع فضاء اللوحة بصرف النظر عن موضوعها في تمثل الشارع من منازل وسيارات وأعمدة إضاءة ليلية.. وأعتقد أن هذه اللوحات هي بحثه الأفضل والأقيم.. أما باقي لوحات المعرض فهي لا تمثل ولا تعبر إلا عن مدلول عنوانه «أضواء المدينة».