"يوسف والأشباح" ،هو العنوان الأنسب للمعني الذي أراد المؤلف هاني فوزي طرحه من خلال أحدث أفلامه،وبه قدر من التفسير لحالة بطل الفيلم الشاب الذي يجد نفسه في دوامة صراع،بين أفكار واتجاهات عدة،تمزق روحه،التي تهفو للجمال والحرية،والبحث عن الحقيقة! الأشباح التي تطارد يوسف،هي الأشباح التي تطاردنا جميعا،أشباح التخلف،والخوف والتيارات الدينية،والتيارات الإباحية الهمجية،القهر السياسي،غلبة المصالح،تراجع القيم،ازدراء التجربة الشخصية،ادعاء الفضيلة،عشرات التيارات التي تتحول إلي أشباح،لانعرف كيف نهرب منها،ولاكيف نروضها ونتعايش معها!زخم من الافكار والقضايا إستطاع المؤلف هاني فوزي أن يصهرها جميعاً،ويضيف إليها تجربته الشخصية عندما كان طالبا في كلية الفنون الجميلة،ويقدمها مع المخرج أسامة فوزي، في هذا الفيلم الجميل الذي أطلقا عليه "بالألوان الطبيعية"! وجدت صعوبة، بل استحالة في تفهم أسباب غضب طلبة الفنون الجميلة، وادعائهم أن فيلم "بالألوان الطبيعية"يحمل إساءة،للكلية التي ينتمون إليها، ولأساتذة المعهد،ولهم شخصياً!وهو إدعاء يرجع لحالة عظيمة من ضيق الأفق وغياب الإدراك، والجهل بطبيعة الفنون،التي لاتقدم الواقع بحزافيره، ولكن محاكاة لهذا الواقع،مع حرية المؤلف في اختيار الاسلوب الذي يتعامل به مع موضوعه، وفيلم بالألوان الطبيعية لايميل للمدرسة الواقعية،ولكنها الواقعية السحرية، التي تجنح للسخرية المؤلمة،من أوضاع نراها "عادية"، وهي ليست كذلك بالمرة،بل هي كارثة حضارية وإنسانية بجميع المقاييس، فهل يقبل العقل أن يأتي اليوم الذي نحرم فيه فن النحت! هذا الفن الذي نعيش عليه ونباهي به الأمم من خلال "الآثار" والتماثيل التي تركها لنا الأجداد الفراعنة منذ آلاف السنين، هل يمكن أن نتصور أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه،كلمة فنان أورسام مرادفة لكمة زنديق أو كافر أثيم؟ إننا كمن يعيش في مستنقع من الأوساخ،وكل مايشغله أو يضايقه،أن يتحدث أي شخص عن تلك الأوساخ التي يغرق فيها حتي أذنيه،ولايفكر ان ينقذ نفسه من هذا المستنقع،بل يسعي لأن يجذب الجميع إليه! هل من باب الصدفة أن يكون يوسف هو اسم الشخصية المحورية في فيلم"بحب السيما" ، وفيلم" بالألوان الطبيعية"؟ الفرق أن يوسف الاول طفل مسيحي،والده "محمود حميدة" متزمت دينياً،يكره الفنون بألوانها وأنواعها،ويحارب رغبة ابنه الطفل في حب السيما،ويعتبر رغبته في الذهاب للفرجة علي الأفلام مؤشراً ودليلاً علي الكفر ،ولايكف الأب عن ترهيب ابنه وتهديده بسوء المصير،ويؤكد له أن جهنم وعذاب النار ينتظره في الآخرة،أما يوسف في فيلم "بالألوان الطبيعيه"، فهو شاب مراهق من أسرة مسلمة،والدته "انتصار" سيدة متزمته،ولاتعرف عن الدين سوي قشوره، وتصاب والدة يوسف بحالة من الهلع والذعر،عندما يصلها ترشيح مكتب التنسيق وتتأكد أن ابنها الوحيد يوسف الذي كانت تتمني أن يلتحق بكلية الطب، قد تم قبوله في كلية الفنون الجميلة، فتنهال عليه ضرباً،وتستقبله بالصراخ وتتوعده بسوء المصير!لايجد الشاب الحائر مفراً سوي الابتهال إلي الله،كي ينقذه من المصير الذي ينتظره! هذه الام "انتصار" نموذج صارخ ،لحالة المسخ التي نعيشها،فهي لايعنيها تفوق ابنها الدراسي " بالمناسبة كلية الفنون الجميلة تقبل مجاميع لاتقل عن 95 في المائة"،ولاتهتم بأن ابنها يتمتع بموهبة الرسم،التي يعشقها وتميزه عن غيره،كل مايعنيها أنه سوف ينضم إلي مجموعة الكافرين"من وجهة نظرها" الذين يرسمون الاجساد العارية،لقد اختزل خيالها كل ألوان الفنون التشكيلية في الرسوم العارية،وشأنها في ذلك شأن معظم أبناء الثقافة العربية،الذين يزدرون الجسد البشري،ويعتبرونه مكمن الغرائز،والمفاسد،ويعتبرون أن مجرد نظر الانسان لجسده عارياً نوعًا من الإثم والزنا، بينما يعتبر أهل الحضارة الغربية،أن الجسد البشري أروع إبداعات الخالق الأعظم،وأحد دلائل عظمته وقدرته،ليس في تشكيله الجمالي فحسب،ولكن في ميكانيزم عمله، ومكوناته! يقسم السيناريو أحداث الفيلم إلي خمسة فصول،هي سنوات الدراسة في كلية الفنون الجميلة،تبدأ بحالة هائلة من التشويش واللخبطة يعيشها يوسف، فيما يشبه صدمة الميلاد،عندما يلتقي بنماذج مختلفة من البشر، يمثلون اتجاهات وأطيافًا مختلفة" نموذج مصغر للمجتمع الأكبر" البعض متطرف دينيا،والبعض يعتقد أن الفن هوالجنوح، والانفلات، بعض من تنقصهم الموهبة،يستغلون من لديهم فائض منها، ويميل الفيلم في كثير من مواقعه إلي تجسيد حالة اللخبطة التي يعيشها يوسف ،فيري من وجهة نظره أساتذة المعهد ،والمعيدين في صور ساخرة كاريكاتورية، وأحيانا يراهم بصورة شيطانية،فيلجأ الي مناجاة الله،طالبا منه إنقاذ روحه وجسده من العذاب المنتظر،الاشباح تطارد يوسف،في يقظته ومنامه، ولاينقذه من الانهيار التام ،سوي علاقة الحب التي تبدأ تربطه بزميلته الجميلة، إلهام "يسرا اللوزي"، ولكن تلك العلاقة سرعان ماتتحول إلي واحدة من أزماته، ومشاكله المعقدة، وذلك عندما تستسلم الحبيبة لرعبها ومخاوفها من التجربة، وتتشرنق داخل الحجاب، ثم تزداد إنهيارا وتختبيء بكاملها خلف خيمة سوداء،لاتظهر إلا عينيها، وفي مشهد معبر، وصادم يحاول يوسف أن يبحث عن حبيبته، بين مجموعة من المنتقبات،وعندما يتحدث إلي إحداهن يكتشف أنها واحدة غير حبيبته، وتزداد حيرة الشاب ويفشل في أن يري الوجه الذي أحبه وارتبط به،بينما الحبيبة تقف في ركن من فناء الكلية،تتابعه وهو يبحث عنها،ولايجدها،بينما هي تختبيء خلف نقابها! ويقدم الفيلم حالة لشاب ضائع، متعدد العلاقات ،يجد سلواه في الانتقال من علاقة جنسية الي أخري،إنه الشاب علي "رمزي لينر" الذي لاينتمي ولايؤمن بشيء،مثل كثيرين غيره في كل زمان ومكان،يجرفهم الصراع بين الشك واليقين،هذا الصراع الذي يعيشه الانسان منذ وجوده علي الأرض، وحتي يرث الله الأرض ومن عليها!نماذج عادية وليست حالات خاصة يقدمها الفيلم،المعيدة الانتهازية"فريال يوسف" التي تستغل طلابها لمساعدتها في إتمام رسالة الدكتوراة،الشاب المتسلق الذي يقبل أن يكون خادما لأساتذته،كي ينال الرضا الذي يتيح له أن يعين معيدا بالكلية،الشاب الموهوب الذي يبيع موهبته لزملائة الاثرياء عديمي الموهبة،نماذج قد تكون داخل كلية الفنون الجميلة،أو في أي كلية أخري،بل في أي مكان وأي مجتمع علي وجه الأرض،فما سبب كل هذا الغضب الذي انتاب طلبة واساتذة الكلية، الذين اعتبروا الفيلم إهانة لهم!دون أن يحاولوا فهم واستيعاب الرسالة التي يحملها! في تجربة فيلم بحب السيما،استعان المخرج أسامة فوزي باثنين من أهم نجوم التسعينات وهما "ليلي علوي،ومحمود حميده" ووجودهما كان كفيلا بحماية التجربة،فلكل منهما قدرة في الدفاع عنها ضد التيارات الرجعية التي تتخذ من الفنون هدفالإطلاق سهامها،أما تجربة فيلم بالالوان الطبيعية،فهي تعتمد علي مجموعة من النجوم الشباب،بعضهم يقف امام كاميرا السينما للمرة الأولي، وبالتأكيد ليس بينهم من له موهبة التصدي لتيار التخلف الذي انطلق مهاجماً الفيلم بضراوة حتي قبل ان يشاهده،ومع ذلك فقد كانت تلك الوجوه النضرة، من أهم ميزات الفيلم رغم قلة خبرة بعضهما، ومن أهم من يقدمهم فيلم بالالوان الطبيعية"محمود اللوزي" الذي يمثل التيار المستنير بين أساتذة كلية الفنون،إنه ممثل تلقائي، سوف يأخذ مكانته في السينما المصرية،وقد شاهدته في دور صغير في مسلسل "خاص جدا" مع يسرا،وكان يبشربممثل جيد،لأدوار منتصف العمر،ووجوده قد يرحمنا من تكرار وجوه مللناها، مثل صلاح عبد الله،وحسن حسني،وعزت أبو عوف! وفريال يوسف في دور المعيدة الانتهازية التي تؤمن بمبدأ ميكيافيللي في أن الغاية تبرر الوسيلة،ورمزي لينر وإن كان يحتاج لبعض التحكم في انفعالاته،حتي لايتحول غضبه الي نوع من الصراخ المتشنج، محمد العرابي في دور الداعية العصري، النموذج الذي ابتدعته وروجت له الفضائيات العربية،سبق وأن شاهدته في دور رائع ومختلف في مسلسل "مجنون ليلي" وهو صاحب موهبة شديدة التميز، ويؤدي بسلاسة مدهشة، فرح يوسف أمامها مستقبل كبير فهي خالية من العقد التي لجمت انطلاق الجيل الذي سبقها في الظهور في السينما،يسرا اللوزي نموذج للفتاة العصرية، أدت دور الفتاة الحائرة بين رغباتها الطبيعية،وبين قيود المجتمع بفهم واستيعاب وهي واحدة من نجمات المستقبل،كريم قاسم الذي قدم الشخصية المحورية، سبق أن شاهدته في عدة أفلام سابقة"الماجيك"، أوقات فراغ، وهو يتطور بشكل واضح من عمل للآخر،كما يحمل سمات النجم ومواصفاته، ويبقي أن تساعده الظروف في اختيار أدوار تناسبه،أما مفاجأة الفيلم الحقيقية فهي الممثلة الشابة "مني هلا" التي قدمت شخصية بائعة الهوي العصرية،نموذج الاغواء الذي يطارد بطل الفيلم يوسف،في صحوه ومنامه،رغم إنها قد تأثرت به،وكان سببا في تطهيرها من الآثام التي علقت بها، معظم من تعامل مع مني هلا من المخرجين لم ير منها إلا وجه الفتاه البريئة، وحده "أسامة فوزي" الذي قدمها في تلك الشخصية بالغة التعقيد وقد قدمتها بشكل مؤثر وغير مسبوق،إنها تستحق أن تكون نجمة جيل الشباب في المرحلة القادمة! من أهم عناصر التميز والإبداع في فيلم بالألوان الطبيعية،كاميرا طارق التلمساني،ديكور صلاح مرعي، وموسيقي تامر كروان،في هذا الفيلم لايلقي أسامة فوزي مجرد، زلطة في المياه الراكدة، ولكنها صخرة ضخمة،أدت إلي إحداث دوامات هائلة في تلك المياة التي اعتدناها راكدة لسنوات طويلة،إنه واحد من أهم أفلام عام 2009.