تناولت معظم الأعمال الأدبية تطورات الأوضاع الاجتماعية في اليمن علي نحو لم تستطع أن تقدمه الدراسات الاجتماعية، فيلاحظ أن الدراسات الاجتماعية في اليمن تواجه أوضاعا جعلتها تبتعد بدرجة أو بأخري عن كثير من القضايا الجوهرية، ففي ظل المنهج الخاطئ لتلك الدراسات نجد أن الظواهر الاجتماعية المتولدة عن سياق تاريخي اجتماعي محدد، تتحول إلي ما يشبه الأساطير، فالظواهر التي تولدت بفعل عوامل اجتماعية وتاريخية محددة تختلط بتصورات غير واقعية تجعل منها لغزا غير قابل للإدراك، وفي ذلك الوضع نجد أن الأعمال الأدبية من المصادر الأكثر واقعية في تناول القضايا المتعلقة بالتاريخ الاجتماعي لليمن الحديث. الأدب يرصد استمرار أوضاع من مخلفات الماضي تعكس بعض الأعمال الأدبية وجود تشابه بين الأوضاع التي كانت سائدة في عهد نظام الإمامة قبل ثورة سبتمبر 1962 والأوضاع السائدة في الوقت الراهن ومن هنا تظهر لنا استمرارية القديم في ظل الحديث، وهذا ما يمكن استخلاصه من بعض كتابات محمد أحمد عبدالولي، كما يتضح من بعض الأعمال الأدبية أسباب استغلال أبناء بعض المناطق أهالي مناطق أخري، ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلي قصة «يا خبير» المنشورة ضمن مجموعة «الأرض يا سلمي». ففي الحوار الذي دار بين عسكري ينتمي إلي قبيلة حاشد بمحافظة صنعاء انتقل للعمل في الحجرية في تعز، وبين أحد أبناء المنطقة نجد أن العسكري يقول ردا علي تساؤل ابن الحجرية عن سبب نهب العساكر للرعية «ننهب الرعية ما كل العسكر ينهبوا يا خبير، واللي ينهب هانا ما هو أحسن من الحاكم.. أنت يا خبير تعطي الحاكم مائة ريال برضاك وقناعتك، والعسكري تعطيه ريال وتقول العسكر ينهبونا.. ما هو كذا؟ العسكري مثلك، في حاكم تاني ينهبه في بلاده بالحق أو بالباطل». وفي موضع آخر يصف هذا العسكري الحياة في منطقة قبيلة حاشد التي ينتمي إليها وما يعانيه المواطنون هناك قائلا: «اسمع يا خبير، أنت رعوي هانا في القبطية وأنا رعوي في حاشد، معي هناك بيت وعائلة وأولاد ما شاء الله، لكن ما معانا بيس «أي نقود» ما معنا أرض.. هاناك المشايخ أخذوا الأرض واحنا أصبحنا عساكر تدور علي رزق، علي لقمة». يلقي هذا الكلام الضوء علي الأسباب التي تدفع أبناء المناطق القبلية للتوجه إلي احتراف العسكرية، وتركز هذه الأسباب في عدم وجود فرصة أخري للحصول علي لقمة العيش، حيث إن الأراضي هناك في أيدي المشايخ، وهذه إحدي المآسي الاجتماعية، فمن جانب نجد أن هؤلاء العساكر ينتمون إلي مناطق فقيرة، ويعيشون حياة رثة، ولا يجدون لقمة العيش، ويتعرضون للاضطهاد، ولا يجدون أمامهم فرصا متاحة سوي احتراف العسكرية التي لا توفر لهم سبل العيش، ومن ثم لا توجد أمامهم سوي تعويض ما ينقصهم عن طريق نهب المواطنين في المناطق التي يرسلهم الحكام إليها. علاوة علي ذلك يمكننا أن نستنتج من قراءة بعض الأعمال الأدبية أن بعض الظواهر التي كانت سائدة قبل الثورة لا تزال سائدة حتي الآن بدرجة أو بأخري، ونعني بذلك ممارسة النهب واستباحة الغنائم خلال النزاعات الأهلية، وينبغي التنويه بأن بعض المناطق والجماعات يمكن أن تتعرض لمثل هذه الممارسات أكثر من غيرها، ولكن هذا لا يعني أن البعض يمكن أن يظل دائما بعيدا ويفلت منها، فإن الجميع قد يصيبه العقاب ويتعرض إلي النهب في أي وقت، وعلي سبيل المثال في رواية «صنعاء مدينة مفتوحة» كان وراء شخصية الصنعائي التي تتسم بطابع إنساني متميز ويعمل في عدن، مأساة احتفظ بسرها طويلا، ترتبط هذه المأساة بسياسة العقاب والنهب والغنائم وانتهاك حرمة المواطنين. فقد تعرض وكأنه في صنعاء للحرائق والنهب، كما تعرضت حرمة منزله وزوجته للانتهاك وقد حدث كل ذلك عندما أمر الإمام بنهب مدينة صنعاء بعد فشل ثورة 1948 وتعرض الصنعائي إلي كل ذلك علي الرغم من أنه لم يكن طرفا في ذلك الصراع الذي كان نهب صنعاء أحد مظاهره، وبعد مرور عشر سنوات من الصمت كشف الصنعائي عن السر لأصدقائه من أبناء المناطق الأخري الذين يعملون معه في عدن، ومن بين الكلمات التي قالها: «اشتعلت المدينة ذات يوم وبدأت تلتهم منازلها النيران، ورأيت الجيش الغازي.. مجرد أناس لا يعرفون سوي النهب.. كان شعار قائدهم.. صنعاء مدينة مفتوحة. لم تقتصر الإشارة إلي عملية نهب صنعاء علي هذا العمل فقط، بل تناولته أعمال أدبية أخري وأشارت إلي أن ولي العهد أحمد الذي أصبح الإمام الجديد بعد اغتيال والده الإمام يحيي هو الذي أباح صنعاء للنهب والسلب والقتل والدمار «الرهينة ص28». الهجرة والهوية إن بعض المغتربين اليمنيين الذين غادروا اليمن عن طريق عدن في الفترة السابقة عن ثورتي سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، لم يتمكنوا من مغادرة اليمن أو العمل علي ظهر سفينة إلا بالحصول علي تراخيص للعمل في البحر، ونظرا إلي أنهم لا يحملون بطاقات أوراق تثبت هويتهم، فقد لجأوا إلي استخدام تصاريح تحمل أسماء أشخاص آخرين، وكان ذلك يتم عن طريق شراء تراخيص العمل من الأشخاص الذين يتقاعدون، وبهذا يغادرون البلاد باسم بائع الترخيص الذي قد يكون في بعض الأحيان غير يمني، وفي النهاية وجدنا عددا من المهاجرين يحملون أوراق هوية بأسماء تختلف عن أسمائهم الحقيقية، وظلت الدراسات الاجتماعية لا تتناول عادة مثل هذه الأمور، بينما سجلتها الأعمال الأدبية، ويقدم ديوان محمد أنعم غالب «غريب علي الطريق» تصويرا لهذه الظاهرة. ففي قصيدة «الغريب» يتحدث عن أحد المهاجرين: واسمه القديم صار ذكريات ونقش اسمه الجديد في ورقة مكتوبة بخط أعجمي وطوف البحار والقفار ثم بدل الأسماء وبدل الأوراق في جيبه منها الكثير وأعمال أدبية أخري، خاصة في مجال القصة والرواية قد اشتهرت وانتشرت من خلال معالجتها قضايا متعلقة بهجرة اليمنيين إلي الخارج، ومثال ذلك رواية محمد أحمد عبدالولي «يموتون غرباء». وينبغي أن نشير إلي أن بعض أبيات قصيدة الغريب قد تعرضت لقضايا أخري حيث تقدم وصفا لأشكال معاناة الفلاحين نتيجة تعسف تقديرات الضرائب والظلم في طريقة تحصيلها وهي توضح أن الأهالي يبيعون جزءًا من ثروتهم لسدادها. طارده الجباة وباع نصف ثروته ليدفع الزكاة وأجرة التقدير والجباة والجنود ورشوة الحاكم والأمير وغادر الوطن.. المرأة اليمنية قدم الأدب اليمني صورة للحياة الواقعية للمرأة اليمنية الريفية بشكل لم يتوفر في الدراسات، فقد كانت المرأة اليمنية هي التي تتحمل الأعباء والأدوار الرئيسية في العمل المنزلي وتربية الأطفال ورعاية الماشية وفلاحة الأرض سواء في ظل وجود الزوج أو غيابه في بلاد المهجر، ففي قصة «الأرض يا سلمي» تعرف أن المرأة تتزوج في سن السادسة عشرة وبعد أيام العرس التي تستمر سبعة أيام تبدأ في ممارسة الأعمال التي سبقت الإشارة إليها دون توقف وتبدأ دورة الحياة اليومية للمرأة حسبما تروي لنا القصة السابقة بأن تستيقظ مع أذان الفجر، وتحلب البقرة وتقدم لها العلف وتذهب بعد ذلك إلي البئر لتملأ الجرة بالماء وتعود بها لتجهز الإفطار للزوج، ثم تذهب إلي الحقل لتعمل مع والد الزوج أو بمفردها في الحرث وتنقية الحشائش ثم تعود إلي المنزل كي تطحن الحبوب لإعداد وجبة الغداء وبعد أن تتناول وجبتها التي تتكون من قليل من الخبز ورشفات من مشروب قشر البين أو عصيدة، تنتقل إلي فترة عمل ما بعد الظهر وتقوم في تلك الفترة بغسيل الملابس، ثم تذهب إلي الجبل، بحثا عن حطب الوقود، وقبل الغروب تذهب ثانية إلي البئر من أجل جلب الماء والتقاط بعض الحشائش للبقرة وبعد ذلك تقوم بإعداد العشاء، وبعد فترة تطول أو تقصر يهاجر الزوج إلي الخارج وتستمر الزوجة وحيدة تواجه جميع الأعباء «قصة: الأرض ياسلمي». تشير هذه الصورة التي رسمها الأدب إلي تعدد الأدوار التي تقوم بها المرأة الريفية اليمنية وإلي كثرة الأعباء التي تتحملها فضلا عن أشكال متعددة من المعاناة، ولا تختلف الصورة التي رسمتها الأعمال الأدبية الحديثة عن دورة الحياة الفعلية للمرأة اليمنية والتي يمكن أن تقدمها الدراسات الأنثروبولوجية من هذا القبيل، وتتكرر أوصاف متشابهة عن وضع المرأة الريفية في أعمال أدبية أخري، ومثال ذلك: «المرأة في بلادنا ليست سوي خادمة.. للأرض.. للبيت.. للزوج.. إنها مجرد زهرة تتفتح قليلا ثم تموت حين ينهكها العمل، وكذلك هي زوجتي.. كانت ناضرة.. كزهرة.. فأصبحت الآن عودا يابسا، وأصبحت.. رغم أنها لم تتجاوز الخامسة والعشرين.. عجوزا.. كأنها علي أبواب قبرها» «صنعاء مدينة مفتوحة، محمد أحمد عبدالولي». صراعات متولدة عن الهجرة ترتب علي زواج المغتربين اليمنيين خاصة الذين تزوجوا من أفريقيات مشاكل اجتماعية عديدة، ويتعلق بعض هذه المشاكل بعدم تقبل بعض دوائر المجتمع اليمني للأبناء الذين جاءوا نتيجة تلك الزيجات والذين تم تسميتهم ب «المولدين» وكانت بعض أشكال الصراع المرتبطة بهذه القضية قد ظهرت في بلدان المهجر قبل أن يعود المولدون إلي اليمن، فقد نشأ صراع بين المهاجرين أنفسهم وأبنائهم الذين ولدوا من أمهات غير يمنيات، وقد انتقل هذا الصراع فيما بعد إلي داخل اليمن عندما وفدت أعداد من المولدين للإقامة في البلاد، و كثيرا ما واجه هؤلاء ما يشبه عدم الاعتراف، كما أنهم يواجهون في معظم الأحيان صعوبة في الحصول علي بطاقات هوية، وتعتبر هذه من المشاكل الدائمة التي يعانيها أبناء المغتربين المتزوجين من أجنبيات، وعلاوة علي ذلك فإن بعض أنماط سلوك المولدين التي تتسم عادة بعدم التزمت، تواجه الاستهجان في أحيان كثيرة من جانب بعض دوائر المجتمع اليمني. وقد تناولت بعض الأعمال الأدبية بعض أشكال الصراع الذي ينشأ في بلدان المهجر بين الأبناء و«المولدين» والآباء، فالجيل الجديد يتهم الأجيال السابقة التي وفدت من اليمن بأنهم قد خرجوا من بلادهم هربا من شبح الإمام وليس من أجل تحرير اليمن كما يزعمون، ففي جزء من رواية «يموتون غرباء» حوار بين الجيلين وكانت كلمات «المولد» حول الهروب من شبح الإمامة، ردا علي قول المغترب بأنهم يعملون من أجل أن يأكل الناس في اليمن، وأنهم لم يهاجروا إلا بهدف إنقاذ البلاد، كما أن المغترب قام بدوره في انتقاد المولدين خلال الحوار قائلا: «أنا أعلم أنكم أنتم المولدين لا تهمكم مشاكلنا.. ولكنك أتيتم لتكونوا عبئا علينا» فيرد المولد: «لقد خفتم، ولو كنتم حقا تريدون تحرير الأرض، فلماذا إذن تزوجتم وأنجبتمونا لتقولوا في النهاية هذا الكلام». تبرز الرواية بعض التناقضات والتباينات بين واقع الآباء والأوضاع التي تواجه الأبناء، فالأب المغترب «يحلم بأرضه.. وبالمستقبل هناك في اليمن عندما يحرروا اليمن من الظلم.. فإن لديه أساسا يقف عليه وأحلاما تؤيده وتسنده وأنه ليس غريبا بالرغم من أنه مهاجر. قد يعود يوما إلي أرضه، أما المولد فمقطوع من شجرة لا جذور لها إنه لا أحد». تتعمق المأساة في هذا العمل الأدبي عندما يتم دفن الأحلام مع موت بطل الرواية الذي كان يستعد للعودة لليمن وتظهر صعوبة إيجاد قطعة أرض صغيرة لدفنه، ولهذا تأتي كلمات «المولد» الموجهة إلي المغترب وهما أمام القبر الذي سيدفن فيه بطل الرواية، لتوضح قسوة جوانب عديدة من الواقع، ويقول تلك الكلمات «أنت تعرف أنه مات ولم يترك شيئا طيبا في حياته سوي الآلام.. امرأة مهجورة منذ أعوام بعيدة، وابن لم يعرفه بعد.. وأرض لم يقدم لها أي قطرة من دمه.. لقد مات غريبا كما يموت مئات اليمنيين في كل أنحاء الأرض، يعيشون ويموتون غرباء دون أن يعرفوا أرضا صلبة يقفون عليها.. أما هذا القبر فهو ليس قبره، إنها ليست أرضه وليست أرضنا.. إنها قبور أناس آخرين.. قبور الأحباش نحتلها نحن، ألا يكفي أن نلتهم اللقمة من أفواههم، كم نحن غرباء.. كم نحن غرباء».