في الفترة ما بين 9 -13 ديسمبر، أقام معهد جوته بالقاهرة احتفالية ثقافية كبري، ألا وهي مهرجان الأفلام المستقلة في العالم العربي. ومن الجزائر، ومن تونس، ومن المغرب، ومن فلسطين، حمل كل ممثل لبلده باقة من الأفلام القصيرة بعضها روائي وبعضها وثائقي. أما التحريك، فلم نر منه سوي فيلم واحد. الواقع أنه حدث ثقافي له أهميته، لأنه يشير إلي منظورات الغد في الإخراج والتصوير السينمائي كيف؟ أقول هذا لنصل إلي مفهوم محدد لكلمة سينما مستقلة: هي ليست السينما التي يسيطر عليها المنتج، وإلي جانب المنتجين التجاريين، يوجد طوال تاريخ السينما منتجون طليعيون لكن السينما المستقلة هي سينما مخرجي الكاميرا هي عينهم التي تفكر وتكشف لنا عن سياق حياتنا، وتعطينا إيقاع زمن الحياة اليومية. إنها رؤية العالم ونحن في قلبه (Welta Shauung) وعندما يتجمع شبان وشابات أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين، عندما يتجمعون في لقاء ثقافي، وينشأ بين تياراتهم المختلفة حوار صادق، فنحن أمام حدث تاريخي. ولا أعرف أبدًا المبالغة. العين المفكرة من الصعب حقًا الحديث عن كل ما عرض من أفلام، إلا أنني اكتفي بعدد محدود يؤكد ما أشرت إليه: «العين المفكرة= كاميرا). هذه المعادلة تحققها مخرجة فيلم: «الاسانسور»: «هديل نظمي». الاسانسور هنا هو وحدة مكانية، وداخل الاسانسور شابة فوجئت بتوقف الاسانسور، وعبثًا تنادي علي من ينقذها، وبينما هي في صراع داخل الآلة الجهنمية، يرن جرس المحمول، ويسمع صوت شاب يسألها أسئلة شخصية، غير متوقعة. غريزتها الأنثوية تدفعها إلي هذه، لكنه يلمح، وتستمر حركة «الردع- الإلحاح». وفي البداية كانت الفتاة تضع حجابًا يخفي شعرها ويحيط بوجهها، لكن مع الانسياق وراء حرارة الشاب، نراها تخلع حجابها، وتمشط شعرها ليتهدل في دلال علي كتفيها، ومن الكبت إلي الانفراج تتابع حركة الفيلم. هديل نفذت إلي ما هو كائن في طوايا نفس كل فتاة سوية، إنها أنوثة في حالة تفتح، لكن المكان، وليس فقط الاسانسور، بل «البيئة المكانية» قد أغلقوا عليها أنوثتها، كما انغلق عليها باب الاسانسور. نفس «تيما» الانغلاق نجدها في فيلم «الباب» للمخرجة الجزائريةالشابة ياسمين شويخ. المكان بيت أسرة متوسطة، عجوز يثرثر ويلح في طلب شيء ما، فتاة تصرخ وقد أمسكت بها أمها لتمشط لها شعرها، كما تريد هي. وإزاء هؤلاء الشخصيات الرئيسية في الفيلم، إنها تجد المخرج في باب البيت، تطل من فتحة في أعلاه، ليتأكد شعورها بأنها وسط بشر. رغم أنهم حثالة ضائعة، لكن لا يهم، إنها الحياة، وفجأة ينتبه الأخ الأكبر إلي ما ترتكبه الأخت من عمل فاحش، فيغلق الباب، وتنظر الفتاة إلي فتحة ضيقة، شريط يصعب النظر من خلاله، فتري صرصارًا، صرصار يتجول بحرية، يدخل إلي البيت ويخرج إلي الهواء الطلق، ولا يصده باب. وحدة المكان وعلي عكس «تيما» الانغلاق، يعالج «محمد ممدوح» وحدة المكان في منطقة تقاطع كل العلاقات الإنسانية في بيئة محددة، ألا وهي: «السنترال». فمن خلال «مدمنة» إنصات لكل المكالمات، من خلال عملها كعاملة سنترال، يتتابع عرض أنماط بشرية هي مكونات البيئة، وقد تعروا داخل خصوصيتهم: هذا قواد، لكنه يرتدي ملابس الورع، وتلك عاهر، لكنها أمام الناس ربة بيت، وثالث تاجر مخدرات، ورابع نصاب، فالداخل داخل النفس، يتعري من خلال المكالمات. كنت أود من محمد ممدوح أن يقيم خطًا موازيًا لوسائل الاتصال، هي ما يحدث في المكالمات (Chating) التي تحركها نوازع الجنس، وذلك عبر شبكة الإنترنت فنحن في عصر المعلوماتية!! الكوميديا السوداء تصور آخر لعصر وسائل الاتصال يحمله لنا الفيلم الفلسطيني: «بدأنا بقياس المسافات» إخراج: «بسمة الشريف»، هو نوع من الكوميديا السوداء، تتجاوز إنسان «كافكا» المحاصر بكل الضغوط، لتوصلنا إلي نوع من العبثية. هنا جماعة تحاول أن تعرف المسافة بين الشمال والجنوب، ثم بين الجنوب وجيرانه، وتتعدد المسافات، حتي تضيق: ما المسافة بين شرم الشيخ مثلاً، وغزة؟ ثم، ما المسافة بين غزة ورام الله مثلاً؟ ثم أخيرًا ما المسافة بين غزة + الضفة الغربية والقدس؟ هنا تتلاشي المسافات، تتلاشي حقيقة، لكنها حقيقة منطقية وليست نتاج فعل إنساني، لأن الفعل الإنساني هو وحده الذي يلغي الحدود بين أشلاء أرض فلسطين المبعثرة، من ذا الذي سيجرؤ بفعل إنساني؟ سؤال تطرحه مخرجة هذا الفيلم الذي يقول كل شيء، بلا خطابة، ولكن بلغة التعبير «البصري- السمعي».. وهو قمة في البناء والتكوين، البناء والتكوين الذي يصوغ الفكرة، وليس ذلك الذي لا يخرج من كونه مجرد «زخرفة» حماسية. الأفلام كثيرة، تتجاوز الثلاثين، إن لم أخطئ. وإزاء هذا التنوع في الهوية الثقافية- الاجتماعية لكل مخرج ومخرجة، كان لابد من جود باحث أو ناقد سينمائي كبير من كل بلد ليعرفنا علي مفهوم العمل السينمائي هنا وهناك. كل ما رأيناه مقدمات إحصائية ولا شيء عن الهوية الثقافية السياسية- الاجتماعية للفيلم. سينما الكهوف فمثلاً، لم يدرك مقدم الأفلام الجزائرية الخاصة النوعية لسينما الجزائر فهي سينما لم تولد في استديو، بل في خنادق جيش التحرير الوطني، وفي كهوف بالجبل. كان الهدف تصوير المعارك، وآثار العدوان، وخيام اللاجئين، والترحال إلي أبد الأبدين، وكان رئيس المركز القومي للسينما بان سني الاحتلال من المؤمنين بتحرير الجزائر، هو المخرج: «رونيه فوتييه (René Vavtier)، لقد سرق معدات المركز وحملها إلي الثوار وبدأ يغرر بهم علي أن الحدث أثناء وقوعه، وممارسة هذا النوع من التصوير تؤدي إلي حس غريزي بنقطة الارتكاز في تكوين أي كادر، وعندئذ لا يصبح الإخراج مجرد عمل حرفي، بل انتزاع عناصر المكان وربطها في نسيج حي. نفس الخصائص تجدها في السينما الفلسطينية، ابتداء من تأسيس جماعة السينما الفلسطينية، بقيادة الزميل الراحل: «مصطفي أبوعلي»، وأيضًا بمساهمة قيس الزبدي، وهو تيار كان له هذه في لبنان، يتمثل ذلك في كفر قاسم لبرهان علوية ولبيروت وسط العذاب لجوسلين صعب. أما الآن، فهذا التيار قد تبلور، وازداد صقلاً، سواء في أفلام آن ماري جاسر الفلسطينية المهاجرة الأمريكية، أو في أفلام جمانة إميل عبود إيهاب جاد الله ومهدي فليفل، وقد بلغ القمة في فيلم عبثي، سياسي بالدرجة الأولي، لكن لا كلمة فيه عن السياسة. إنه فيلم: «عرفات وأنا»، أضف إليهم مخرجة «المحطة الأخيرة»: «غادة الطيراوي». ويرجع الفضل إلي منسقة المهرجان لارا خالدي، وهي متعددة النشاط، تارة منسقة معارض، وتارة منشطة أو منسقة مهرجان، فتدقيمها لأفلام زملائها الفلسطينيين تجاوز توقعاتي، وما يقال عن أفلام فلسطين يقال أيضًا عن أفلام لبنان، وفي مقدمتها زهرة الليمون لباميلا غنيمة ورائحة القهوة لفادي دباحة، وعالليلكي لسرمد لويس. بين الشرق الأدني والأوسط بقي فيلم مهم، تجدر الإشارة إليه، مخرجته بريطانية أو تصف بريطانية، ويشارك زميل وقد عملا سويا في إخراج أفلام عن الواقع الاجتماعي- الثقافي- السياسي في الشرقين الأدني والأوسط، آخر عمل لهما هو الفيلم الذي عرض بالمهرجان بعنوان: «الاستثناء والقاعدة»، ولا أدري إن كانت كارن ميرزا Karen Mirza وزميلها براد بتلر Brad Buter قد تأثرا برائد المسرح الملحمي الألماني برتولت برشت، فهذا عنوان إحدي مسرحياته المسماة بالتعليمية، لكن ما هو مؤكد هو أنها طبقا بلغة السينما، ما كان يسميه برشت في لغة المسرح: «تأثير التعبير» (Verfremenug Effekt)، ولدي برشت عبارة تفسر هذا المبدأ، هي: انتزاع قشرة الواقع الجامدة، ويقصد بذلك أن ما هو لا إنساني، وما هو آلي، إذا تحول لعادة يومية، يمارسها الناس دون أن يفطنوا إلي أنها سجن لجوهرهم الإنساني. وأضرب مثلاً بما تمارسه الميديا حاليًا: افتح أي قناة إخبارية، ستجد نساء يولولن، وصراخ، ونعش أو أكثر. وسيارات إسعاف ومنازل نكستها دبابات، سواء في غزة أو في كابول، ومع ذلك بتوالي هذه الصور يوميًا تتحول إلي عادة يومية، يشاهدها الناس وهم يتناولون الشاي أو الجاتوه، فإذا جاء شخص ليس لديه «دش» ولا يعرف أي قناة، ورأي هذه المشاهد لأول وهلة، فلا شك أنه سيصرخ: «أنها وحشية!.. أيعقل أن يحدث هذا». هنا أبعد ذلك الشخص إليه العادة اليومية، ورد المشاهدين إلي البعد الحقيقي لما يرونه. مجرد مثال للتبسيط الشديد. وأعود إلي الاستثناء والقاعدة.. الفيلم متعدد وسائل التقاط المشاهد، فهو يبدأ بما يعرفه المصورون بالإسراع Acceleration، أي عدم إشباع الرؤية، يخفض عدد الصور (الكادرات) اللازمة لوضوح الرؤية، لكن لماذا؟ لأننا أمام عساكر وجنود وفقهاء، الكل لا نكاد نميز شخوصهم، لقد أصبحوا جسمًا واحدًا، لا فردية، لا إمعان نظر، لا منطق، إنها غريزة في حالة انطلاق يقابل ذلك مشاهد ترتيل القرآن، هنا شريط الصوت يعلو، بينما يتحول المرتلون إلي جسم واحد، تمامًا كما في حلقات الذكر. هذه هي «عمومية» الحياة، حياة مجتمع وحيد البعد ووسط هذه الأطياف- لمح البصر»، واقع آخر، محددة علاماته، كتل العمارات ثابتة، بينما الناس يلهثون في الشارع، بحثًا علي ما ندريه فيما عدا واحدة، تقف في ميدان، وترفع ذراعيها إلي أعلي وتصفق، ثم تصيح: «أريد إخراج فيلم عن هذا»- هذا؟ ثم يشتد التهافت في مشاهد السوق، فالناس في حاجة إلي طعام، بينما فئات المتمردين تتظاهر، والنظام يشهر أسلحته في وجه المعارضة. كان الفيلم في حاجة إلي بناء هارموني، بحيث ما هو: «لمح البصر» يحيط بمجرد واحد، هو اللحن الرئيسي، بينما العناصر الأخري هي الألحان الفرعية. ولا يسعنا أن نترك الحديث عن هذا الحدث الثقافي دون الإشارة إلي منسقه الأول، المخرج والسيناريست والكاتب الألماني: «مارسيل شيفرين (Harcel Schwierin) المشرف علي المهرجان، والمهرجان هو أول تظاهرة لمشروع أوسع، يوم علي تجميع المخرجين العرب في كيان هو: «الأفلام العربية القصيرة»، وقد قام مارسيل شيفرين بجهد كبير يقوم علي تأسيس موقع لهذا الكيان الجديد، ويمكنك أن تشهد بعض هذه الأفلام وأنت في بيتك وتتعرف علي هوية إنتاج كل بلد، والموقع هو: (www.Arabshorts.Net). ملاحظة أخيرة تفرض نفسها: لم يحضر المهرجان أي ناقد، لا من مصر ولا من البلاد العربية.