بدخول الإنسان إلي ما يعرف بالعصر (الرقمي) الديجيتال، تلك الثورة الرقمية التي غزت جميع مجالات الحياة .. بل وأصبحت محورًا أساسيا في حياة الإنسان المعاصر ، مما جعلني تجاوزاً أطلق علي إنسان العصر الحالي بالإنسان الرقمي دلالة علي ظهور عناصر جديدة ومؤثرة غيرت من شكل وطبيعة الإنسان المعاصر ، بحيث إن إنسانيته الخالصة أصبحت مثار جدل ، بعد أن تمت برمجة ذلك الإنسان وأصبحت حياته مرتبطة بتلك الثورة الرقمية بعلاقات متداخلة ومتشابكة من الصعب معها أن نستحضر صورة الإنسان قبل ظهور تلك العناصر . المسرح في مواجهة المسرحية الرقمية المسرح بوصفة أحد أنشطة الإنسان لم يخل من ذلك الغزو الرقمي ليظهر لنا ما يعرف ب (المسرح الرقمي)، ونشير هنا إلي أحد أهم الكتب التي تناولت ذلك المسرح الجديد ... والكتاب صدر عن مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي تحت عنوان (المسرح والعالم الرقمي ... الممثلون والجمهور) لكاتبه (انطونيو بيتزو) ولقد ضم الكتاب أربعة فصول ... عنون الفصل الأول بعنوان بليغ (تلوث المسرح) والذي يوضح فيه المؤلف ما نتج عن سعة انتشار الإنترنت ، وتوظيف تلك التقنية داخل اللعبة المسرحية ، واستخدامه لتعبير تلوث وما يعنيه بأن المسرح أصيب بتلك العدوي الرقمية شأنه في ذلك شأن الفنون والآداب الأخري التي أصابتها العدوي الرقمية نفسها. نظرية المسرح الرقمي والتي يقدمها الكاتب (أنطونيو بيتزو) من خلال استعراضه لما جاء من هذه الأطروحات المهمة والمتعلقة بما عرف بتاريخية المسرح الرقمي عالمياً وعروض مسرحية رقمية من خلال توظيف التكنولوجيا الرقمية في تلك المسرحيات . والتي يضيف مخرجوها من خلال تلك التكنولوجيا أجواء جديدة وانفعالات لم يعتاد عليها جمهور المسرح في السابق. ويشير الكاتب لعنوان اقترحته (بريندا لوريل (Brenda Laurel الحاسوب كمسرح Computer as Theater عام 1993م حيث تفترض في عملها ذلك أن العلاقات المؤسسة بالفعل من قبل التقديم المسرحي بين المشهد والجمهور يمكن أن تفيد لتحليل العلاقة بيننا وبين ما يحدث فوق شاشة الحاسوب ومعتمدة علي مرجعية ثقافية ونفسية وهندسية . وتتعدد المسميات الاصطلاحية عند بيتزو فنجده يبدأ بمسرح الحاسوب لينتقل إلي الممثل الرقمي والعرض الافتراضي والفضاء الالكتروني والمسرحي ، والعرض المسرحي الرقمي مروراً بمسرح الإنترنت وعروض أون لاين ليصل إلي التجريب المسرحي الرقمي ، والعرض الكوني ، ومرجع تعدد المصطلحات والمسميات السابقة إلي عدم ثبات المصطلح عالمياً وعربياً واختلافه من منطقة لأخري ومن مناخ ثقافي لآخر تبعاً لفاعلية ثقافة الحاسوب والإنترنت ومدي انتشاره وبالتالي سيطرة الثقافة الرقمية والتي تتباين صعوداً وهبوطاً من مكان إلي آخر. الوسائط الرقمية الجديدة وفي نفس الكتاب وتحت عنوان (المشهد المسرحي والوسائط الرقمية الجديدة ) يناقش المؤلف الواقع الافتراضي بوصفه بيئة إبداعية تشير إلي تجربة تمت في بداية التسعينات قام بها بعض الفنانين والباحثين في جامعة كانساس في الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو عرض يتم فيه دمج الممثلين الفعليين مع ممثلين آخرين من خلال تقنية (ثلاثية الأبعاد). ويتنبأ الدكتور محمد حسين حبيب -الحاصل علي دكتوراه فلسفة الإخراج من جامعة بابل بالعراق - بأن المسرح الرقمي قادم وأن الإنترنت حول عالمنا الكبير إلي مجرد شاشة زرقاء تجعلنا نتنقل من مكان لآخر ونحن قابعين أمام تلك الشاشة لساعات طويلة . وذلك الانتقال يخترق كل نظريات الزمان والمكان ومتجاوزاً كل وسائل الاتصالات التي أصبحت قديمة مقارنة بالإنترنت ، لقد أسبغ الإنترنت علي عالمنا صفة (الرقمية) في كل شيء وأصبحت هي الوسيلة المهيمنة. إن التكنولوجيا الرقمية بمفهومها المتداول هي دمج النص والإعداد والصوت والصورة وبقية العناصر المختلفة في الوسائط السابقة أصبح هو المهيمن علي حياتنا رغم إرادتنا ، وأن الإنترنت أصبح واقعاً برغم كونه افتراضياً لكنه استطاع أن يكسر حاجزي الزمان والمكان . ويستطرد الدكتور محمد حسين حبيب موضحاً أن التوقعات الغالبة بأن اليوم الذي ينتهي فيه استخدام الورق والحبر كوسائل معرفية بات وشيكاً علي الحدوث . ولقد أصبح الآن أمراً عادياً في أجناس أدبية جديدة أن تتحول تلك الأجناس إلي أجناس رقمية، سواء في الشعر أو القصة أو الرواية أو المسرحية. نجد علي سبيل المثال تجربة الروائي الأردني (محمد سناجلة) عندما عرض روايته الرقمية (شات) علي شبكة الإنترنت وفي موقع اتحاد كتاب الإنترنت العرب .... محققاً بذلك الريادة العربية في هذا المجال حيث إنك لا تستطيع قراءة تلك الرواية إلا علي الإنترنت و لا يمكن في الوقت نفسه تحويل هذه الرواية إلي كتاب مطبوع لأنها مكونة من صوت وصورة وحركة ورموز إلي جانب السرد الروائي ، كل ذلك يعمل بطريقة تأثيرية واحدة علي القارئ بهدف الإلمام بتفاصيل الرواية . المسرحية الرقمية فلقد بدأت المحاولات في كتابة نوع من المسرحيات قامت بترجمة مصطلحه د . فاطمة البريكي - دكتورة النقد والبلاغة في جامعة الإمارات - مؤخراً وهو (المسرحية التفاعلية Interactive Drama ) في مقالة لها بالعنوان نفسه ، وأن هذا النوع من المسرحيات التفاعلية متوافر حالياً علي شبكة الإنترنت . ويعد (تشارلز ديمر) رائد المسرحيات التفاعلية والذي ألف عام 1985م أول مسرحية تفاعلية كما أسس مدرسة لتعليم كتابة سيناريو المسرح التفاعلي في موقعه الخاص علي الإنترنت عبر تقديمه دورات تعليمية متعددة. والمسرحية التفاعلية كما عرفتها لنا فاطمة البريكي في مقالتها هي (نمط جديد من الكتابة الأدبية يتجاوز الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي الذي يتمحور حول المبدع الواحد إذ يشترك في تقديمه عدة كتاب ، كما قد يدعي القارئ للمشاركة فيه ، وهو مثال العمل الجماعي المنتج الذي يتخطي حدود الفردية وينفتح علي أفاق الجماعية الرحبة .... إن هذا التجريب في التأليف المسرحي يعد شكلاً مغايراً ، فهو يقوم أولاً بإلغاء شخصية المؤلف الأساسي ويمكن لأي قارئ أن يكون مؤلفاً بمجرد دخوله علي موقع المسرحية الالكتروني ويساهم في تكملة الأحداث التي لا تنتهي ، كأن يختار شخصية معينة ويهتم بها بغرض تفعيل مسيرتها الدرامية ، ثم يأتي شخص آخر ويختار شخصية أخري في المسرحية نفسها ويحاول أن يوسع مساهمتها في الحدث وهكذا تستمر العملية بلا توقف . وبالطبع لا يمكن تقديم مثل تلك المسرحية علي خشبة المسرح و لا يمكن قراءتها أو التفاعل مع مجريات أحداثها الأولية والتكميلية التي قام الآخرون بتأليفها إلا عبر شاشة الإنترنت . ومن هذا المنطلق يكون (تشارلز ديمر) ومسرحه التفاعلي مؤسس لنظرية مسرحية جديدة يقترح الدكتور . محمد حسين حبيب بتسميتها بنظرية المسرح الرقمي ، وهكذا توصل ديمر عبر عدد محدود من مسرحياته مثل (الأغنية الأخيرة لفيوليتا بارا ) ،( بات بوديمورت) وغيرهما إلي المسرحية الرقمية، بعد أن تحول كل شيء في عالمنا إلي أرقام وبالطبع فإن ذلك الشكل لا علاقة له بالمسرح التقليدي لاستحالة تحويل تلك النصوص الرقمية إلي عروض مسرحية ... بالتالي فإن المسرحية الرقمية شكل جديد من أشكال الإبداع استعان بتقنيات وحرفية كتابة المسرحية ولكنه سار في مسار خاص به لا يمكن أن ينفصل عن الإنترنت وبالتالي ومن وجهة نظري أفضل تسمية ذلك الاتجاه بالنصوص الرقمية والابتعاد بالتسمية عن مصطلح المسرح لأنه يختلف عنه تماماً .... وستظل الحالة المسرحية الحية .. حالة متفردة من الصعب أن تحققها كل الأشكال والأنواع الوليدة .. إن الحالة المسرحية حالة شديدة الإنسانية في مقابل تلك الأرقام المصنوعة!!