حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيخ راشد الغنوشي: لست الخميني وتونس ليست إيران
نشر في القاهرة يوم 25 - 01 - 2011

بداية من سنة 1990 اصطدمت الحركة بعنف مع السلطة وقد بلغت المواجهة أوجها أثناء أزمة حرب الخليج. في مايو 1991 أعلنت الحكومة إبطال مؤامرة لقلب نظام الحكم واغتيال الرئيس بن علي في مغارة- احتماء من القصف المتبادل بين الألمان والحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية- كان المشهد الأول من حياته، ولم يلبث الفرنسيون أن عادوا ينتقمون من "الخونة" أي الذين تعاملوا مع الألمان، فشهدت منطقه "الحامة" التي ولد بها الشيخ راشد الغنوشي عام 1941 انطلاقة الشرارة الأولي للمقاومة المسلحة ضدهم التي انخرط فيها بعض أقاربه ومع الاستقلال تجدد القصف علي السكان الأصليين أهل الثقافة العربية الإسلامية من طرف خلفاء الاستعمار بأشكال أشد توحشا لم تزدها الأيام إلا شراسة لا سيما بعد ظهور الصحوة الإسلامية التي لا يزال القصف علي حملة لوائها مستعرا ومع كل ذلك يمكن اعتبار أن طفولته عادية، فقد عاش في أسرة مستقرة يسودها الوئام.
عندما كان الغنوشي في السنة النهائية من الدراسة الثانوية حسب نظام التعليم الزيتوني الذي كان قد تعرض لعملية إصلاحية معتبرة استهدفت استيعاب العلوم الحديثة في إطار الثقافة العربية الإسلامية، كانت أهم مواد الدراسة التي شدته بقوة مادة الفلسفة، فامتلأ إعجابا بها وكان مولعاً بالجدل حول القضايا النظرية، كالايمان بالله، ومصير الإنسان بعد الموت والقضاء والقدر، وهو ما جعل في يده أسلحة كان يلذ له استخدامها في معاكسة وتسفيه والسخرية من بعض المشايخ الذين كانوا يدرسوننا العلوم الدينية وكان دائما يقول "الحقيقة أني تخرجت في جامعة الزيتونة لا يشدني إلي الإسلام إلا بعض ما تلقيته من والدي أما من الناحية الفكرية فقد كنت أقرب إلي الشك والحيرة والتمرد علي القديم".
فمن بين حوالي ثلاثة آلاف طالب كانوا يدرسون في جامعة الزيتونة في مرحلة متأخرة لم يكن يؤدي الصلاة غير ثلاثة أو أربعة طلبة، تلك كانت الحال والتعليم عربي إسلامي. كان لجامع الزيتونة أبواب تفتح علي الأسواق، وكان التجار يعرفون موعد صلاة العصر عندما يخرج الطلبة إلي صحن الجامع ليدخنوا، فكان ذلك مؤشراً علي وقت صلاة العصر، فيغلق التجار دكاكينهم مسرعين إلي أداء الصلاة، بينما يكون طلبة العلوم الشرعية يدخنون ويمزحون، وما ذلك إلا بسبب تخلف العلوم الدينية ومناهج تدريسها.
وكرد فعل طبيعي لمثل هذه الشخصية انخرط الغنوشي في دروس مكثفة لتعلم الألمانية في المركز الثقافي الألماني لمدة تقارب السنة. ورغم أن تحصيله كان جيدا، إلا أن نفسه عاودها الحنين إلي المشرق. وكان المال هو الحاجز، فقررت الانخراط في سلك التعليم الابتدائي لتحصيل قدر من المال يرتب به وضعه ويسافر.
طموح فوق العادة
كان طموحه كبيرا لا سيما وأن شقيقيه - وكانا مثلين بالنسبة له - كان أكبرهما قاضياً، وكان الآخر الذي يكبره مباشرة محامياً، فلم يكن مناسباً لي أن يقتصر عمله علي التدريس الابتدائي. فكان قلبه طافحا بحب المشرق العربي الذي كان ملجأ روحيا للمجتمع الأهلي العربي الإسلامي في مواجهة الرياح اللافحة القادمة من الغرب، والتي حققت نصرها مع الاستقلال بزعامة بورقيبة والنخبة المتفرنسة. ولذلك سرعان ما عافت نفسه البلاد، فظل يتحين الفرص حتي استخرج جوازاً وجمع بعض المال من شغله وسافر باتجاه المشرق إلي مصر.
وهناك اجتمع مع حوالي 40 من الطلبة التونسيين المعربين من أمثاله، كلهم قدم إلي المشرق بمفرده من أجل مواصلة الدراسة في الجامعات المصرية وجدوا جميعا صعوبات كبيرة من أجل التسجيل في الجامعة، إذ لم يكن التسجيل في الجامعات المصرية يسيراً في ذلك الوقت (أكتوبر 1964)، وكانت السفارة التونسية تطاردهم وتعتبرهم خطراً مستقبلياً، لذلك كانت تعمل جاهدة علي استعادتهم بالقوة. إلا أنهم استفادوا في البداية من الخصومة التقليدية التي كانت قائمة بين بورقيبة وعبد الناصر، فمارسوا ضغوطاً شديدة، وتظاهروا أمام بيت عبد الناصر إلي أن حصلوا علي حق التسجيل في الجامعة وسرعان ما التحق الغنوشي بكلية الزراعة في جامعة القاهرة حيث درس حوالي ثلاثة شهور من عام 1964.
غير أن وضعه لم يستقر، إذ سرعان ما حصل نوع من التصالح بين الزعيمين، وما لبث أن استجاب النظام المصري لطلب السفارة التونسية في استرداد «هؤلاء الآبقين»، فذهب إلي الجامعة ذات يوم ليجد اسمه قد شطب، وبدأ البوليس يطارده وزملاءه لتسليمهم إلي السفارة التونسية لتعيدهم قهراً إلي البلاد، وتنأي بهم عن مفاسد وأيديولوجيات الشرق. وفعلاً تمت استعادة عدد من زملاء الغنوشي.
لم يدر بخلده حينها أن فصلهم من الدراسة كان بقرار من عبد الناصر، فهو عنده المثل الأعلي، بل نسب ذلك إلي بعض الموظفين، أن عبد الناصر هو أكبر من أن يشتغل بقضية جزئية ويرتكب مثل هذا الجرم. وحينها أصبحت قضيتهم: كيف نهرب من مصر، لأن السفارة كانت تريد أن تجمعهم وتضعهم في طائرة وترسلهم إلي تونس. فتصرف كل منهم بطريقة فردية.
أما الغنوشي ففكر أن أذهب إلي ألبانيا، وبينما هو في مركز حجز التذاكر لأحجز إلي ألبانيا، التقي به أحد أبناء بلدته، وكان يدرس في مصر، فلما عرف أنه أنوي الذهاب إلي ألبانيا استغرب، وقال له «لا تذهب إلي هذا البلد، هذا البلد مغلق»، فأقنعه ورغبه في الذهاب إلي سوريا، وهكذا تحول وجهه قدراً من ألبانيا إلي سوريا، وهناك انتقل من الزراعة إلي الفلسفة، وكان قد قدم إلي سوريا حاملاً لفكرٍ قومي عاطفي ككل المعربين في تونس، الذين كانوا يتجهون إلي المشرق يطلبون عنده السند المعنوي والإلهام في مقاومة مجتمع قادته وأخذت تدفعه بلا هوادة الدولة الحديثة وحزب الدستور نحو أحضان فرنسا. كان المجتمع التونسي منقسماً بين متغربين هم الذين بيدهم السلطات، وبين معربين تطوف قلوبهم بالمشرق دفاعا عن الذات وكان المشرق في ذلك الوقت يفيض بمشروع العروبة الناصرية، التي كانت تجتذب المعربين بقوة، وهم المجتمع الأهلي أو السكان الأصليون، في مواجهة النخبة التي فصلها التغريب عن أصولها، وربطها ربط مصير مع الاحتلال، رغم مقاومتها السياسية له لقد مثلت مصر الناصرية قطب جذب عارم للسكان الأصليين، إذ أعطتهم آمالا واسعة باستعادة عزة المسلمين وعزة العرب، وكانت الناصرية في شمال أفريقيا تأخذ صورة الإسلام، لأن أهل شمال إفريقيا لا يميزون بين الإسلام والعروبة. وكان خيالي عامراً بأروع الصور عن المشرق، وساهم في ذلك بعض الأساتذة الذين كانوا يدرسوننا ممن تخرجوا من جامعاته. كان هؤلاء معارضين، وكانوا يملؤوننا بحياة المشرق ويعطوننا آمالاً كبيرة فيه وفي الناصرية خاصة، ويعلقون عليها آمالاً كبيرة في استعادة عزة العرب وتحرير فلسطين.
وكان يدور من جهة أخري صراع شرس، بين التيار القومي العلماني عامة وبين التيار الإسلامي الذي كان تياراً قوياً في وسط الجامعة. وكان يوجد في مركز جامعة دمشق مسجد يحتل موقعاً جميلاً جداً في وسط الحديقة وكان يقوم بدور كبير في توجيه الطلاب عبر نشر الكتيبات الإسلامية وعبر الدروس والمناقشات.
اكتشاف أوروبا
في شهر يونيو سنة 1965سافر الشيخ راشد الغنوشي- علي عادة الطلبة التونسيين هناك - إلي تركيا ثم بلغاريا ثم يوغسلافيا فالنمسا فألمانيا ففرنسا وبلجيكا وهولندا. قضي سبعة أشهر في هذه الجولة التي استمرت من أول يونيو إلي يناير من السنة الجديدة، فكلية الآداب لم يكن الحضور فيها إجبارياً، وكان هدفه من هذه الجولة الاطلاع علي بلاد الغرب كان لديه دافع لأن يعيش في الغرب، العالم المجهول، وتعرف علي الحياة فيه.
بعد رجوعه إلي سوريا اكتشف أن هناك طلبة تونسيين سابقين له في الدراسة قد انتموا إلي "الاتحاد الاشتراكي"، فانتسب إليه في السنة الثانية، وهو حزب ناصري متفرع عن التنظيم الناصري الأساسي في مصر، الذي كان يعرف باسم الاتحاد الاشتراكي العربي، والذي ألغاه السادات وأنشأ الحزب الوطني بديلاً عنه. لم يبق الغنوشي في الحزب إلا سنة واحدة، انتقل خلالها من قومي عاطفي إلي قومي أيديولوجي ملتزم، وبدأ يتعرف في داخل خلايا القومية علي حقيقة الفكر القومي.
انخرط في نقاش داخل الحزب حول علاقة القومية أو علاقة العروبة بالإسلام، وكان يأتيه كل مرة مسئول يناقشني، وكان يطلب باستمرار تحديداً واضحاً لمكانة الإسلام في الحزب. فانتهي إلي أنه لا علاقة للإسلام بهذا الحزب، وأن بإمكان المنتمي للحزب أن يكون معتنقاً لأي دينٍ شاء، أو أن لا يعتنق ديناً أصلاً. عندئذٍ استيقنت أني مغرر به.
وفي النهاية اطمأنت نفسه تماماً إلي فساد المنهج القومي وإلي أن عروبة المشرق غير العروبة التي عرفها في بلاده، واطمأن قلبه تماماً إلي الإسلام بديلاً عن العروبة يحتويها ويعزها ويتجاوزها. وأدرك في الوقت نفسه أن الإسلام الذي نشأ عليه ليس هو الإسلام الصحيح، وإنما كان إسلاماً تقليدياً بدائياً مخلوطاً بمواريث عصر الانحطاط، لا يمثل رؤية عامة للكون والحياة ولا نظاماً شاملاً للحياة، وإنما مجرد تدين تقليدي شخصي وخلاص فردي بعد الموت، ولذلك اعتبر نفسه لم يكن مسلماً حقاً.
من الشرق إلي الغرب
ذهب مباشرة بعد انتهاء دراسته في سوريا صيف 1968 إلي فرنسا لمتابعة دراسته العليا في الفلسفة، وكانت إضرابات الطلاب التي تفجرت في 3/5/1968 قد انتهت منذ أشهر قليلة، ولم يكن قد رجع إلي تونس منذ خرج منها مخافة أن تمنعه السلطات من المغادرة. كانت الحياة الطلابية عامة محكومة بالفكر اليساري ولم أتعرف علي فكر أقصي اليمين إلا من خلال جريدة محدودة الانتشار la Nation كنت قد اشتركت فيها بسبب مناصرتها للقضية الفلسطينية ومعركتها مع الصهاينة.
جماعة التبليغ
وفي باريس، لم يكن للحياة الفرنسية أثر كبير علي فكري وسلوكي، ربما بسبب حظ ساقه القدر لي، إذ تعرفت فيها علي جماعة التبليغ، التي وجدت فيها الحماية من الريح العاتية، فضلاً عن كونها أضافت إلي تكويني بعداً لم يكن موجوداً. إذ إن هذه الجماعة تأسس فرعها في باريس علي يد مجموعة صغيرة من الباكستانيين، أتت إلي باريس سنة 1968، وأسست نواة صغيرة من بعض العمال المغربيين، وبعض الباكستانيين. وفي حي فقيرٍ جداً، ومن منزل صغير لتاجر جزائري اسمه سي عبد القادر، يقع في 15شارع بال فيل Belle Ville اتخذ مكاناً للدعوة، كان منطلق تجربتي الدعوية الأولي. ولما كانت المجموعة معظمها من العمال، فقد جعلوا مني إماماً لهم علي الرغم من افتقاري لأي تجربة في العمل الدعوي، وهناك اتبعنا طريقة جماعة التبليغ في الخروج للمساجد والشوارع، والذهاب لمواطن العمال في أحيائهم وحتي في حاناتهم لدعوتهم إلي الإسلام، إلي إسلام بسيط متمركز حول الجوانب الروحية الدافئة، كالصلاة الجماعية والذكر والتلاوة والأخوة، وإكرام المسلم والتلطف مع المخطئين، ومساعدتهم في حنان علي التوبة. وكم من مسكين غارق في الخمر تلطف الدعاة معه وهو يعبث بلحاهم أو يسبهم، ولكنهم لا يزالون به حتي يتطهر ويتحول إلي داعية كبير. كانوا يقدمونني فكنت أنا المتحدث. لقد اندمجت وجدانياً وحياتياً مع هذه الطبقة المسحوقة من العمال المغاربيين، إذ عشت معهم في أحيائهم المعدمة، ولمست عن كثب مدي شقائهم وأصالتهم، وكانت تجربتي الدعوية الأولي معهم التي التحمت فيها خلفيتي الريفية الفقيرة مع إرث الفكر اليساري الناصري مع هذا الإسلام الشعبي البسيط.
فهنا، في" حي بال فيل" و"درانسي" و"نانتير"، نزلت ثقافتي الإسلامية من برجها الفلسفي، إلي مستوي وهموم هذه الفئة المسحوقة الملفوظة والمقتلعة من أرضها، فبدأت أتعلم الخطابة، وتحولت من أستاذ فلسفة إلي مثقف إسلامي إلي داعية. وتمت عملية التحول هذه علي أيدي جماعة التبليغ، بما تتميز به حياتهم من بساطة وتواضع، وتركيز علي الجانب الروحي من الإسلام، وعلي اتباع السنن، وكان لهذا الجانب أثر في نفسي ظل ملازماً لشخصيتي. حتي أنني عندما عدت إلي تونس عدت بفكرٍ إسلامي سياسي إخواني مودودي وفلسفي، لكن بتجربة عملية تبليغية، ولم يكن معي من منهج عملي للتحرك بالإسلام بعدما عدت إلي تونس، غير منهج التبليغ. ولذلك انعكست التجربة علي أسلوب عمل مجموعتنا في تونس، إذ ظللنا ثلاث سنوات تقريباً علي منهاج جماعة التبليغ، نجتمع في المسجد لحفظ آيات من كتاب الله العزيز، وأحاديث النبي عليه السلام، ثم ننطلق إلي المساجد ندعو الناس إليها من الشوارع المحيطة لوعظهم وترغيبهم في الصلاة والاستقامة، وذلك بعيدا عن كل تأثير سياسي. غير أن السلطة ما لبثت أن أوقفتنا، بما فرض علينا إعادة النظر في هذا المنهاج العلني الصرف والبسيط، وانتهينا إلي أنه لا يتناسب مع ظروفنا، لأنه منهاج مفتوح لا سرية فيه إطلاقاً، قد يتناسب مع ساحة عمل مفتوحة كالهند والباكستان وبلاد الغرب، ولكنه لا يتناسب مع بلد محكوم بنظام الحزب الواحد، المتطرف في فرديته وعلمانيته. فكيفنا وضعنا بحيث يشتمل علي تثقيف شعبي علني، وعلي تكوين تنظيمي سري، ومن هنا بدأت حاجتنا للاستفادة من منهاج الإخوان وتجربتهم.
العودة إلي تونس
ولكن بعد ما يزيد عن سنة جاء أخوه الكبير الحاج المختار إلي فرنسا، بعد أن بلغه أن الغنوشي كان انتقل مع جماعة الدعوة والتبليغ بين أحياء العمال. وبعض هؤلاء العمال كانوا من قري الجنوب، فنقلوا هذه القصة إلي عائلته التي هالها الأمر، فابنهم الشاب غادر البلاد عصرياً «مودرن» وكان منتظراً أن يرجع أكثر عصرية، فإذا به يبلغهم من أخباره أنه انتهي إلي شيخ سائح في الأرض، فخشوا أن يكون قد أصابه جنون، فأرسلوا له كبير العائلة لإنقاذه!
وكانت النية أن أذهب لزيارة والدتي خلال شهر وأعود، وكان طريق العودة عبر الأندلس، فمر بقرطبة وزار المسجد الكبي، وكان لذلك أثر كبير في نفسه، إذ بكي بكاء مراً حتي أخوه رغم عدم التزامه - مع أنه كان حافظاً لكتاب الله، إلا أنه بسبب المناخات العلمانية في الخمسينات والستينات ترك الصلاة - عندما وقف في مسجد قرطبة انفجر من أعماقه يبكي. ومنذ تلك اللحظة، عاد إلي الصلاة ولم يتركها حتي توفاه الله. ويتذكر الغنوشي هذا الموقف قائلا: " لما وقفت لأصلي في المحراب، جاء قسٌ ليمنعني، فغضبت غضباً شديداً، وكنت مستعداً لأن أقاتله، فتركني وشأني، أؤذن في المسجد وأصلي في المحراب". وبعد ذلك مروا علي الجزائر، والتقي الغنوشي هناك بمالك بن نبي، وكان هذا اللقاء هو حلم من أحلام حياة الغنوشي.
استقرار مفاجئ
عاد الغنوشي إلي تونس، وكانت التجربة الاشتراكية تحتضر والتغريب قد بلغ مداه، حتي قدر أهل الفكر العلماني أنه إقلاع بلا عودة. وكان في طريق عودته زار جامع الزيتونة، ولفت نظره وجود شاب كان ظاهرة شاذة حسب تقديره، تعرف عليه، فقاده إلي حلقة لجماعة التبليغ أنشأها الباكستانيون منذ سنة، تضم خمسة أشخاص، يقومون بالدعوة. كان من بين الخمسة شاب معمم هو الشيخ عبد الفتاح مورو، وعرف أنه كان طالباً في كلية الحقوق. كان تعرفه علي تلك الحلقة وعلي الشاب الشيخ قد أعاد لي الأمل، أن الخير لم ينقطع في هذا البلد المنفلت، فانضم إليهم، وانطلقوا في دعوة الناس إلي المساجد وتعليمهم الصلاة. وانصرف عن العودة إلي باريس، لتنطلق الشرارة الأولي لحركة النهضة
ترجع بدايات الحركة إلي أواخر الستينات تحت اسم "الجماعة الإسلامية" التي أقامت أول لقاءاتها التنظيمية بصفة سرية في أبريل 1972. أقامت الجماعة مؤتمرها الثاني (بشكل سري أيضا) في مدينة "سوسة" يومي 9 و10 أبريل 1981 في نفس الفترة الذي عقد فيها الحزب الاشتراكي الدستوري مؤتمره الاستثنائي الذي أعلن فيه الرئيس الحبيب بورقيبة أنه لا يري مانعا في وجود أحزاب أخري إلي جانب الحزب الحاكم. أقر المؤتمر الثاني للحركة ضرورة اللجوء إلي العمل العلني كما أقر تغيير الاسم ليصبح "حركة الاتجاه الإسلامي".
تم الإعلان عن الحركة بصفة علنية في 6 يونيو 1981 أثناء مؤتمر صحفي عقده الغنوشي وعبد الفتاح مورو، تقدمّت الحركة في اليوم نفسه بطلب إلي للحصول علي اعتماد رسمي دون أن تتلقي أي رد من السلطات . في 18 يوليو1981 ألقت السلطات القبض علي قيادات الحركة ليقدموا في شهر سبتمبر للمحاكمة بتهم: الانتماء إلي جمعية غير مرخص بها، النيل من كرامة رئيس الجمهورية ، نشر أنباء كاذبة، توزيع منشورات معادية . حكم علي الغنوشي ومورو بالسجن لعشر سنوات ولم يفرج عن الأول إلا في 1984 إثر وساطة من الوزير الأول محمد مزالي في حين أطلق سراح الثاني عام 1983. شهدت منتصف الثمانينات صعودا للحركة وتناميا للصدامات مع السلطة. شهدت الصدامات أوجها سنة 1987 مع الحكم علي الغنوشي بالأشغال الشاقة مدي الحياة واتهام الحكومة للحركة بالتورط في التفجيرات التي استهدفت 4 نزل في جهة الساحل.
حكم بن علي
رحبت الحركة بالإطاحة بالرئيس بورقيبة في 7 نوفمبر 1987 ، فيما قام النظام الجديد منذ الأشهر الأولي بالإفراج عن أغلب أعضاء الحركة المسجونين. في 7 نوفمبر 1988 كانت الحركة من الممضين علي وثيقة الميثاق الوطني التي دعي إليها الرئيس بن علي كقاعدة لتنظيم العمل السياسي في البلاد. شاركت الحركة في الانتخابات التشريعية في أبريل 1989 تحت لوائح مستقلة متحصلة (حسب النتائج المعلنة) علي حوالي 13% من الأصوات في 1989 غيرت الحركة اسمها إلي "حركة النهضة" للتقيد بقانون الأحزاب الذي يمنع "إقامة أحزاب علي أساس ديني" إلا أن طلبها بالترخيص جوبه بالرفض من طرف السلطة. في 28 مايو 1989 غادر راشد الغنوشي البلاد في اتجاه الجزائر، وقد تولي الصادق شورو رئاسة المكتب السياسي للحركة منذ أبريل 1988. بداية من سنة 1990 اصطدمت الحركة بعنف مع السلطة وقد بلغت المواجهة أوجها أثناء أزمة حرب الخليج. في مايو 1991 أعلنت الحكومة إبطال مؤامرة لقلب نظام الحكم واغتيال الرئيس بن علي. شنت قوات الأمن حملة شديدة علي أعضاء الحركة ومؤيديها وقد بلغ عدد الموقوفين 8000 شخص . في أغسطس 1992 حكمت محكمة عسكرية علي 256 قياديا وعضوا في الحركة بأحكام وصلت إلي السجن مدي الحياة. واصلت السلطة في السنوات التالية ملاحقتها للمنتمين للحركة وسط انتقادات واسعة لجمعيات حقوق الإنسان. رغم الإفراج عن أغلب عناصرها المسجونين تبقي نشاطات الحركة محظورة بشكل كلي في تونس ويقتصر نشاطها المعروف علي أوروبا وأمريكا الشمالية في أوساط التونسيين في الخارج.
المحاكمة والسجن
حوكم الشيخ الغنوشي بسبب نشاطه الدعوي والسياسي عدة مرات، وكان أهمها: محاكمته عام 1981 وقد حكم عليه بالسجن 11 عاما. محاكمته عام 1987 وقد حكم عليه بالسجن مدي الحياة. محاكمته غيابيا عام 1991 مرة أخري بالسجن مدي الحياة. محاكمته غيابيا عام 1998 بنفس الحكم السابق.
أعلن الغنوشي في حديث مع مجلة «در شبيغل» الألمانية من منفاه بلندن أنه يتطلع إلي العفو، و أنه يأمل في العودة قريبا جدا إلي تونس. وقال راشد الغنوشي: «أنا قبل كل شيء مواطن تونسي يريد العودة إلي بلاده» موضحا أنه «يأمل» أن تتم هذه العودة «قريبا جدا». وردا علي سؤال حول تطلعاته، أكد الغنوشي أنه «ليس الخميني وأن تونس ليست إيران» وأنه يريد «تقديم مساهمته الفكرية في هذا المنعطف التاريخي الذي يخرج تونس من عهد القمع إلي الديمقراطية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.