هذا الفيلم القصير .. آخر ما أخرجه مخرج الجوائز «عزالدين سعيد» يجتاحك كالإعصار يتسلل إلي قلبك وشرايينك رويدا رويدا.. ثم يفجر بيها الدماء الساكنة .. فتري الدنيا حمراء من خلالها.. لا يتركك في حالك شأن الكثير من الأفلام التي نراها .. والتي تتقاطر علينا كحبات مطر لا طعم لها ولا لون .. بل يسيطر عليك وعلي أفكارك وأحلامك.. ويدفعك إلي أن تفكر في نفسك في طفولتك في معتقداتك .. وفي الآخرين وفي علاقتك بربك وعلاقتك بمن يحملون اسمه وعلاقتك بمجتمعك وبمن يمثلونه. ملامح الاشياء المخرج الشاب أهدي في فيلمه إلي يوسف إدريس وقصة «سره الباتع» وهو إهداء في محله، لأن روح يوسف إدريس تسيطر تماما علي الأحداث.. وكما في عالم يوسف إدريس تتغير ملامح الأشياء التي اعتدنا أن ننظر إليها، وتتغير زوايا النظر وتتبدل الأحكام المطلقة المتعارف عليها .. إلي خضم مضطرب من الأفكار التي تتصارع.. ويحاول الجديد منها أن يلقي ستارا كثيفا علي هذا القديم والمتعارف. عالم يوسف إدريس ونظرته العقلانية التي تختلط بها القسوة المفرطة بالحنان المتدفق لم تكن غريبة علي دنيا «عزالدين سعيد» في أفلامه الأولي.. التي اعتمدت في معظمها علي قصص لنجيب محفوظ .. عرض معظمها في مهرجانات الاعلام العربي ومهرجانات الأفلام القصيرة في مصر وخارج مصر.. ونالت جوائز شتي وفتحت دوائر للنقاش الحار بين متحمس حتي الثمالة وبين رافض لهذا المتمرد الشاب الذي يحمل عاليا راية العصيان، وهكذا مثلا رأينا «الغرفة رقم 14» بكل ميتافزيقيتها والزيارة بكل غرائبها والسلطان وكلها مأخوذة من قصص قصيرة لنجيب محفوظ أدخلها المخرج في بوتقته الخاصة لتخرج علينا حاملة روح الكاتب ولكنها مزركشة ومزينة بكل موهبة المخرج والمعد. كثير من أعمال نجيب محفوظ ورواياته وقصصه القصيرة، نقلت إلي السينما وإلي التليفزيون ولكن هذه القصص عندما دخلت إلي ضمير عز الدين سعيد تفاعلت بطريقة أخري .. وبمنهج مختلف وبأسلوب يحمل عطره الخاص وتأثيره القوي. الدراما السوداء وإذا كانت الصفقة وهي واحدة من أواخر أعماله .. قد اعتمدت هذه المرة علي «بعثه» إن جاز هذا التعبير لأبي القيم الجوزية قد حققت نجاحا في مهرجان للأفلام القصيرة في باريس، فأنا أعتقد أن «مولانا» وهو عمله الروائي القصير الأخير الذي يقدمه لنا قبل أن يدخل عالم التليفزيون بمسلسل طويل يحكي حياة نجيب الريحاني، وأنا حقا شديد الفضول لأري النظرة التي سيقدمها هذا المخرج الغارق حتي أذنيه بعالم الدراما السوداء التي تقترب أحيانا من حدود التراجيديا .. ومن التعبير الساخر الذي يصرخ بعذابات القلب.. أكثر مما يثير الضحك والابتسام في عالم الريحاني .. الذي سيقدمه لنا كعادته من خلال ايقونته الساحرة الخاصة به.. كما فعل مع يوسف إدرس ونجيب محفوظ. أما عالم السينما فينتظره في فيلم طويل باسم «للبيع» كتبه محمد الدرة «وهو بالطبع لا يمت بصلة إلي الشهيد الفلسطيني الصغير .. الذي أثار مشهد مقتله العالم أجمع». تدور أحداث «مولانا» في قرية مصرية صغيرة علي ضفاف النيل أو أحد فروعه قرية شأن كل القري.. يتجمع سكانها المؤمنون حول ضريح ولي مقدس هو «مولانا» كما يطلقون عليه .. يشكون إليه همومهم وأوجاعهم .. ويطلبون وساطته ليخرجهم من مأزقهم ومآسيهم وعذابهم.. يشعلون له الشموع ويقدمون له الهدايا .. ويبكون ويتوسلون ويلهجون بالدعاء أمام حديد ضريحه .. الذي يقع في زاوية بعيدة من القرية في ركن تحيط به الظلال والأشجار. مطاردة القطار إننا نري الطفل بطل الأحداث منذ البداية يطارد القطار والعربيات وكل ما يسرع أمامه يريد أن ينافسه في السرعة والوصول إلي الهدف.. ثم نراه يناجي القمر.. والقمر في الأرياف يبدو كقرص مشتعل من العسل يحادثه ويسامره ولكنه يتوقف أمام «قمر رمضان» بشكل خاص لأن هذا القمر يوفر للناس ما لا يوفره غيره .. أنه يطعمهم ليلا في السحور .. وهذا ما يرغب فيه الطفل وما يمنعه عنه أبوه .. أصبح السحور بالنسبة إليه مطلبا ممكنا ولكنه عسير التحقيق.. كالإمساك بضوء القمر.. الذي يغلف ليل القرية بردائه الشفاف السحري. يطالب أباه بأن يتقاسم مع الأسرة سحورها،.. ولكنه لا يتلقي ردا سوي الضرب المبرح.. وشروط مستحيلة ألا يجوز له أن «يتسحر» مالم يصلي ويصوم وهكذا يقبل الطفل الشقي الذكي النهم لمعرفة المجهول وتجريب مالا يعرف هذه الشروط العسيرة ويقرر الصلاة مع جموع المصلين ثم صيام النهار الطويل كما يصل أخيرا إلي تحقيق أمنيته العزيزة بتناول السحور. ويلعب الطفل «كريم عبدالقادر» بصورة مدهشة دور هذا الطفل الثائر ويقدم لنا وجها طافحا بالنور والذكاء والتأمل واستطاع عزالدين سعيد أن يستخرج منه جواهر كثيرة كامنة داخله. قمر ساطع لقد أضاء وجه الطفل شاشة المخرج كما أضاء قمره الساطع سماء هذه القرية الصغيرة الغامضة الملتفة حول نفسها وحول قبر «مولاها» المقدس. لكن الطفل الصغير الذي تعود أن يلمس الماء بأصابعه لم يطق العطش حاول أن يقاومه طويلا ولكنه لم يستطع دفع اغراء شرب الماء خلسة. وهنا يقدم لنا المخرج مشاهد رائعة لنشوة شرب الظمآن للماء.. فيها الكثير من الحسية وفيها الكثير من التمرد. ولكن سرعان ما يكتشف أمر الصغير.. وينهال عليه والده ضربا وصفعا. ولا يجد الفتي ملجأ إلا بيت من البيوت الحمراء تفتح له بابه امرأة ناضجة الأنوثة.. ليكتشف من خلالها متعة الجسد بعد أن عاش متعة التمرد.. واستحق عليها الجزاء.. ولكنه هذه المرة استطاع أن ينتزع لنفسه حق المتعة. كان وصوله للسحور مطلبا تقدم به لمولانا كما يتقدم إليه جميع البؤساء وطالبو النجدة الفقراء.. وقد استجاب مولانا لشموعه التي اشعلها له وحقق له هذا الحلم الذي طالما تمناه ولكنه جعله يدفع غالبا ثمن حلمه. لذلك فإنه قرر الثورة علي «سلوك» مولانا معه وأن يسرق ليلا الشموع التي تقدم له نهاراً لكي يبيعها من جديد ويشتري من ثمنها سجائر ويتردد بواسطة ما يكسبه علي البيوت الحمراء التي تتشابه أبوابها ولكن لا تتشابه نساؤها. وتمر الأيام ويموت الأب الظالم وتتوقف ركلاته وصفعاته ويصبح الفتي رجلاً ولكن الرجل لم يختلف عن الفتي في سرقة الشموع واعتبار ضريح الولي ستارا ووسيلة لطرق «الأبواب الحمراء» عن طريق الشموع المقدسة التي تقدم له كل يوم. وفي ليلة قسا فيها البرد وبعد أن هدمت الحكومة القاسية بيته لرصف طريق معبد للقرية.. مما جعله يبات في العراء، لذلك فإنه يطلب من مولانا أن «يستضيفه» في ضريحه الدافئ وهكذا يكسر القفل الحديدي .. ويتسلل إلي الداخل ويزداد فضوله لمعرفة «مولانا» أكثر وخلق صلة دائمة معه يتسلل إلي داخل القبر ولكنه لا «يجد شيئا» أين ذهب مولانا وهل كان مولانا موجودا أصلا. الشموع المسروقة وتمتد سرقاته أكثر مادام «مولانا» غير موجود فلماذا يكتفي فقط بسرقة الشموع إنه يمد يده إلي غطاء الضريح الأخضر.. إلي أبوابه المعدنية وأعمدته الخشبية يأخذ منها ما يستطيع ليبيعه ويعيش منه الحياة التي يرجوها.. انه اتفاق ضمني بينه وبين مولانا الذي لا يظهر ولا يعترض ولا يقف تجاهه ولا يقف معه. وينكشف أمر «السارق» وتحوم القرية كلها ورائه لتشيعه لكماً وضرباً وطرداً ولكن هل يمكن لصاحبنا أن يروي لأهل القرية الذين تمحورت أمالهم كلها حول «مولانا» بأن مولانا لا وجود له إلا في خيالهم البائس المريض .. الذي يحتاج لأسطورة «مولانا» كي يستمر في حياته . «عزالدين سعيد» يضرب هذه المرة في العمق يصل إلي الاحشاء .. ويدخل اصابعه في العيون يلجأ كعادته إلي صورة براقة متلألئة .. ليقدم فيها رؤياه عن القرية وسكانها من خلال لقطات طويلة مكبرة أو من خلال تفاصيل صغيرة موحية. يمسك بشعاع القمر.. بسكون النيل الغامض بنشوة الماء المتدفق من «الزلعة» إلي الفم الظمآن، من رعشة جسد الأنثي إلي لوعة البائس وهذيانه أمام ضريح صامت يخفي «سره الباتع». عز الدين سعيد يقول في فيلمه عن طريق الصورة والموسيقي والأداء العفوي لكل ابطاله «يترأسهم الطفل الصغير المبدع» ثم هذا المونتاج اللاهث الذي يبدو مترنحا أحيانا كضربات القلب.. أو طويلا عميقا كشهقة حارة من الصدر. فيلم قصير انتجته القنوات المتميزة فأضافت إلي فن الفيلم الروائي القصير أجنحة من ريش ومن ذهب واضافت لسينمانا الشابة اسما جديدا نعتز به ويمكن أن يضع سينمانا في المقام الكبير الذي تستحقه.