للمسألة الطائفية المصرية وجهان أو مستويان: الأول هو المستوي الثقافي الاجتماعي السياسي والذي يتمثل في شعور الأقباط المصريين بتهميشهم وإقصائهم المتعمد عن المشاركة في المجتمع، والإحساس المستمر بأنهم أقلية يجري عليها الظلم باستبعادهم الدائم عن تولي المناصب القيادية في الجيش أو في التعليم أو ... أو ....إلخ. وهو المستوي الشائع لمسألة الطائفية واحتقان الشارع المصري، وهو نفس المستوي الذي تدور حوله النقاشات والمساجلات بين مؤيد ومعارض، أو بين مُلفِّق وموفِّق، ولا تكاد تجد مصريا واحدا إلا وهو ىُدلي في ذلك المستوي برأي . أما المستوي الآخر للمسألة الطائفية فهو المستوي الديني العقدي، ورغم أنه الأخطر والأهم إلا أن الجميع غافل عنه بقصد أو بدون قصد؛ رغم أنه المستوي الذي يشكل جُرحا كبيرا في وجدان ومشاعر الأقباط المصريين ، ويمكن إيجاز واختزال هذا المستوي في إصرار الخطاب الإسلامي بكل تجلياته الرسمية والشعبية في اعتبار ونعت أهل الكتاب ب "الكافرين" رغم أن القرآن نفسه لم يصفهم جميعا بالكفر، بل فرَّق بين المؤمنين منهم وغير المؤمنين إذ يقول: «ما يود الذين كفروا مِن أهل الكتاب ولا المشركين أن ينَزَّل عليكم من خير من ربكم» [البقرة 105] فهناك الذين كفروا (مِن) أهل الكتاب وليسوا كلهم ، وهناك قوله تعالي " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب "- آل عمران 199- أو دعونا نقرأ قول الله تعالي " وكيف يحكِّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " المائدة43، فهل من المعقول أن يكون فيها حكم الله - زمن النبي الكريم - ثم ندعي نحن في موروثنا أن التوراة باطلة ؟ وبين أيدينا قوله تعالي " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " - آل عمران 113- ولا يتوقف الخطاب الإسلامي المعاصر عند هذا الحد بل يمضي قُدُما في نعت الكتاب المقدس بعهديه بالتحريف، يستوي في ذلك وعي وخطاب وثقافة شيخ الأزهر الشريف ومفتي الجمهورية مع أصغر إمام زاوية في قرية من قري مصر المحروسة الذين لا يحلو لهم رفع شأن وقداسة القرآن إلا بالحط من قدر كُتب أهل الكتاب خاصة الإنجيل ووصمه دائما وأبدا بالكتاب المُحَرَّف، ولا يستطيع أحد للوهلة الأولي أن يناقشهم في صدق مقولاتهم هذه أو ادعاءاتهم تلك؛ فالآيات القرآنية صريحة وواضحة وتبدو - أمامهم - ناصعة البياض لا لبس فيها ولا غموض؛ ما داموا يأخذون بظاهر الآيات ويهدرون سياقات عدة، وكيف لا يستشعرون الزهو والقوة وأمامهم قول الله تعالي " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ظنا منهم أن " الذكر " هو نفسه " القرآن " وهو خطأ شائع إذ يستحيل الترادف في القرآن أصلا، كما يستحيل أن يكون الذكر هو القرآن والله يقول " ص والقرآنِ ذي الذكر " فكيف يكون المعني والقرآن ذي القرآن ؟! كما يقول سبحانه " ولقد يسرنا القرآن للذكر " فهل المقصود وقد يسرنا القرآن للقرآن ؟! إلي آخر الآيات الكثيرة التي تنفي نفيا قاطعا ما يزعمه وما يدَّعيه سَدَنة الخطاب الإسلامي ، لكنهم مع ما يظنونه من امتلاك حقيقة أن القرآن محفوظ لا يناله التحريف أبدا يتيحون لأنفسهم حق الطعن في كتب أهل الكتاب ونعتها بالتحريف، والسؤال المبدئي الذي يطرحه بعض الأقباط علي استحياء هو :متي تم هذا التحريف ؟ هل قبل نزول القرآن أم أثناءه أم بعده؟ والحق أنهم لا يجدون إجابة شافية ..! يقول الله تعالي في سورة البقرة " وآمِنوا بما أنزلتُ مصدِّقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون " - البقرة 41 - كيف يمكن أن يكون القرآن مصدِّقا لهذه الكتب - ومن بينها الإنجيل - لو كانت كتبا باطلة أو محرفة ؟ وهل تبدو التوراة محرفة تماما من أولها إلي آخرها ؟ ولماذا يصر كثير من المسلمين علي الاعتقاد أن الإنجيل محرف بأكمله؟! يقول تعالي " ولو أنهم أقاموا التوراةَ والإنجيلَ وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " المائدة 66 . أو قوله " قل يا أهل الكتاب لستم علي شيء حتي تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ......" المائدة 68 لو نظرنا لكلمتي " أقاموا " في الآية الأولي و" تقيموا " في الآية الثانية لفهمنا أن إقامة الشيء تعني تعديله، فهذا يفترض بالضرورة إمكانية تعديل أو تقويم الكتب المقدسة؛ ولا يمكن أن يكون التعديل أو التقويم مستحيلا كما يتصور البعض، لأن مفهوم التعديل والتقويم يعني أن الباطل لم يطغَ بعدُ ، كما لا يمكن الزعم أن تصحيح الكتاب المقدس لن يتم إلا بتركه واتباع القرآن الكريم لأن هذا يتناقض تماما مع دعوة القرآن نفسه لتعديل وتقويم التوراة والإنجيل . معني التحريف للتحريف في اللغة العربية معنيان؛ ورغم ذلك يصر الخطاب الإسلامي علي معني واحد يخدم أيديولوجيته ... تقول معجمات اللغة: " إن الحرفَ هو إمالةُ الشيء عن هدفه أو عن موضعه وقد يكون التحريف في تغيير لفظة أو جملة " . ولكي نفهم معني ودلالة التحريف في القرآن الكريم وهو يصف كتب أهل الكتاب علينا أن نتذكر أولا أن القرآن نص لغوي في الأساس بمعني أنه مكتوب ومنزل باللغة العربية؛ فهو يحتوي علي ألفاظ ومفردات، ولكل لفظ مدلول موجود في العالم الخارجي ومتخيل في الذهن، فعندما نقول مثلا "التوراة" فهي موجودة فعليا ككتاب، لكن هناك تصورا عقليا لها كما أن هناك فهما ثقافيا مشروطا لطبيعتها، وهكذا كل لفظ لابد له من وجود موضوعي مرتبط بتصور ذهني ومن ثَمَّ يمكن فهم التحريف علي أنه إمالة اللفظ عن هدفه ومعناه، كما أنه يتعدي ذلك لتغيير لفظ أو مفردة أو جملة، لكن المهم هنا أن التحريف ليس قاصرا علي تغيير الكلمة أو الجملة فحسب، فإذا كانت كتب أهل الكتاب قد طالتها يدُ التحريف عن طريق تغيير بعض المفردات نفسها وليس فقط عن طريق إمالة اللفظ عن هدفه أو معناه فهذا يبدو طبيعيا نتيجة لما خضعتْ له هذه الكتب من ترجمات، لكن علينا ألا ننسي أن هذا التحريف لم ينلها كلها بل نال منها شيئا، كما علينا ألا ننسي أيضا المعني الأول للتحريف وهو إمالة الشيء عن هدفه أو موضعه، لأن هذا المعني هو بيت قصيدنا لأن فهمنا له سيؤكد لنا أن التحريف يمكن أن يقوم في تغيير السياقات والتفاسير التي تحيط بالنص عموما، وليس بالضرورة في تغيير لفظ أو جملة فقط . ولا يريد أحد أن يلتفت إلي أن عملية التحريف نفسها قد تطول القرآن الكريم ولننظر إلي قوله تعالي «فويل للذين يكتبون الكتابَ بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبتْ أيديهم وويل لهم مما يكسبون» [البقرة 79] فإذا قال لنا أحدهم إن هذه الآية وردت في سياق الحديث عن أهل الكتاب أنفسهم قلنا له أليست القاعدة الفقهية هي التي تقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟!! والسؤال الذي يفرض نفسه وبقوة: هل يمكن أن يطال التحريف القرآن الكريم ؟ الإجابة وبكل بساطة نعم يمكن، فإهدار السياقات القرآنية، وتجاهل المقاصد الإلهية، والاتكاء علي تفاسير بعينها تحريف للقرآن، كما أن التعامل مع النص القرآني بصفته شيئا ثمينا فقط يصرف الذهن والوجدان عن التعامل معه ككتاب ربَّاني صالح لكل زمان ومكان تحريف له، كما أن تحويله من " قيمة " إلي مجرد " شيء ثمين " في ذاته هو تحريف له، ولعل الراصد للثقافة المعاصرة لن يخطئ تحول القرآن إلي حلية تزين أجياد النساء، وإلي رُقَي لحماية الأطفال وزينات تعلق في الحوائط وفي السيارات .