في الشهر الماضي بسويسرا، انعقد المؤتمر 35 للفرانكفونية وقد شاركت فيه 27 دولة، بعضها من أفريقيا، والبعض الآخر من جزر الكاريبي، خاصة هايتي. وفي مطلع هذا الشهر نظم المجلس الأعلي للثقافة، برئاسة الدكتور عماد أبو غازي وتحت رعاية الوزير الفنان «فاروق حسني»، حلقة بحث عن: «هموم الكاتب الأفريقي». والقاهرة تضيف إلي المؤتمر هذا الجهد المتواضع لتتبع انتشار كتّاب كبار من أصول أفريقية، في كل مجالات النشر الأوروبية، وحصول البعض في العام الماضي علي أهم جائزة تمنح لروائي. ظاهرة جديدة في تاريخ الجوائز الأدبية الكبري في فرنسا، وأهمها: «الجونكور» ثم: «رينوديه»، Renaudet، ألا وهي تتويج أعمال روائية لكتاب أغلبهم أفارقة، إلا أن انتماءهم إلي الأدب هو انتماء إلي لغة التعبير، أي اللغة الفرنسية. من أهم الروائيين الذين منحت لهم جائزة «رينوديه» كاتب من غينيا، لكنه يدخل في شريحة «شريحة المهاجرين» والمهاجر يتمتع بكل حقوق المواطن الفرنسي، غير انه يشعر دائماً بأنه يضع قدماً في أوروبا، والأخري في أفريقيا. هذا هو وضع الروائي: «تييرنو مولنانبو» Thieno Monenenbo. أما روايته الفائزة بالجائزة الأولي، فعنوانها: «الملك القاهر» Le Roi Kaher. ما خصائصها المميزة؟ التصنيف الأكاديمي، وهو مدرسي دائماً يضعها تحت قائمة: «الروايات التاريخية» وذلك لأن أحداثها تدور في نهاية القرن التاسع عشر، لكن ما إن تقرأ الرواية حتي تتلاشي الأبعاد التاريخية، ولا تعرف ان ما يدور من أحداث قد حدثت بالأمس، أم أنه وشيك الحدوث. الشخصية الرئيسية هي شخصية حقيقية، شخصية مغامر، نتتبعه منذ ان كان طفلاً في الثامنة من عمره، ونراه عاكفاً علي قراءة كتب التاريخ، ومغامرات الرحالة، ومن خلال تواتر الأحداث في كل ما يقرأ، ارتسمت في ذهني صورة مغامر آخر، مغامر لا يملك سوي أوهام مخيلته، أو ما نسميه «Fantasme» وكلما تقدم في العمر تزداد مساحة أحلام الغد، وأحلام الغد هي الرحيل إلي أفريقيا، والبحث عن منطقة تسمي: «فانتا جالون»، منها يبدأ غزوه لكل أفريقيا ويصبح ملك القارة السوداء. وبالفعل، ما ان يصبح في سن الشباب، يرحل ليس له من زاد سوي مظلة وقفاز، وهكذا يصوره الروائي، والمدهش حقاً ان أمنيته تتحقق، ففانتا جالون لا يسكنها سوي قبائل: «البوول» Peuls، وهم ينتمون إلي سلالة أسلافها من سكان البحر الأبيض، ومع الزمن أصبح البعض أفريقيا أسود، بيما البعض الآخر، خاصة النساء، جنسا أشقر، أزرق العينين. وصول الشاب المغامر في نظر البوول تحقيق لنبوءة عمرها عمر تاريخ القبيلة، وفحواها: «أنه سيجيء بوول حقيقي، أشقر، يتوّج ملكا». هذه هي حكاية: «أوليفييه دي ساندر فال»، من خلال مرشح خاص بكاتبها فلا هي تاريخ، ولا هي «بورتريه» للمستعمر الأبيض، وانما هي أفريقيا الحلم، أفريقيا كما هي تعيش في طوايا نفس أبنائها، وخاصة كتّابها وأغلبهم ممن يعيشون في فرنسا، لا يستطيع أحدهم ان يندمج نهائياً في المجتمع الفرنسي، ولا يستطيع بالمثل ان يتحرر من شعوره، وهنا في «المنفي». ولربط ما يصدر بباريس من إبداعات أفريقية، بالقارة الموجهة إليه أساساً، أي الجابوني والغيني والسنغالي،.. إلخ، رأي الروائي مونينبو ان يقوم بزيارة بلده، ويختار إحدي دور النشر والتوزيع الأخري، لتعلن حضوره وتوقيعه شخصياً كإهداء لكل من يشتري الكتاب، وفي المؤتمر الصحفي الذي أقيم لهذا الحفل الثقافي الرائع، سأل أحد النقاد: «ما هي الرسالة الحقيقية والأساسية لهذا العمل، وما هدفه علي المستويين الأدبي والتاريخي»؟ وابتسم الروائي وأجاب: «لا توجد رسالة، أنا شخصياً ليست لدي رسالة، لقد اختفت الرسالة فيما يصدر من أعمال أدبية، لأن الدور التبشيري الذي كان يلعبه الكاتب قد اختفي هو أيضاً. الالتزام اليوم ليس مسألة اختيار، بل مسألة تاريخ، فالالتزام، علي المستوي الأدبي له تاريخه، لقد ولد في القرن التاسع عشر كرد فعل للحركة الرومانسية الفرنسية، وتتمثل في أعمال «فيكتور هوجو» و«إميل زولا»، وغيرهما، وأصحاب نزعة الالتزام أعطوا للكاتب مهمة، هي انقاذ الإنسان، ينقذونه من ماذا؟ لا أحد يدري، من الشرور التي تحيط به؟ ربما، وربما من نفسه لأن الكاتب أكثر شيطانية من الشيطان نفسه». ويستطرد الروائي: «لقد استمر هذا الهدف وتبلور مع بداية القرن العشرين، علي الأخص مع الثورة البولشوفية، إلا أنه اتخذ منحني آخر ولن تعد القضية هي انقاذ الإنسان بشكل مبهم بل إنقاذ الثورة، التزام بأدب واقعي- اشتراكي- لكن أيضاً التزام بالعالم الثالث، التزام بمفهوم «الزنجية»، كما صاغه سينجور، التزام بإنقاذ القيم التاريخية والثقافية للشعوب السوداء، أما الآن، فقد خرست الاشتراكية، وتحول الاستقلال الأفريقي إلي كابوس، كما تحولت ثورات أمريكا اللاتينية إلي استبداد، أنا أكتب لما لا يعجب النظام فالنظام يحب من يتحدث عنه أما أنا فأحب أن أتحدث عن الناس.