التقيتها كثيراً منذ منتصف الثمانينات في المهرجانات الدولية فينيسيا وكان وبرلين، وعاصرتها علي امتداد ثلاثة عقود تحصد جوائز هذه المهرجانات، وهي تجيء كآخر العنقود في سلسلة نجمات فرنسا الموهوبات اللواتي تفتحت عيني عليها في نفس هذه المهرجانات وهن جان مورو وإيزابيل خوبير وإيزابيل أرجاني وكاثرين دينيف.. بل لقد كانت، بعد العظيمة سيمون سيتوريه هي ثاني جميلات فرنسا اللواتي فزن بالأوسكار عن دورها في فيلم «المريض الإنجليزي».. رشحت بينوش لجائزة «سيزار» أربع مرات وفازت بها في المرة الرابعة. وقفت في ركن الصالة المظلم.. سيدة عادية ترتدي بلوفر أسود وقميصًا رجالىًا أبيض.. علي طريقة روبرت تايلور التي اشتهر بها، وبنطلونًا أسود وحذاء عادىًا... فمن يراها علي هذه الصورة لا يتوقع أبداً أنها الممثلة الشهيرة جولييت بينوش.. لا مبالغة في الماكياج، ولا حتي في استرسال شعرها الأسود بلا قيود، وهي جوقة من الحراس، تحسبها سيدة عادية جاءت تشاهد فيلم «نسخة طبق الأصل» في سينما «الإبداع» في مربع دار الأوبرا.. لقد شككت للحظة ان تكون هي النجمة الفرنسية، لولا أنني ميزت بجانبها الزميلة ماجدة واصف المصرية العاملة في المعهد العربي بباريس التي لم تلبث ان خطت إلي نهاية الصالة لتمسك بميكروفون لتعلق عن وجود جولييت بينوش بطلة الفيلم في الصالة، لكي تتحدث إلي جمهور المشاهدين من الصحفيين والنقاد عن الفيلم قبل ان يشاهدوه.. زاط الجمهور في الصالون وهو يصفق طويلاً لتلك السيدة العادية المظهر وهي تقف ممسكة بالميكروفون.. وهدأ كأن رؤوس الطير عندما حيته بفرنسية طليقة وأجنحة لا تحتاج بين تلك الجمهرة المثقفة للترجمة.. وبدأت رقيقة قائلة إنها لن تشاهد الفيلم مع رواده الليلة، فقد تعبت من مشاهدته لأكثر من عشر مرات.. ثم انطلقت تروي حكاية بطولتها للفيلم قائلة: «التقيت أكثر من مرة بالمخرج عباس كيارو ستامي في أروقة مهرجان كان، وفي كل مرة كان كل منا يسأل الآخر.. متي سنعمل معاً.. وفي المرة الأخيرة قال إنه يستعد لإخراج فيلم جديد ويفكر في ان يسند بطولته لي.. ثم دعاني لزيارة طهران- وقبلت الدعوة فعلاً وسافرت معه، واستضافني في بيت أسرته، ولكنني حرصت علي ان أكون مجرد صديقة فقط.. ودعاه هذا لي ان ينطلق في الحديث عن امرأة إيطالية من توسكانيا، تملك جاليري لعرض اللوحات والتماثيل التراثية تلتقي كاتبًا إنجليزيًا ألف كتابًا عن التراث والعادات التراثية في إيطاليا، وجاء يقدمه في جلسة إمضاء علي نسخة مع الجمهور، وكانت تصطحب ابنها ذا الثانية عشر ربيعاً، يقف في طرف القاعة، ويخترقها أثناء حديث الكاتب، لكي يبدي رأياً معارضاً، قبل ان يشدها لكي يغادرا القاعة لأنه يريد أن يعود إلي البيت، ظل عباس يتحدث عن هذه السيدة الإيطالية من توسكانيا أربع ساعات متواصلة، مركزا علي صلتها بالكاتب الإنجليزي وصحبتها له في رحلة إلي توسكانيا ليقف علي التراث فيها من خلال الناس والأماكن. ثم قال لي إن هذه السيدة هي بطلته إنما يريد مني تمثيلها في فيلمه الجديد.. وأشكركم لكي تشاهدوه». «مرحباً ماري» .. مع جودار أول عهدي بجولييت بينوش في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1984 في المؤتمر للمخرج جان لوك جودار بعد عرض فيلمه «مرحباً ماري» وكانت تجلس إلي جواره علي المنصة كنجمة للفيلم، كانت نجمة شابة واعدة، أعطاها اختيار جودار أهمية خاصة بين مجموعة من نجمات فرنسيات واعدات في سن الشباب وأصغيت لها وهي تروي علاقتها بالسينما في أدوار ثانوية صغيرة مثل «دروثي لاعبة الحبل» للمخرج جاك فينستين وفيلم «جمال الحرية» للمخرج باسكال كاني، وبعدهما قررت ان تركز نشاطها الفني في السينما. وفي «كان» أيضاً في العام التالي 1986 جاءت مع المخرج أندريه تشينيه بطلة لفيلمه «موعد» وكان تشينيه المشارك في كتابة السيناريو قد استوحي صراحة مسرحية شكسبير «روميو وجولييت» وحول العلاقة البريئة الرومانسية بين بطليه إلي علاقة جنسية شهوانية.. حيث تقوم بينوش بدور «نيتا» الممثلة المغمورة التي هبطت باريس لتؤدي أدوارًا ثانوية بأجر زهيد، وقد كان الفيلم في نظر النقاد دراما تثير الشهوة الجنسية والضعف أيضاً.. علي أن جاء مخرجه تشينيه بجائزة أحسن مخرج ورشحها هي أول مرة لجائزة «سيزار» كأحسن ممثلة وان لم تفز بها.. وفي العام التالي رشحت للمرة الثانية بدورها في «ضغينة» أمام ميشيل بيكوليس وإخراج ليوس كراكس بجائزة «سيزار» أيضاً. تريزا.. أول فيلم لها بالإنجليزية وفي أغسطس من نفس العام، اختارها المخرج فيليب كوفمان لتمثل شخصية «تريزا» في فيلمه «ضحالة الوجود غير المقبولة» عن رواية ميلان كونديرا، وهو أول فيلم تمثله باللغة الإنجليزية وخرجت به إلي العالمية إذا لاقي رواجاً تجارياً.. كانت أحداثه تدور في النصف الأخير في الستينات عندما تلتقي تريزا بطبيب تشيكي تتسم حياته بنشاط جنسي غير محدود في الوقت الذي تريد هي فيه ان تتزوج لمرة واحدة، رجلاً يخلص لها.. ويجيء الاجتياح الروسي الشهير لتشيكوسلوفاكيا ويفترقان. علي ان بينوش بعد هذا النجاح العالمي قررت العودة إلي فرنسا، مفضلة ان تعمل في فرنسا لتقوم ببطولة فيلم «عشاق جرنيف» للمخرج ليوس كركاس، وقد استغرق العمل فيه ثلاث سنوات وعرض عام 1991، وكانت تمثل فيه شخصية فنانة تشكيلية عاشت في شوارع باريس ولاحقتها الأمراض حتي أنها أصيبت بالعمي في النهاية.. أكسبها الفيلم جائزة الاتحاد الأوروبي ورشحها للمرة الثالثة لجائزة «سيزار». وفي مطلع عام 1992، انتقلت مرة أخري للحياة في لندن ومثلت فيلمين هما مرتفعات ويزرينج للكاتبة إميل برونتي و«دمار» وقد عززا مكانتها الدولية، ورشح فيلم «دمار» لجائزة «سيزار» للمرة الرابعة. علي ان العام التالي1993، كان يدخر لها مناسبتين سارتين، كانت قد جاءت إلي مهرجان فينيسيا كبطلة لفيلم المخرج كريستوف كسلوفسكي «أزرق» وهو الفيلم الأول في ثلاثيته المنسوبة إلي العلم الفرنسي، وما يوحي به كل لون من شعارات الثورة الفرنسية.. وحضرت في فينيسيا إعلان فوزها عن الفيلم بجائزة أحسن ممثلة، وجاءها الدور أيضاً في نفس العام بجائزة «سيزار» كأحسن ممثلة عند ترشيحها للمرة الرابعة. ثاني فرنسية تفوز بالأوسكار بعد هاتين الجائزتين، فضلت بينوش التفرغ لحياتها العائلية فابتعدت عن النشاط الفني لعامين كاملين أنجبت خلالهما طفلها روفائيل، ثم استعادت نشاطها بفيلم «الفرسان فوق السطح» للمخرج جان بييررابينو وتدور أحداثه خلال الحرب وقد تطوع ضابط شاب للبحث عن زوج مفقود لسيدة بائسة، بعده قدمت فيلماً للمخرجة الفرنسية شانتال ايكرمان بعنوان «أريكة في نيويورك» لم يلق النجاح اللائق بها كنجمة. علي ان فيلمها التالي «المريض الإنجليزي» من إخراج انتوني مانجيلا الذي قامت فيه بدور ممرضة تعتني بمريض طيار، خرج في رحلة استكشاف فوق أرض المعارك وأصيبت طائرته وأصيب هو بحروق شديدة وفقد ذاكرته.. وأحبته ممرضته «هانا» حباً يائساً.. كان الفيلم قد لاقي رواجاً تجارياً هائلاً، قبل ان التقي مرة أخري ببينوش التي جاءت معه إلي مهرجان برلين وفازت في دورته بجائزة أحسن ممثلة، وفي نفس الشهر فازت عن دور «هانا» بجائزة الأوسكار كأحسن ممثلة مساعدة، وكانت هي الثانية بين ممثلات فرنسا، التي تفوز بجائزة الأوسكار بعد ان سبقتها في الفوز بالأوسكار الفرنسية سيمون سيتوريه عن فيلم بعنوان «مكان في القمة». بينوش وشخصية جورج صاند في أواخر التسعينات، عادت بينوش للعمل مع من قدمها كبطلة للمرة الأولي المخرج أندريه تيشنيه في فيلمه «اليس ومارتين» وأعقبته بفيلم «أطفال القرن» وفيه تقوم بدور الكاتبة الفرنسية الشهيرة في القرن التاسع عشر جورج صاند التي كانت امرأة مسترجلة ترتدي ملابس الرجال، وقصة حبها الشهيرة مع الكاتب الفرنسي ألفريد دي موسيه. ويجيء عام 2000 ليشهد أربعة أفلام ناجحة متوالية هي «أرملة القديس بيير» من إخراج بياتريس لوكونت وشفرة مجهولة للمخرج النمساوي ميشيل هانكي و«شيكولاتة» إخراج لوسي هالستورم وقد رشح لأكثر جائزة من جوائز الأوسكار، بينها ترشيح بينوش كأحسن ممثلة لدور رئيسي، لكنه خرج صفر اليدين من الجوائز.. ثم «رحلة البالون الأحمر» للمخرج التايلاندي هيوهسباو، ثم قدمت شخصية «آنا» المرأة الفرنسية من جذور كندية فلسطينية، وجدت نفسها في قطاع غزة بعد رحيل الاحتلال الإسرائيلي عن القطاع للبحث عن ابنتها التي اختفت منذ عشرين عاماً.. كان الفيلم من إخراج المخرج الإسرائيلي ذي النزعة المعارضة لتوسعات إسرائيل وهو آموسي جيناي. وفي العام الماضي قدمت مع المخرج الإيطالي عباس كياروستامي فيلم «نسخة معتمدة» الذي حدثتنا عنه عند عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي هذا العام، وقد نالت عنه جائزة أحسن ممثلة في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي الدولي وكان الفيلم من بين الأفلام المرشحة لنيل «السعفة الذهبية». من هي جولييت بينوش؟ مولودة في العاصمة الفرنسية باريس في التاسع من مارس 1964 والدها جان سماري بينوش المخرج الممثل النحات ووالدتها مونيك شالينتي مخرجة سينمائية، وهي في الرابعة من عمرها انفصل أبواها بالطلاق وربتها جدتها لأمها.. وهي في الرابعة عشرة بدأت تعمل مع فرق مسرحية للدولة والتحقت بمعهد الكونسرفتوار في باريس، لكنها لم تلبث ان هجرت وبدأت تتلقي دروساً خاصة في التمثيل علي يد أستاذة التمثيل الشهيرة فيراجرنج وأصبحت ممثلة مسرحية كأمها وطافت مع الفرقة في جولة بفرنسا وبلجيكا وسويسرا تحت اسم مستعار هو جولييت أدريان.. ذلك قبل ان تبدأ رحلتها مع الشاشة في أدوار ثانوية في عدد من الأفلام. أنجبت بينوش طفلها الأول روفائيل في سبتمبر 1992، من زوجها أندريه هول وهو غواص محترف، ثم ابنتها «هانا» في سبتمبر 1996، من زميلها الممثل بيتوا ميجميل الذي شاركها بطولة فيلمها «أطفال القرن».