جناية ثقافية جديدة تمت في صمت منذ شهر يوليو الماضي، هذه المرة بأيدي وزارة التربية والتعليم، ولم ينشر عنها شيء أو يعلق عليها أحد بكلمة حتي الآن، بالرغم من جسامة الجرم الذي اقترفته الوزارة في حق فن عظيم من فنوننا القومية، وفي حق الأجيال الجديدة من الطلبة. الجناية هي إغلاق مدارس الخط العربي علي مستوي الجمهورية (قيل إن عددها 600 مدرسة)، وهي تتبع الإدارة المركزية للتعليم الأساسي، وذلك بدءًا من العام الدراسي الحالي.. والغريب أنه لا يوجد قرار وزاري بذلك، فالأمر المكتبي المبلغ إلي مديري التربية والتعليم بجميع المحافظات تحت رقم 488 بتاريخ 29/7/2010 والموقع من وكيل الوزارة بتاريخ 27/7/2010 يقول: «بناء علي تعليمات معالي الدكتور الوزير بتاريخ -/7/2010، برجاء التكرم بالتوجيه نحو اتخاذ اللازم فيما يلي: 1- وقف قبول طلاب جدد بمدارس الخط العربي اعتبارًا من العام الدراسي 2010- 2011. 2- وقف التعيين أو الاستعانة (كلمة غير واضحة) وذلك لحين صدور تعليمات أخري» توقيع: وكيل الوزارة د/أمين محمد أبوبكر. هذا يعني عدم وجود قرار من وزير التربية والتعليم بذلك، إنما هي مجرد تعليمات.. تخيلوا!: إغلاق مئات المدارس وإلقاء تلاميذها ومدرسيها والعاملين فيها إلي المجهول، يتم بمجرد تعليمات!.. هدم صرح تعليمي مضي علي إنشائه 83 سنة بقرار من الملك فؤاد، وتخرجت فيه عشرات الأجيال التي حفظت قيم الخط العربي من الضياع.. يتم بمجرد تعليمات!.. تجفيف المنابع لرافد من روافد هويتنا الثقافية وذائقتنا الجمالية، وإهدار إحدي الروابط العريقة بين الشعوب العربية والإسلامية.. يتم بمجرد تعليمات! يحدث هذا بالتزامن مع اختفاء مادة الخط العربي من جميع المدارس بكل مستوياتها، وعدم وجود مدرس أصلاً لمادة الخط في أي مدرسة، ولم يتبق إلا كراسة بائسة رديئة الطباعة لنماذج الخط لا تفيد أحدًا..، والنتيجة هي انحدار كارثي لمستوي كتابة الأجيال الجديدة من الطلبة حتي خريجي الجامعات، وقد يعجز المرء عن فك طلاسم كتابتهم أو معرفة إلي أي لغة تنتمي!.. والحال هو نفس الحال بالنسبة لمادة التربية الفنية التي تعتبر الآن ملغاة فعليًا وإن كانت موجودة في المناهج شكليًا، مع غياب الشروط الأساسية لتفعيلها: من حصص في جدول الدراسة ذات حُرمة لا تستباح لأي سبب، ومن حجرات لممارسة الرسم والنحت والأشغال الفنية تضم أدوات وخامات، ومن مشرفين مؤهلين تربويًا للتدريس بدءًا من المرحلة الابتدائية.. ولو استطردنا لوجدنا كل ذلك ينطبق علي مجالات النشاط الأخري مثل المسرح والموسيقي والأدب والعلوم، تلك الأنشطة التي كانت تخصص لها جماعات مدرسية ومعامل تفريخ للمواهب الإبداعية في كل مجال، ومن بينها جماعة الخط العربي.. وكم من مشاهير الفن والأدب والثقافة كانوا من نبت هذه الجماعات! إن ما يحدث علي امتداد عدة عقود هو عملية «تعقيم» للنظام التعليمي من ملكات الإبداع، وكأنها فيروسات خطيرة تستدعي القضاء عليها كي لا تهدد الطلبة أمراض الحساسية الذوقية والتفكير الإبداعي، وكي لا تدب في شخصياتهم أمراض الثقافة والخيال والاستقلال والإحساس بالجمال!.. والنتيجة: هي تخريج أجيال جوفاء العقل منفلتة السلوك حاملة لجينات العنف والتطرف وكراهية الفن والثقافة، أو بليدة الحس منعدمة القدرة علي الاختيار فاقدة الانتماء منعدمة الصلاحية للمشاركة المجتمعية!.. وليت هذا يتم لصالح العملية التعليمية المجردة، أي لاستيعاب المواد العلمية والأدبية الواردة بالمناهج، حتي لو كانت منزوعة المادة الفعالة لتنشيط ملكات التفكير والخيال لدي التلميذ، بل كلنا نعرف الحقيقة المرة للعملية التعليمية في المدارس التي لا تعلم شيئًا، وأنها تعتمد اعتمادًا أساسيًا علي الدروس الخصوصية، وهي أشبه بمزارع الدواجن التي يتم حقنها بالهرمونات حتي يصل وزن الدجاجة إلي ثلاثة كيلوجرامات خلال 45 يومًا، ولست بحاجة إلي ذكر الباقي! لكن أن يصل الأمر إلي شطب هذا العدد من المدارس بعد أن ظلت تقوم برسالتها لأكثر من ثمانين عامًا.. فهذا هو اللامعقول بعينه!.. وأعرف أن مدرسي هذه المدارس والبعض من خريجيها قد أطلقوا صرخات استغاثة إلي الوزير وإلي كل من له صلة أو من يهمه الأمر، وأعرف كذلك أنهم أبلغوا هذه الصرخات إلي بعض الصحف والقنوات التليفزيونية، فلم يكترث بها أحد!.. وتلك كارثة أخري تنم عن فقدان الوعي لدي أجهزة الإعلام ومقدمي برامج «التوك شو» بجدوي التربية الجمالية والخط العربي، غير مدركين- مثل مخططي وزارة التربية والتعليم- أن الخط العربي ركن أصيل من أركان الهوية الثقافية وأنه الحافظ للقرآن الكريم، وأنه يملك من الجماليات ما جعل منه مصدرًا لإلهام الكثير من الفنانين التشكيليين المشهورين علي مستوي العالم ومنهم المصري محمد مصطفي، الذي يعيش في قصر بلندن منذ عشرات السنين وتباع لوحاته بملايين الجنيهات الاسترلينية، وما جعل العديد من الفنانين الأوروبيين يقبلون بشكل متزايد علي دراسته والإبداع من خلاله، والاشتراك بأعمالهم في المسابقات الدولية، وقد رأيت بعضها في معرض بمصر عام 1995. والحقيقة أنها قضية تتجاوز حدود وزارة التربية والتعليم والصحافة وأجهزة الإعلام، فهي- في جوهرها- قضية ثقافية، تدخل في منظومة شاملة لكل هذه الجهات وعلي رأسها وزارة الثقافة، في إطار الاستراتيجية الثقافية التي سبق أن طالبت بها في المقالين السابقين علي هذه الصفحة، فالمفترض أن يكون هناك مشروع متكامل تلتزم به هذه الوزارات جميعًا حسب دور كل منها فيه، وتترتب عليه مسئولية معينة عبر نظام للمتابعة والمحاسبة من قبل مجلس الوزراء. غير أن الدور الرئيسي يقع علي وزارة الثقافة، فهي المعنية- قبل غيرها- بالارتقاء بذوق المجتمع والحفاظ علي هويته الثقافية وإطلاق المواهب والطاقات الإبداعية لأبنائه وفتح القنوات أمامها للتخصص والممارسة في مختلف المجالات.. وقد أشرنا هنا- من قبل- إلي دور المتاحف كمؤسسات تعليمية وتثقيفية تقوم بهذه الرسالة مع وزارة التربية والتعليم والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني. وبمناسبة إغلاق مدارس الخط العربي، فإن خط الدفاع الأخير هو إقامة متحف لفنونه، وأذكر أنني- بعد اكتشاف خبيئة لوحات الخط العربي بوكالة الغوري عام 1993- طالبت مرارًا بإقامة متحف يضمها إلي جانب مئات اللوحات المشابهة من مقتنيات متحف الفن الإسلامي المخزنة بالمخازن لعدم وجود مساحة لعرضها بالمتحف، ولم يلق اقتراحي أي رد.. والآن: أين هي لوحات الخبيئة الثلاث والثمانون؟.. لقد فقدت ثلاث منها في ظروف غامضة، ومصيرها مرتبط بمصير 4000 قطعة فنية بمخازن متحف الجزيرة التي قيل إنها مخزنة فيه، وقيل أيضًا إنها سوف تنقل إلي الإسكندرية لإقامة جناح خاص بها بمتحف البلدية، وأظن أن الفكرة الأساسية هي عرض تراث الخطاط السكندري محمد إبراهيم، وهو بلا شك يستحق تخصيص هذا الجناح له وحده، أسوة بفناني الإسكندرية محمود سعيد وسيف وأدهم وانلي، أما لوحات الخبيئة فهي لوحات أثرية باللغات التركية والفارسية والعربية يعود بعضها إلي خمسة قرون، ما يستدعي عرضها مع ما يماثلها من لوحات أثرية من مقتنيات متحف الفن الإسلامي، ومن المهم للغاية أن يكون ذلك في القاهرة. إن الهدف من وراء اقتراحي بإقامة متحف للوحات الخط العربي لا يقتصر علي مجرد الحفاظ عليها وإتاحة رؤيتا للجمهور، بل كذلك أن تلحق بالمتحف مدرسة لتعليم فنون الخط بأساليبها المختلفة، بعد أن اندثر الخط اليدوي بالفعل في الصحف والمطبوعات وقنوات التليفزيون وحلت محله الحروف الميكانيكية، وليس ببعيد اليوم الذي سوف يأتي ولا نجد فيه خطاطًا يرسم بيده عملاً يستحق وصف «عمل إبداعي».. والعجيب أن بلدًا مثل تركيا ينشيء العديد من مدارس تعليم الخط العربي ويقيم له المتاحف وينظم المسابقات العالمية وهو ليس مرتبطًا بلغتها أو حتي بحروف كتابتها، لأن اللغة التركية- كما نعلم- تكتب بالحروف اللاتينية.. ونفس الاهتمام بفنون الخط وتعليمها نجده في إيران بقوة أشد.. أما نحن.. أصحاب اللغة ورواد هذا الخط الجميل ومعلمو العالم فنونه.. فنغلق مدارسه ونبدد تراثه! هكذا يشارك المخططون عندنا- ولو بدون وعي- في إضعاف هويتنا الثقافية وقوتنا الإقليمية في المنطقة.. والنتيجة هي أن تتفوق علينا تركيا وإيران، بما تكتسبه كل منهما من نفوذ ثقافي فوق نفوذهما الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط. فيا لهوان أمة يبدد أبناؤها هويتها بأيديهم!