أعتز جدًا بصداقتي للشاعر الكبير السماح عبدالله، لكني أعتززت بها أكثر عندما كتب مقالا في القاهرة منذ عامين تقريبا عن الروائي مكاوي سعيد، كان عنوانه علي ما أتذكر "ضحك علينا مكاوي سعيد واستوي كاتبا كبيرا"، كنت وقتها قد انتهيت من قراءة روايته "تغريدة البجعة" التي رشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2008، وشرعت فعلا في كتابة مقال نقدي عن الرواية، لكن كيف أكتب عن تلك الرواية بالذات وأنا لم أتعرف بعد علي مكاوي سعيد وعالمه، إلا من خلال مقال السماح عبدالله وبعض نمائم المثقفين علي مقاهي وسط البلد، ومقولات هنا وهناك علي الإنترنت. اللقاء الأول كنت وقتها زبونًا شبه دائم علي مقهي زهرة البستان وكان هو يجلس دومًا مع صديقه محمد صلاح والروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد والشاعر والكاتب الصحفي إبراهيم داود وياسر الزيات وغيرهم، إلا أنني كنت استخجل فكرة قطع حديث جماعي لمجرد مصافحته والتعرف به، رغم أن الجميع تربطني بهم معرفة شبه جيدة، نعم تأخر اللقاء كثيرا إلي أن أتي مصادفة في شارع هدي شعراوي بوسط البلد ولم يستمر سوي دقيقة واحدة، عرفته بنفسي وطلبت منه إجراء حوار صحفي لجريدة القاهرة بمناسبة ترشيح "تغريدة البجعة" للقائمة القصيرة للبوكر فوافق الرجل ورحب بشدة وتركني وذهب، ولما عدت إلي البيت لأعيد مرة أخري قراءة الرواية، ليس بغرض الاستعداد للحوار الصحفي ولكن لأنني شعرت بأن الذي حدثني لأقل من دقيقة في شارع هدي شعراوي هو نفسه "مصطفي" بطل الرواية، فلم يكن الشك يساورني في يوم من الأيام أن الأعمال الروائية التي يبدعها كتاب الرواية هي جزء منفصل عن حياتهم، تقترب أو تبتعد لكنها تظل مرتبطة بشكل أو بآخر من عالم الروائي نفسه، هكذا كان انطباعي عندما قابلته لأول مرة. انتهيت فعلا من قراءة الرواية مرة أخري في نفس الليلة، لكني عندما عدت لأكتب مرة أخري عنها وجدتني أكتب عن إخفاقات البطل السارد "مصطفي"، وعن مجتمع المثقفين واختلاطه بالأجانب، وعن تحولات إيديولوجية في أفكار "أحمد الحلو" الذي بدأ يساريا ثم تحول إسلاميا، وعن مستويات السرد واحتفائه بالتفاصيل وما إلي غير ذلك من أدبيات النقد، لكنني أيضا توقفت عن الكتابة إلي أن أقابله مرة أخري في حوارنا الصحفي كي أكشف أكثر عن ملامح وخبايا شخصية هذا الرجل. بإلحاح غريب طلبت مني الزميلة سماح عبدالسلام أن تقوم هي بإجراء هذا الحوار الصحفي، كنت وقتها بالفعل مشغولا بإعداد ملف في الجريدة بمناسبة مرور عشرين عاما علي توقيع اتفاقية السلام 1979، فرضخت لطلبها وبالفعل قامت بإجراء الحوار وقمنا بنشره فورًا، فزادت معرفتي به، وزادت جلساتنا الخاطفة علي المقهي ويومًا بعد يوم أعرفه أكثر. علي المستوي الإنساني هو هادئ، لا يتكلم كثيرًا، آراؤه النقدية حادة سريعة خاطفة، عيناه تتجولان بين الشوارع والناس، تكاد لا تستقر، جسده النحيل يساعده علي الحركة الدائمة في شوارع وسط المدينة (أذكر أنني شاهدته في ساعة واحدة ثلاث مرات في ثلاثة أماكن مختلفة)، بشرته السمراء توحي لمن يشاهده أول مرة أنه بطل روائي من أبطال روايات الطيب صالح أوأمير تاج السر. مشوار مع الإبداع في مدرجات كلية التجارة بدأ مكاوي سعيد مشواره مع الإبداع، خط أولا مجموعة من الخواطر علي مجلات الحائط بجوار رسوم زملائه، ثم اتجه للشعر لكنه فتن في مرحلة تالية بالحكي والقص، فكتب القصة القصيرة، وأولها مجموعة "الركض وراء الضوء" عام 1981، ثم بعدها بعشر سنوات كاملة كتب رواية "فئران السفينة" التي حازت علي جائزة سعاد الصباح وطبعت أربع مرات، ثم أصدر في 2001 مجموعته القصصية "راكبة المقعد الخلفي"، كتب مكاوي أيضا مجموعة أخري عام 2008 هي "سري الصغير"، ثم روايته الأهم "تغريدة البجعة" في العام نفسه، ثم أصدر أخيرًا هذا العام كتابا أثار الجدل بعنوان "مقتنيات وسط البلد"، يضم حكايات عن شخصيات وأماكن في منطقة وسط البلد بالقاهرة، وهو في الأصل مجموعة المقالات التي كان ينشرها مكاوي في جريدة البديل قبل إغلاقها. تتبع مكاوي في أعماله مصائر أشخاص تفاعلوا مع الأحداث المحيطة بهم، كما تفاعلوا مع الأحداث العامة في مصر، فهو يري أن الكتابة الأدبية هي التاريخ الحقيقي لأي أمة، وعلي من يريد معرفة الحالة الحقيقة للمجتمع في عصر فليقرأ أدب ذلك العصر، لأن التاريخ الذي نراه هو ما يكتبه المنتصرون. الهجمة الوهابية علي المجتمع المصري هي أكثر ما يشغل باله وخصوصا في فكرة اختلاط الشباب والفتيات لأن الاحترام المتبادل كان سمة هذا الاختلاط، لكن الآن الوضع اختلف وظهرت دعاوي عدم الاختلاط، وظهرت ملابس سميت بالإسلامية وهي غير ذلك، إضافة إلي عادات وتقاليد بعيدة تمامًا عما كان ينعم فيه المجتمع المصري في أوائل القرن الماضي من كوزموبوليتانية حيث كان اليهودي المصري يعيش إلي جوار المسلم المصري وكان التاجر اليوناني والصائغ الأرميني يبيع ويشتري من المصريين، وكانت الإسكندرية بحق مدينة كل الجنسيات، هكذا كان يري مكاوي سعيد منطقة وسط البلد، وهكذا رصد تلك التحولات في "تغريدة البجعة". شكل مكاوي مع محمد صلاح ثنائيا استثنائيا وقدما معا للساحة الثقافية واحدة من أهم دور نشر الكتابة الجديدة، وهي دار (الدار) التي استطاعت في شهور قليلة أن تحتل مكانة جيدة في دور النشر الخاصة، بل إنه في سبيل نشر الثقافة للنشء قررا إتاحة الفرصة للأطفال، فأنشأ فرعا للكتابة للأطفال مسندا رئاسة تحريره للشاعر فتحي عبد الله وإدارة تحريره للقاص عبد الحكيم حيدر، أكثر اثنين في هذا الجيل اهتماما بهذا الأمر. ولمكاوي نفسه كتابات كثيرة في مجلات الأطفال منها ماجد وبلبل وقطر الندي وكتب الهلال للأولاد والبنات، وله رواياتان للأطفال هما "كوكب النفايات" و"صديقي فرتكوش"، ومسرحية "سارق الحضارات"، كما يكتب مكاوي السيناريو الوثائقي والتسجيلي والروائي وحصل علي أربع جوائز ذهبية من مهرجان الإذاعة والتليفزيون العربي وجوائز أخري في مهرجانات دولية. حصل مكاوي علي الجائزة الأولي للرواية في مسابقة سعاد الصباح عام 1991 عن رواية "فئران السفينة"، كما حصل علي جائزة الدولة التشجيعية في الرواية عام 2008، وجائزة أفضل مجموعة قصصية من اتحاد كتاب مصر عام 2009 عن مجموعة "سري الصغير". المقتنيات أما عن المقتنيات التي اقتناها مكاوي في كتابه الأخير "مقتنيات وسط البلد" فهي بحق أشياء نفيسة، تمثل حكايات وحكايات عن أشخاص وأماكن شاهدها الروائي بأم عينه، فهو قد يصرح أنه استلهم حكاياته عن بعض أشخاص قابلهم فعلا والجزء الآخر هو محض خيال، أو يصرح بأن الحكاية نفسها بها جزء حقيقي وجزء من خياله، وقد نضطر جميعًا أن نصدقه ونقدره لخصوصية الأحداث التي يرويها عن أناس قد نعرفها وقد نجلها. سنقرأ عن 41 شخصية من ذوي الوجوه المألوفة في جلسات المثقفين أو علي أطرافها في جزء سماه مكاوي "كتاب البشر"، وبعض هذه الشخصيات كان موهوبًا وفضّل الصعلكة علي الموهبة، وبعضهم تكسّرت طموحاته بيده أو بيد غيره؛ فانطوي علي نفسه أو أصابه الجنون أو مات أو ابتعد، وبعضهم آثر السكينة وظلّ يغرف من حكمة الحياة الصافية. أما في جزء "كتاب المكان" يحكي مكاوي عن مقاهٍ ومطاعم وبارات ومنتديات ثقافية نشطت في وسط البلد في منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات؛ تلك الأماكن التي منها لا يزال قائمًا يحتفظ ببريقه، ومنها ما انسحب تمامًا من الصورة بعد أن إزاحته محلات الأحذية أو الوجبات السريعة، ومنها ما تدهور حاله، وإن ظل محتفظًا باسمه ومكانه.