إن قصة البناء في مصر لهي قصة رائعة تعبر عن تاريخ وثقافة هذا الشعب بطريقة غير مسبوقة من عطاء النهر وفي ذات الوقت الاستفادة البالغة العبقرية من هذا الشعب الذي عاش علي ضفة هذا النهر. والبناء بتلك الخامة التي وهبها النهر للانسان وهي طمي النيل لتدل علي مدي تفاعل المصري مع كل ما وهبته الطبيعة من معطيات فالطمي الذي كان يأتي مع ماء النهر كون تربة جديدة بخواص جديدة تختلف عن التربة الاصلية لمصر والتي تكون صحاريها. ولكن الطمي الوارد لارضنا مع مياه النيل كون تربة طينية جديدة وواقعا جغرافيا جديدا لمصر وكون دلتاها المعروفة لنا حتي ان اسم مصر في العصر الفرعوني كان يرتبط باسم تلك التربة الفريدة كيمي الارض السوداء ولنا ان نتصور انه قبل البدء في عمليات اقامة السدود لتخزين المياه منذ بداية القرن العشرين ان سمك التربة الطينية كان يصل الي تسعة أمتار.. لذا فقد كانت تلك التربة مصدرا مهما للحياة ومصدرا للابداع الانساني علي ارض مصر. وبقدر مابني المصري بالحجارة العديد من اهراماته ومعابده ومقابره الا انه بني بالطوب الني الذي يعتمد علي تلك الخامة القريبة منه العديد من العناصر المعمارية المكملة لتلك المباني كما انه وتلك نقطة بالغة الاهمية بني المسكن الخاص به بتلك الخامة وقد وفرت له تلك الخامة القريبة منة المادة الاساسية لعملية البناء حيث صنع منها الطوبة المعروفة لنا بعد خلطها ببعض المواد العضوية البسيطة مثل التبن او قش الارز وكانت مادة اللصق يتم عملها من نفس تلك الخامة. وقد تطورت صناعة الطوب الني في مصر حتي انها اصبحت حاليا صناعة ضخمة واصبحت ركيزة لصناعة الطوب الاحمر ومازلنا نلاحظ حتي الان وجود بقايا بعض القمائن القديمة التي كانت تستخدم في تلك الصناعة ونلاحظ المهارة المعمارية والدقة البالغة الي حد الاعجاز في صناعة تلك القمائن وقد تعامل المصري مع مكان السكن بحذر شديد وبمعرفة عميقة مكنته من معرفة المكان الصحيح لبناء مسكنه من حيث بعده الكافي عن النهر وكذلك التربة الصالحة للتأسيس. وكما ذكرت ظلت تلك العلاقة واضحة وفرضت مدلولها علي جميع الانشطة الانسانية من زراعة ورعي وصناعة وكونت شكل الحياة الاجتماعية في مصر طوال آلاف السنوات ولكن مع بداية القرن العشرين وانتشار فكرة التحكم في سريان النهر رغبة في تخزين مياه النهر لزيادة الرقعة الزراعية مع عمل خزان اسوان ثم تعليته ثم بناء السد العالي . تحكم المصري في جريان النهر وحمي نفسه من خطر الفيضان ولكن في ذات الوقت حرمه النهر من الطمي الذي كان يأتي إليه مع سريان المياه والحقيقة انه خلافا لما هو معروف لم يدخل الطمي حتي الي بحيرة ناصر في قسمها المصري بل ترسبت عند منطقة وادي حلف بالسودان وفي كتابه الاكثر من رائع عن النيل للدكتور رشدي سعيد يذكر تلك الحقيقة ولم يجد لها تفسيرا علميا دقيقا واحقاقا للحق فقد ذكرت جميع الكتب والدراسات التي تكلمت عن السد العالي وحجم عطائه قد ذكرت انه احد الاثار الجانبية للسد هو حرمان تربة مصر من الطمي . وكان من المنطقي ان تؤخذ تلك المحاذير في الحسبان وان تتم دراسة علمية دقيقة لتفادي تلك الاثار وكذلك دراسة مجتمعية حقيقية لتأثير اختفاء تلك الخامة من ثقافة المجتمع الزراعي المصري . واختفت وتلاشت الدراسة العلمية التي كانت ستتيح لنا تجنب تلك الاثار الجانبية التي خلفها مشروع السد . وتركنا الفلاح المصري الذي اقترنت ثقافته وتراثه الانساني بتلك الخامة التي وهبها الله له من خلال نهر النيل. وكنت اتابع في منتصف السبعينات كيف بدأت الكتابات تتحدث عن تجريف الارض الزراعية وقسوة الفلاح علي ارضه وانها بمثابة عرضه وانه لا يليق به ان يجرف الارض الزراعية ولم يدقق احد لماذا كان يفعل الفلاح البسيط هذا؟ لان ثقافته كانت مبنية علي ان هناك طبقة جديدة من الطمي ستأتي ولم يكن يستوعب ان فيضان النهر لن يأتي له بالطمي مرة اخري . ومن تبعات ذلك ان توقفت صناعة الطوب الاحمر لتجريم استخدام الطمي. ولمن يدرس ارض وطبيعة مصر وصحاريها وواحاتها يجد ان المصري استطاع ان يضع الحلول التقنية لكثير من مشكلاته وكذلك الكثير من نضب موارده فعندما ماكان يشتد الفيضان كان يهاجر المصري ليسكن ويستوطن الواحات وعدم تمكنه من الحصول علي الطمي القادم مع مياه النهر كان احد التحديات الهائله التي قابلت المصري . ولكن عبقريته مع التعامل مع معطيات الطبيعه مكنته من التعامل معها . فقد اكتشفنا ان للمصري القديم مثلا ً في واحة سيوة بيوتا ومعابد رائعة من الطوب الني الذي يعتمد علي خامة الطفلة المنتشرة في الصحراء المصرية بعد تخميرها بطريقة يدوية بالغة الدقة ليحصل منها علي طوبة تحاكي الطوبة التي صنعها بطمي النيل مكنته من بناء مسكنه واحتياجاته النفعية كالتي صنعها بضفاف النهر. ومن يزورمنطقة بلد الروم بطريق المراقي بسيوة يجد ما أشير له من وجود عناصر معمارية غاية في الدقة والمهارة المعمارية من بناء حوائط وقباب وقبوات تم بناؤها بخامة الطوب الني الذي يعتمد علي الطفلة الموجودة بصحراء سيوة. وتلك كانت نقطة قد أثارتني عندما بدأت العمل في سيوة وشاركت في إقامة عدة مشروعات سياحية بالنمط البيئي المنتشر بالواحة والذي يعتمد علي خامة غريبة خاصة بتلك الواحة وتسمي الكرشيف وهي عبارة عن طفلة مخلوطة بالملح تكون صخرا ملحيا يتم البناء به ويلزق بخامة الطفلة وقد بني أهل سيوة مدينتهم الجميلة شالي وعندما وجدنا هذا الحائط القديم المبني من الطوب الني لم نجد من أهل سيوة من يعرف مهارة البناء بتلك الخامة وتصنيعها ولكننا وجدنا إشارة لهذا الحائط في كتاب الدكتور أحمد فخري عن سيوة بأنه بقايا معبد أوكنيسة من القرن الثاني الميلادي. وكان هذا مدخلا ً لكي نحاول أن نحاكي هذا البناء في بناء فندق صغير بتلك الواحة. وانطلاقا ً من المعرفة الحميمة التي تربطني بأهل قرية المحاميد إدفو بأسوان وهم من عملوا من العظيم حسن فتحي في بناء قرية القرنة بالأقصر والعديد من المشروعات الأخري لإقامة نمط معماري مصري حقيقي ولذلك قصة أخري. فقد اتفقنا مع مجموعة من أهل المحاميد أن تحضر إلي سيوة وأن تتعرف علي تلك الطوبة وأن تحاول أن تصنع نموذجا ً يحاكيها. وقد تمت عدة تجارب علي أنواع عديدة من الطفلة إلي أن استقر علي نوع معين من الطفلة الخضراء أرشدنا إليها أحد سكان الواحة ممن يعملون معنا وقد أخبرنا انها كانت تستخدم لتبطين المصارف الزراعية. وقد أخذنا عينة منها وعرضناها علي أحد مصانع الطوب الطفلي فما كان منه إلا أنه طلب أن يشتري منها كميات كبيرة. وكان من اللطيف أن تلك الطفلة موجودة بإحدي قطع الأراضي التي اشترتها الشركة كمنطقة تخزين للمعدات الخاصة بالفندق البيئي المزمع إنشاؤه. وبعد عدة تجارب لتخمير وعجن الطفلة والإضافات المشابهة للطوبة الموجودة كانت النتيجة أكثر من رائعة خاصة بعد التجارب التي قمنا بها في مركز بحوث البناء لاختبار مدي صلابة وتحمل الطوبة. وكان التحدي الثاني هو طريقة البناء. وبالدراسة الدقيقة للمباني المقامة بالطوب الني المنتشرة في مصر وبتبادل الأحاديث الطويلة مع معلمي البناء بقرية المحاميد وجد أنه هناك الكثير من الأساليب والتقنيات في أثناء عملية البناء وأن كثيرا من البنائين فقد تلك المهارات وكذلك كانت هناك العديد من التفاصيل المعمارية التي تم استعادة ذاكراتها أثناء البناء بالطوب الني. وتم بناء هذا المبني وقد كان من ثماره أن أعاد جزءا من الذاكرة المهنية لطريقة البناء بالطوب الني وأصبح الآن هناك العديد من أهل سيوة لهم تلك الخبرة الكافية لاستخدام مثل هذا النوع من البناء. خاصة أنه جزء من ذاكرة الإنسان المصري وكان يستطيع أن يجنبه الكثير من مشكلات المسكن الحديث الذي انتشر في كثير من قري مصر وأفقد المصري جزءا مهما من تراثه وذاكرته واقتصاديات حياته.