40 عاماً علي غياب الزعيم جمال عبد الناصر ، وما زال بعض الأقباط ، ومع كل حدث يرون فيه لوناً من ألوان ممارسة التمييز والفرز علي حساب الهوية الدينية ، يشيرون بأصابع الاتهام إلي ثورة عبد الناصر والتي يطلقون عليها حركة انقلاب قادها مجموعة من ضباط الجيش ، فانقلاب ناصر ورجاله كما يرددون كان بداية لإعلان قرارات تمييزية .. ورغم كل ما يذكره هؤلاء ، فإن عهد جمال عبد الناصر قد شهد حالة من السلام الاجتماعي والإنساني بين المسلمين والمسيحيين ، ولم يحدث في فترة حكمه أن أثيرت الفتن الطائفية بالكم أو الخطورة كما شهدنا في العصور التالية ، ومع ذلك قام للأسف بعض أقباط الخارج العام الماضي بالدعوة للإضراب في ذكري قيام الثورة ، وأسعدني أن يصف قداسة البابا هذا التصرف في حينه بالتخريف وعدم الفهم .. في عهد ناصر كان قرار إنشاء مكتب التنسيق ، والذي يري البعض وأنا في مقدمتهم أنه أحد أهم القرارات لثورة يوليه ، حيث كان الضمانة ذات الأثر الفاعل لأبناء الغلابة والمساكين من المجتهدين ، ومن وصفهم الإعلامي البارز عمرو أديب (أولاد الناس اللي مالهمش ناس تانية تجيب لهم حقهم ) ، وأظن أن القرارقد قام بسد منابع الشكوي من التمييز علي أساس الدين أو الوضع الاجتماعي في نيل حقوقهم في التعليم .. في عهد ناصر تم إنشاء شبكة رائعة من قصور الثقافة ، والوحدات الصحية ،والساحات الرياضية الشعبية والمساكن الاقتصادية والتعاونية في كل ربوع المحروسة ، لتقديم الخدمات الثقافية والتنويرية والصحية والرياضية لعموم الناس البسطاء دون تمييز أو تفرقة .. لمحات طيبة لنقترب من علاقة الكنيسة والأقباط بالرئيس جمال عبد الناصر وثورة يوليه يمكن أن نتوقف عند بعض اللمحات والمشاهد الطيبة التالية : يوم الثلاثاء 30 إبريل سنة 1968 ألقي البابا كيرلس السادس كلمة في مؤتمر شعبي أقيم في كنيسة السيدة العذراء الشهيرة بالكنيسة المعلقة في حي مصر القديمة بالقاهرة بمناسبة الاستفتاء الشعبي علي ما سمي بيان 30 مارس- 1968 والذي صدر لإعادة تنظيم الدولة لمواجهة آثار هزيمة يونيو 1967، قال البابا كيرلس: «نشكر السيد الرئيس لأنه في قيادته لجماهير شعبنا أثبت دائماً أن قيادته تتسم بالإخلاص والوضوح والصراحة ، وقال عن البيان وميثاق العمل الوطني الذي صدر عام 1962: البيان يؤكد من جديد ما نص عليه الميثاق، وهو الحل الاشتراكي وحماية كل المكتسبات الاشتراكية وتدعيمها والتعليم المجاني والتأمينات الصحية والاجتماعية وحماية حقوق الأمومة والطفولة والأسرة .. عمل البابا كيرلس السادس علي تدعيم موقف الرئيس جمال عبد الناصر ، فطالب الامبراطور هيلاسيلاسي أن يتخذ موقفاً مؤيداً لقضية مصر في الأممالمتحدة ، وشارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الشعبية والوطنية التي كان يحضرها أقباط ومسلمون أحوال البلاد. اتخذ البابا كيرلس السادس قراراً بمنع الأقباط من الذهاب إلي القدس احتجاجاً علي الوضع الراهن وقد نشر هذا القرار في حديث أدلي به البابا إلي الأستاذ أبو الحجاج حافظ ونشر بجريدة الجمهورية مع عيد الميلاد المجيد عام 1968 قال فيه : " ونحن استنكرنا ونستنكر ولسوف نستنكر دائماً احتلال إسرائيل للقدس واعتداءاتها علي مقدسات المسيحيين والمسلمين وانتهاكات للخدمات في الأراضي المقدسة ، ولقد أبرزنا رأينا واضحاً صريحاً أننا نريد القدس في يد العرب استمر موقف الكنيسة هذا تجاه ذهاب الأقباط إلي القدس في حبرية البابا شنودة الثالث أيضا حيث رفض السماح بذهاب الأقباط إلي القدس للتقديس أي استمر الأقباط في احتجاجهم منذ أن أعلن البابا كيرلس هذا القرار سنة 1968 م وحتي اليوم .. وفي يوم وفاة البابا كيرلس السادس قالت إذاعة صوت العرب : " لقد مات الصديق الوفي لجمال عبد الناصر" وتلقي البابا كيرلس السادس نبأ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر بتأثر شديد وحزن حزناً عميقاً وأصدر بياناً إلي الأمة يعبر فيه عن شعوره قال فيه : " إن الحزن الذي يخيم ثقيلاً علي أمتنا كلها لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفر جمال عبد الناصر إلي عالم الخلود أعظم من أن يعبر عنه أو ينطق به ... إننا نشيعه إلي عالم الخلود محفوظاً بالكرامة التي تليق باسمه العظيم ، وعزاء الأمة كلها، ولأمة العرب بأسرها ، بل عزاء للعالم في رجل هو من أعظم الرجال الذين عرفتهم البشرية في كل عصورها .. وأكد البابا شنودة الثالث علي الموقف الرائع الذي وقفه الرئيس جمال عبد الناصر تجاه بناء الكاتدرائية فقال : " لا ننسي أن الرئيس جمال عبد الناصر أعطي تصريحا لبناء الكاتدرائية الكبري وحضر حفل وضع الأساس فيها ثم حضر حفل افتتاحها وألقي كلمة طيبة جداً وتبرع بمبلغ 100 ألف جنيه في 1967 م ، كان المبلغ أيامها كبيراً ، وكلف الرئيس عبد الناصر إحدي شركات القطاع العام بأن تقوم بعمليات بناء الكنيسة الكبري ، وأسرعت الشركة في بنائها بحيث انتهي الهيكل الخراساني في سنة واحدة ، علي هذا الحجم الضخم، والديون التي بقيت صدر قراربالتنازل عنها في عهد عبد الناصر، وبعض منها في عهد السادات " الوحدة الوطنية تُحدثنا معظم الإصدارات المسيحية التي تتبني اتهام نظام ذلك الانقلاب كما يصفونه بأسي : إن أي مؤرخ منصف محايد يتأكد له أن أحداث ثورة 1919 تجلت فيها مظاهر الوحدة الوطنية في التحرك المشترك للأقباط والمسلمين ، وأن القيادة الوطنية آنذاك كانت واعية منذ البداية لحكاية الوحدة الوطنية والتي باركها ودعمها الشعب كله والتي أفرزت شعارات وطنية تقدمية مثل "الدين لله والوطن للجميع" و"عاش الهلال مع الصليب" لقد شارك الأقباط في الحياة السياسية بقوة ووطنية في هذه الفترة...لقد تواجدوا بشكل طبيعي وملحوظ علي الساحة السياسية كلها وفي جميع المراكز القيادية ولذلك لم يكن بمستغرب أن ينتخب ويصا واصف - محطم السلاسل رئيسا لمجلس النواب (البرلمان). وأعود إلي المشاهد الطيبة لملامح أيام لايمكن نسيانها ..وأذكر القارئ بما جاء في خطاب البابا كيرلس السادس في حفل وضع حجر الأساس للكاتدرائية بحضور عبد الناصر. قال : السيد الرئيس جمال عبد الناصر..السادة الكرام والأخوة الإعزاء. باسم الإله الواحد الكائن بذاته ، الناطق بكلمته الحي بروحه .. الذي نعبده ولا نشرك به أحداً باسمه نبدأ حفلنا هذا رافعين الشكر لجلالة الإله المقدس.. باسم الكرازة المرقسية وأبنائها في شتي البقاع ، أقدم لكم ورجال الحكومة جزيل الشكر لتفضلكم بتشريف هذا الحفل لإرساء حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية والمقر الباباوي .. ولمساهمة الدولة في نفقات بناء الكاتدرائية بمبلغ مائة ألف جنيه .. هذا العمل الذي ترسمون به تقليداً ومبدأ سامياً في تدعيم أسس الوحدة والإخاء . إن إيمانكم بفاعلية القيم الروحية الموجهة للطاقات البشرية هو الذي دعاكم لأن تسجلوا الميثاق : " إن القيم الروحية الخالدة النابعة من الأديان ، قادرة علي هداية الإنسان وعلي إضاءة حياته بالنور ، وعلي منحه طاقات لا حدود لها من أجل الخير والحق والمحبة " إن الكنيسة التي تساهمون اليوم في إقامة كاتدرائيتها ، مدرسة تعلم ابناءها ما تسلمته من الوحي الإلهي القائل في الكتاب المقدس " فاسأل قبل كل شيء أن تقام تضرعات وصلوات وتوسلات وتشكرات من أجل جميع الناس، من أجل الملوك وكل ذي منصب ، لنقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوي وكرامة " (1تيموثاوس 2: 1- 2) وفي خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في تلك الاحتفالية قال: أيها الأخوة ..يسرني ان اشترك معكم اليوم .. في إرساء حجر أساس للكاتدرائية الجديدة وحينما تقابلت اخيراً مع البابا في منزلي , فاتحته في بناء الكاتدرائية ، وأن الحكومة مستعدة للمساهمة في هذا الموضوع ، ولم يكن القصد من هذا فعلاً الناحية المادية ، فالمساهمة المادية امرها سهل ، وامرها يسير ، ولكني كنت أقصد الناحية المعنوية . إن هذه الثورة قامت اصلاً علي المحبة ، ولم تقم قط بأي حال من الأحوال علي الكراهية والتعصب ..هذه الثورة قامت وهي تدعو للمساواة , ولتكافؤ الفرص والمحبة والمساواة ، من أول المبادئ التي نادت بها الأديان السمائية ، لأنها بالمحبة والمساواة وتكافؤ الفرص نستطيع أن نبني المجتمع الصحيح ، المجتمع السليم الذي نريده والذي نادت به الأديان .. ونادي الدين المسيحي ونادي الدين الإسلامي بالمحبة .. ونادي الدين المسيحي ونادي الدين الإسلامي بالمساواة وتكافؤ الفرص .. وبالعمل من اجل الفقراء والمساكين .. ومن أجل العاملين .. واستنكرت الأديان والاستغلال بكل معانيه، والاستعباد بكل معانيه .. وكلنا نعلم أن المسيح - عليه السلام - كان ضحية للاستعباد والذل .. استعباد الاحتلال الروماني ، وذل الاحتلال الروماني ، وقد تحمل من العذاب ما يتحمله بشر، كلنا نعلم هذا ، ولكن تحمله هذا كان في سبيل رسالته السماوية ، وفي سبيل نشر الدعوة ، لأن هذا العذاب وهذا الألم جعل منه المثل العلي في كل بقاع العالم .. وبعد هذا خرج المسيحيون في كل العالم يدعون للدين الإلهي ويتقبلون العذاب بصبر وإيمان .. وكان دائماً لسانهم يدعو رغم العذاب ..علي المحبة .. وإلي الإخاء. إنني أناشد بعض الأقباط المغيبين ،هؤلاء من يتصورون أن في رفع شعار " مصر أولاً " و نبذ الانتماء لغة ووطناً وثقافة للعالم العربي دعوة للتقدم أن يفيقوا فإنه توجه ضد كل معطيات الواقع والتاريخ والجغرافيا ..