منذ أيام قلائل شيعت الجزائر أبرز آباء الرواية الجزائرية الحديثة، هو الطاهر وطّار الذي غادرنا لدار البقاء، عن أربعة وسبعين عاماً، بعد مشوار أدبي طويل، مليء بالكفاح الأدبي والوطني والسياسي، امتد خمسة عقود، وذلك بعد صراع مرير مع المرض، شمل السنوات الأخيرة من حياته، اختار وطّار معها العزلة والبعد عن دائرة الضوء، يعد وطار من الروائيين اليسار المدافعين عن اللغة العربية بشراسة، حتي قيل عنه إنه أول من أنشأ ما يمكن تسميته بقارئ الرواية العربية في الجزائر، ويعد وطار أشهر الكتاب الجزائريين، فقد ألف العديد من الروايات والقصص والمسرحيات التي لاقت رواجاً في العالم العربي، وترجم العديد منها إلي لغات عدة. تمرد جمالي قال عنه الناقد شكري عزيز الماضي، في كتابه: "أنماط الرواية العربية الجديدة"، إنه من الأصوات الروائية التي ثارت علي الرواية التقليدية، وقد نمت وترعرعت في أحضان الرواية الحديثة، ثم ما لبثت أن تمردت، مع نهايات القرن، علي فلسفة الرواية الحديثة ومقولاتها الجمالية، واتجهت نحو الرواية الجديدة، تلبية للتغيرات والتحولات العنيفة التي شهدها الوطن العربي، من أقصاه إلي أقصاه، وقد رافق هذا التمرد الجمالي، تحول في ماهية الرواية ومهمتها، فلم تعد الرواية أداة لتفسير العالم وفهمه، وربما تغييره، بل أصبحت وسيلة تعبير وتصوير، وشاهدة علي ما جري ويجري، من تفكك واضطراب واهتزاز للثوابت والأيديولوجيات والأبنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فالطاهر كان من كتاب الرواية الملتزمين الذين كانوا ينهلون من أيديولوجية معينة، في رؤية الإنسان والتاريخ والعالم، وفهمه ونقده وتغييره، ثم نراهم، في السنوات الأخيرة، قد تفاعلوا مع المستجدات العنيفة، والتحديات التي لم يفلت من قبضتها أحد، يصدرون روايات، تصور العالم ملتفاًّ بالغموض والحيرة والشك واللايقين، ويعد وطار نمودجاً بارزاً لهذا التحول، فقد تحول بالرواية من الرؤية الوثوقية للعالم، إلي الرؤية اللايقينية، ولهذا، قسم عزيز الماضي إنتاج وطّار الأدبي إلي مرحلتين: الأولي: مرحلة الرواية الحديثة، وفيها أصدر "اللاز"1974، "الزلزال"1974، "عرس بغل"1978، "العشق والموت في الزمن الحراشي"1980، "الحواة والقصر"، "تجربة في العشق"1989، والثانية: مرحلة الرواية الجديدة، وتبدأ من منتصف تسعينات القرن الماضي، وما تلاها من سنوات، وفيها أصدر "الشمعة والدهاليز1996، "الولي الطاهر يعود إلي مقامه الزكي"2003، "الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء"2004، وتعد الروايات الثلاث الأخيرة، روايات جديدة في معناها ومبناها، علي الرغم من التفاوت والتنوع في أبنيتها السردية وأساليبها، فقد خلق فيها بنية سردية، حققت ما يسمي "بجماليات الرعب وانهيار المجاز والترميز"، وذلك بتعبير شكري الماضي. تاريخ مواز ففي مرحلته الأولي، حيث أصدر في بداية الستينات مجموعة قصصية بعنوان: "خان من قلبي"، ثم في 1974 أصدر روايته الأولي "اللاز" التي تعد تاريخاً موازياً له، وغير رسمي، لجزائر ما بعد الاستقلال، حيث رصد فيها تناقضات الثورة الوطنية الجزائرية، وهي من أهم ما كتب، فقد تناول فيها الشأن الجزائري، فترة الاستعمار الفرنسي، والكفاح ضده، عبر حرب التحرير التي شهدت مؤازرة عربية، عن طريق مد هذه الثورة بالسلاح، وعن "اللاز" قال وطار: "اللاز في الرواية العربية، هي طفرة كبيرة، ولأول مرة تتحدث عن الثورة بالملموس، فيها خلاف حقيقي، وليس وهماً، وقتل وذبح حقيقي، ولأول مرة، طرحت الرواية، وبجرأة، قضية علاقة الشيوعيين بتاريخ التحرير الوطني، وكان ذلك بمثابة الجسم الغريب الملفوظ"، وفي "الزلزال"، راقب التحولات الزراعية للبلاد، وحاول في "العشق والموت في الزمن الحراشي"، التأريخ لمرحلة الثورة الزراعية، والتفسير الاشتراكي للمؤسسات، كما عالج في "الحواة والقصر"، و"تجربة العشق"، أيديولوجية البرجوازية الصغيرة القائمة علي الازدواجية، وهكذا، تموقع وطار، منذ بداياته، في خندق "الواقعية الاشتراكية"، ولكنه خلق واقعية اشتراكية علي طريقته الخاصة، وذلك بشهادة بعض النقاد، حيث وظف البطل المضاد ضد البطل الإيجابي، كما وظف التجريد والسيريالية، في "عرس بغل"1983. التراث الصوفي أما في أعماله الأخيرة، أي المرحلة الثانية من مشواره الأدبي، فقد استلهم التراث الصوفي، ولبس جبة الولاة؛ ففي "الشمعة والدهاليز"، شعر القارئ بأن وطّار اتصف بحرارة الإخلاص، والبحث عن العنصر الإنساني وسط الركام، راح يعصف بالوضوح، ويمزق منطق التتابع والترابط، ويفجر منطق الحبكة المتماسكة، ويثير الأسئلة، بل يثير الشك في التقاليد الجمالية الروائية الراسية، وفي التيارات السياسية والفكرية والثقافية، فبنية الرواية، تتمثل في دهاليز متعرجة، وسراديب وأغوار متفرعة ومتداخلة ومتشابكة، لتدل علي التيه والضياع والعبث والغموض والخوف والظلام، ويمكن القول بأن الشمعة والدهاليز، تجسيد حي لجماليات التفكك أو جماليات الرعب والقبح، فالعالم الروائي يلفه التبعثر والتشتت والتفكك والجهل والسطحية والدجل والخديعة والخواء، عالم يقف علي أرض مضطربة، كل شيء فيه يتفسخ، فالشعر ينسل ويتساقط، والجلد يتقشر، واللحم يتحلل، والعظم يتفتت، وكذا القيم والمثل والمبادئ والأفكار: "ما إن يلوح دولار واحد في الأفق، حتي ينهار الإنسان الذي يمطرك كذباً بوابل من المثل والقيم اللينينية الماركسية..هنا عندنا الناس الذين استفادوا من الاستقلال، يتحسرون علي الاستعمار، دم الشهداء ذهب هدرا، تضحيات المجاهدين صارت عملة صعبة، ترتفع أسعارها في بورصة المضاربات كل يوم..لا صدر اليوم يا سيدي الطبيب يضع عليه الشعب رأسه ويبكي، كلهم تحولوا إلي تجار ورجال أعمال ومضاربين.."، وتتفتح الشمعة والدهاليز علي التراث العربي الإسلامي، والتراث الإنساني، في سبيل إقامة حوار خفي بين الماضي والحاضر، فتتناثر الإشارات الموحية الدالة، إلي عمار بن ياسر والجاحظ وواصل بن عطاء وابن رشد وابن الهيثم وأحمد بن حنبل وماركس ولينين وفيخته ونيتشه وعقبة بن نافع وغاي..، يحاول وطّار العودة إلي الجذور، ليفسر واقع الجزائر في التسعينات، وعلي الرغم مما تثيره هذه البنية السردية من أسئلة فكرية وفنية، وبما توحي به من انسداد في الأفق، فإنها تجتهد في البحث عن كوّة صغيرة في نهاية النفق، تسهم في إخراج قادتها، من الدهاليز المؤدية إلي سراديب معتمة، فهذه الدهاليز التي تبدو بلانهائيتها، تبقي مهددة بالانكشاف والافتضاح: "ظلامها يتبدد بواسطة الشمعة، شمعة واحدة لاغير، لكن هناك ومضات ضوء خافت ترسله شمعة ما في منارة ما في دهليز ما.."، فالشمعة تومئ بأكثر من دلالة، فهي أحيانا الجزائر مقابل الدهاليز، وهي التيارات السياسية كلها، والمستقبل في مقابل الماضي، والعلم في مواجهة التخلف، والعقل مقابل الأوهام والخرافات. اختار وطار بنية سردية مفككة مبعثرة، وجد فيها انعكاساً لواقع الجزائر في التسعينات، واقع زاخر بالفوضي والاضطراب والعبث، فالولي الطاهر صوفي، صاحب كرامات ومعجزات، وصاحب مقام زكي، وهو ليس شخصية روائية بالمعني المألوف، كما أنه ليس شخصية واحدة، بل هو حالات، أو هو تجلٍّ حالة ما، تشي بها ملامحه الصوفية، وكراماته واستشهاده، أو موته أكثر من مرة، وندبه نفسه لمحاربة وباء الفسق والفجور، تعد هذه الرواية تتمة لرواية الشمعة والدهاليز، وهي تنطوي علي تلاحم نسبي بين محتواها وتشكيلاتها الفنية، وهو أمر وسم البنية السردية بالحيوية، والقدرة علي الإيصال، يتم فيها تكرار صورة الاستهلال؛ حيث الولي الطاهر ومعه "الأتان العضباء" يبحثان عن منفذ لولوج المقام الزكي، وهي أنثي الحمار المكسور قرنها، وتتكرر هذه الصورة، بشكل ملحوظ في الرواية، كما تتكرر في روايته الثالثة: "الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء"، الأمر الذي يمنح هذه الصورة أهمية، ويجعلها بمنزلة "لازمة" تهدف إلي لفت انتباه القارئ، إلي بؤرة النص، وعلي الرغم من الطابع التجريدي العام لزمان الرواية ومكانها، فإنها تتفتح علي التاريخ البعيد والقريب؛ فهي تتكئ علي حادثة تاريخية تتكرر الإشارة إليها، وهي حادثة قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة، أثناء حروب الردة، وزواجه بزوجته "أم متمم"، وهي الحادثة التي وقف حيالها خليفتان، لا يشك في نزاهتهما، موقفين متضادين؛ فحينما طالب عمر بن الخطاب برجم خالد، رأي أبو بكر الصديق أن خالداً اجتهد، فله أجر واحد، وتنتقل الرواية إلي القاهرة، فتصور تفجير حافلات السياح، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، ثم تومئ إلي مجزرة الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، وإلي قصف معمل الأدوية في السودان، من قبل الطائرات الأمريكية، بذريعة أن المعمل من إنشاء بن لادن، وإذا كانت اللمحات الوقائعية في رواية "الولي الطاهر يعود.."، ومضات قليلة ومتناثرة، فإن الأمر يبدو معكوساً في روايته الثالثة: "الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء"، إذ يغلب عليها عرض الوقائع والأحداث اليومية الجارية، بصورة تقريرية مباشرة، وهكذا، فشل الولي الطاهر في ولوج مقامه الزكي، وأثبت أنه لا يحسن إلا استخدام الساطور والسكين والمدفع الرشاش، فانتهي به الأمر إلي العيش في ظل الكسوف والظلام المسيطر، فينكفئ علي ذاته، بعد أن أصابه الوهن والضعف، ويبدو عاجزاً عن الإتيان بأي فعل، باستثناء رفع يديه بالدعاء، لأنه فقد كل القدرة علي الفعل، شأنه شأن كل المفكرين والأدباء وأصحاب الرؤي الخاصة، يقول وطار: "لقد جاءت هذه الرواية جزءاً ثانياً للولي الطاهر يعود إلي مقامه الزكي، ولو كنت ناقداً، لقلت إنها جزء ثالث للشمعة والدهاليز، الموضوع واحد، والشخوص هم، بأسمائهم وصفاتهم..فقد أكون بصدد كتابة رواية واحدة، كلما تعبت، وضعت لها عنوانا جديداً!". مولده ونشأته ولد وطار في 15 أغسطس1936، في سوق أهراسبالجزائر، وهي بيئة ريفية أمازيغية، أرسله أبوه إلي قسنطينة، ليتعلم في معهد الإمام عبد الحميد، وفي 1952، انتبه وطار إلي أن هناك ثقافة أخري موازية للفقه والعلوم والشريعة، وهي الأدب، فالتهم، في أقل من سنة، ما وصله من كتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وزكي مبارك وطه حسين والرافعي وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، ثم راسل مدارس في مصر، فتعلم الصحافة والسينما، في مطلع الخمسينات، ثم التحق بجامع الزيتونة بتونس من 1954 -1956، وانضم إلي جبهة التحرير الوطني، وظل يعمل في صفوفها حتي عام 1984، عندما أحيل علي المعاش وهو في السابعة والأربعين، بإيعاز من العسكر، بسبب قصة قصيرة نشرها عام1984، في مجلة الآداب البيروتية، بعنوان: "الزنجية والضابط"، فقرر وطّار الانتحار، ولكن القدر ساق إليه ديواناً شعرياًّ لفرنسيس كومب، فعكف علي ترجمته، وطرد فكرة الانتحار. وفي سنة1962، أسس أسبوعية "الأحرار" بمدينة قسنطينة، وهي أول أسبوعية في الجزائر المستقلة، وفي سنة1973، أسس أسبوعية "الشعب الثقافية"، فأوقفتها السلطة في 1974، لأنه حاول أن يجعلها منبرا للمثقفين اليساريين، شغل منصب مدير عام للإذاعة الجزائرية، بين عامي: 1991-1992، أنشأ إذاعة القرآن الكريم، وعندما كان مصطلح الإرهاب يجري علي ألسنة المثقفين، رفضه، وفضل عليه الحديث عن "العنف والعنف المضاد"، أسس جمعية "الجاحظية"، التي أولاها جُلّ اهتمامه، ولم يتخلّ عنها، حتي نهاية حياته، واتخذ عبارة: "لا إكراه في الرأي"، شعاراً لها، وقال عنها: "لسنا بديلاً لاتحاد الكتاب، ولا للوزارة، ولا ندعي تمثيل جميع مثقفي الجزائر، ومع ذلك، نعاني الحصار الذي تفرضه علينا ثلاث جهات: البيروقراطية التي تري فينا الدليل علي إحكام العقل الثقافي بإمكانات محدودة، والفرانكفونيون الذين يقاوموننا علي اعتبارنا البديل الصحيح للمشاريع اللاوطنية واللاشعبية التي يروجون لها، ثم هناك بعض المقربين الذين يزعجهم نشاطنا علي اعتبارنا نفضح اتكاليتهم..". كان وطار علي خلاف دائم مع النخبة الثقافية، وسر الخلاف هو القطيعة الثقافية التي تفصل هذه النخبة عن عامة الشعب. كانت آخر أعماله الأدبية رواية: "قصيدة في التذلل" التي عكف علي كتابتها منذ 2007، وهي عن علاقة المثقف بالسلطة، والتي كانت إحدي هواجس وطار، كان يرغب في إتمامها قبل مماته، حتي لا يكتب عليها عبارة: "رواية لم تكتمل"، ولذا، عاود الكتابة أثناء تواجده بالمستشفي، وفي يوم الخميس 12 أغسطس 2010، سلم وطّار روحه لبارئها، وظلت روايته الأخيرة، رواية لم تكتمل، وعن الموت قال: "الموت لا يخيفني، لأنني أؤمن به منذ صباي، وأنتظره كل يوم، كحق وواجب". وهكذا، استجاب وطّار لداعي الحق والواجب، لله وللقراء، رحمه الله.