لماذا تفقد الأسماء معناها.. والمعاني صدقها؟!نعم.. كان المعرض العام منذ تأسيسه عام 969 1 بعد عامين من هزيمة يونية المشئومة معني تجسد في اسم.. والمعني هو: أن انكسارنا بالهزيمة العسكرية لم ينجح في كسر أرواحنا بالكف عن الحلم والإبداع، بل نجح في أن يجعل الفنانين يطلقون من أعماقهم قوة مضافة للصمود والمقاومة، وأن يحيلوا مأتم النكسة إلي عرس للجمال، عرسانه وعرائسه هم أنفسهم، بكل أجيالهم وأطيافهم، يلتقون بما أبدعت أناملهم، ولو بقطعة أو اثنتين لكل منهم، متلهفين للقاء، فرحين به كيوم عيد حقيقي، ومتشوقين لرؤية أثر ما قدموه في عيون جمهورهم الذي لم يخذلهم أو ينصرف عنهم، بل كان يحاور العارضين ويستمع إليهم باهتمام لا يخلو من إعجاب حتي من أبسط المواطنين، وهم يتوافدون خلال أيام المعرض بغير انقطاع.. هكذا كانت قاعة الفنون الجميلة بميدان باب اللوق وقاعة الاتحاد الاشتراكي علي الكورنيش قرب ميدان التحرير، وحتي قاعة النيل بالجزيرة «قبل أن تتحول إلي قصر التيه المسمي قصر الفنون».. كانت جميعا ساحات للمتعة الجمالية والتفاعل بين الفنانين من أنحاء مصر وبين الشعب بكل مستوياته وطبقاته. لم يكن أحد من الفنانين المؤثرين في الحركة الفنية يتخلف عن هذا العرس إلا لأسباب استثنائية، كانوا يتنافسون بإبداعاتهم كأنهم يشاركون في مسابقة بلا جوائز، لأن العرض بحد ذاته كان جائزة معنوية، وكان تعميدا لأي فنان شاب يقبل عمله فيه، لهذا كان مقياسا صادقا لمستوي الحركة من العام للعام. كانت القاهرة كلها تحتفل معنا بهذا العرس: الأفيشات الضخمة بحجم أفيشات السينما تعلق بأهم الميادين والشوارع.. الصحف والمجلات تتسابق لتغطية أخبار الحدث.. جريدة مصر السينمائية الناطقة تسجل المعرض وتبثه في دور العرض قبل عرض الأفلام الروائية.. الإذاعة والتليفزيون يستضيفان المتحدثين والمعلقين.. النقاد يحجزون أماكن مقالاتهم قبل يوم الافتتاح علي صفحات ملحق الأهرام وجرائد المساء والأخبار والجمهورية، ومجلات المصور وروزاليوسف والطليعة، وكان من حق الفنان الشاب بل من المعتاد أن يجد اسمه علي أقلامهم مشفوعا بتعليق قد يعطيه طاقة أمل عظيمة، وقد يجعله يتوقف متأملا رأي الناقد فيه، وقد يأتي النقد قاسيا علي أسماء كبيرة وحانيا علي أسماء صغيرة، وقد يكون من نصيب الدولة انتقاد لاذع لما يراه الناقد انتقاصا من حقوق الفنان أو إغفالا لاشتراك قامة كبيرة بين الفنانين.. لكن ذلك لم يكن يصدر عن ضغينة أو ثأر مبيت، بل عن رغبة في الأفضل، وهو ما كانت تتفهمه غالبا الإدارات المعنية ولا تجعل منه ذريعة لتصفية الحسابات مع الناقد، وقد تستضيفه في ندوة للحوار حول ما كتب.. وفي غضون ذلك كله كانت الهيئات والأفراد يتوافدون علي المعرض للاقتناء منه، غير ما تختاره لجنة المقتنيات بوزارة الثقافة، رغم ميزانية التقشف لحرب الاستنزاف وما بعدها، وقد كانت قيمة العمل المقتني حتي أوائل التسعينات حوالي واحد إلي عشرين بالنسبة لقيمتها الآن، ومع ذلك كانت تساوي أضعاف قيمتها اليوم ماديا ومعنويا. كل هذا ولي وراح، وغاب عنا إحساس الزهو به منذ سنوات بعيدة، حتي أن المرء لا يكاد يذكر آخر مرة شعر فيها ببهجة العيد في المعرض العام، أو لمس بادرة اهتمام من المجتمع أو الصحافة أو الإعلام به كحدث ثقافي مهم باستثناءات قليلة.. وفي محاولة لاسترجاع هذا الزخم من جانب عدد من الفنانين والنقاد في إحدي الدورات خلال النصف الأول من التسعينات فيما أذكر وكان الفنان أحمد نوار قد دعاهم بصفته رئيسا للمركز القومي للفنون التشكيلية لمناقشة الأمر وتقديم رؤيتهم حول تطويره ثم إقرار اسم جديد للمعرض بديلا عن «المعرض العام» وهو «المعرض القومي» انطلاقا مما كنا نستشعره آنذاك من تحول الفن إلي نشاط مهني فوقي لا يعني غير أصحابه ولا يعبر عن توجه قومي نابع من واقع مصر وهويتها وطبقات ثقافتها المتراكمة، وهي الفترة التي شهدت الانفصال الحاد بين الفن والحياة، ومن ثم بينه وبين المجتمع وشهدت الانغماس العميق لأجيال الفنانين فيما اعتبروه التجريب المطلق للحاق بقطار الحداثة، هذا الانغماس الذي كان يحدث تحت دوي الطبول في صالون الشباب السنوي، شحنا للطاقات نحو فن جديد يتحرر من كل الثوابت والمسلمات التي عفا عليها الزمن، ويتمحور حول الخامة الزائلة والتشكيل الغرائبي في الفراغ والتنصل من الإنسان والطبيعة.. والبعض ممن كانوا يدقون الطبول للحداثة وفق الموديلات والمعارض الدولية في الغرب كانوا يراهنون علي إرضاء وزير الثقافة الفنان فاروق حسني لتصورهم أن هذا هو ما يرضيه ويحقق مشروعه الثقافي، فبالغوا في دق الطبل تقربا إليه، إلي حد الذي جعل بعض «الدكاترة» يخاطبون شباب الفنانين في إحدي الندوات صائحين بالحرف: مزيدا من الجنون!.. مزيدا من الركل لكل ما هو قديم!.. والبعض الآخر من ضاربي الطبول اشتهي نصرا وظيفيا يقفز به إلي أعلي مراتب السلطة الثقافية.. والبعض الثالث كان يتطلع إلي أن يؤسس لنفسه ريادة يدخل بها تاريخ الفن مثلما دخله رواد من أمثال رمسيس يونان، حسين يوسف أمين ويوسف العفيفي، حين أسسوا ورعوا الجماعات الفنية الطليعية في الأربعينات.. ولم يتوقع أي من هؤلاء جميعا حتي في كوابيسه أن يأتي يوم بعد سنوات قليلة يركله فيه بعض هؤلاء الشباب كما ركلوا ما حُرِّضوا ضده من ثوابت القيم الفنية! كان أملنا أن نستعيد بكلمة «القومي» معني الانتماء ومعني ارتباط الفنان بهدف، حتي لو كان ما يقدمه تجديدا خالصا.. يكفي أن يشم فيه المواطن رائحة الوطن، وأن يستشعر في العمل الفني ما يربطه بمصريته.. ثم فليغن كل فنان بعد ذلك أغنيته كما يشاء.. وليمارس تجاربه التقنية كيفما شاء.. بالخامات والأساليب التي يشاء.. هكذا يمكننا أن نستعيد ذواتنا وأن نستعيد جمهورنا.. وفوق ذلك: أن نجعل لإبداعنا خصوصية وتميزا خلال سعينا إلي الحداثة في محافل الفن في الداخل والخارج.. ومن أجل المزيد من الجدية ومن احتشاد الطاقات والإمكانات لإقامة المعرض بالشكل الذي يليق برسالته، اتفقنا علي أن يقام كل عامين، واضعين في الاعتبار إفساح المجال لإقامة بينالي القاهرة بين كل دورة وأخري من المعرض القومي، وكذلك توفير ميزانية أكبر للاقتناء منه بضعف القيمة التي كانت تخصص له كل عام. كان ذلك هو الحلم.. فإلي أين أخذنا الواقع؟ لقد ازداد «المعرض القومي» علي مر الدورات انزواء وتهميشا علي الساحة الفنية والثقافية، وراح يتخبط بين أقدام عمالقة جدد وقدامي احتلوها بأكبر قدر من الإمكانات والتمكين: بينالي القاهرة.. بينالي الإسكندرية.. ترينالي الجرافيك.. ترينالي الخزف.. سمبوزيوم النحت بأسوان.. إعادة بناء قاعة النيل.. تطوير المتاحف.. وهي مشروعات رائعة بغير شك، لكنها استغرقت سنوات طوال حصدت الأخضر واليابس.. فماذا وصل إلي الشعب وإلي الفنان بعد أن ابتلعت تكاليف المهرجانات والاحتفالات المظهرية والمطبوعات الخرافية والجوائز المالية للفنانين الأجانب ما بقي من الميزانيات المتاحة؟.. لا شيء يذكر!.. ليتلاشي أثرها سريعا بعد فض المناسبة.. فالمعرض أو المتحف يفتتح بدون بناء جسر للتواصل بينه وبين المجتمع الذي ينظر إلي ما يجري كشأن من شئون أصحابه ولا يعني إلا «الناس الفاضية!».. وهذه نتيجة طبيعية لغياب أي تخطيط لتنمية التذوق الجمالي، مثل تفعيل مواد التربية الفنية بالمدارس، وبث برامج بهذا الغرض عبر قنوات التليفزيون، وإصدار سلاسل كتب مبسطة عن الفن والفنانين، وإطلاق حملات علي نهج مشروع القراءة للجميع.. فهل سمعنا عن حملة واحدة تقوم علي فكرة «الفن للجميع»؟.. لماذا نستغرب إذن ألا يكترث الناس بأي «بينالي» أو «ترينالي» أو «سمبوزيوم» فحتي تلك المسميات الأجنبية تكفي بحد ذاتها لتجعلهم مقتنعين بأنه لا شأن لهم بما يسمي الفن التشكيلي ككل!.. أما الفنان فلا يشعر بأن له أي كيان أو أهمية في هذا المجتمع، ولا يحسب له حساب في الحراك الثقافي أو في التخطيط لأي مشروع تنموي أو حتي تجميلي، ولا يملك إلا أن يمارس فنه لنفسه «وبس!».. في ظل عزوف مجتمعي عن اقتناء أعماله، وتتدهور أحواله المعيشية إلا من حظي بكرسي أستاذية أو بعلاقات استثنائية ببعض الأثرياء والمسئولين وبأصحاب الجاليريهات المتعاملين مع دول الخليج ومزادات الفن بها، فلم يعد أمام الأغلبية الساحقة من الفنانين إلا الوقوف في «طابور الإعانة» علي أمل اقتناء لجنة المقتنيات أحد أعماله، وغالبا ما تلغي ميزانياتها أو لا ينال منها نصيبا، وتزداد حالته سوءًا عندما تتبدد تباعا الخدمات والمكاسب التي حصل عليها قديما مثل المراسم والكتالوجات المناسبة لمعارضه. إذن فالمرسل والمستقبل وهما جناحا العملية الثقافية أصبحا خارج المعادلة، وبقي الوعاء الثقافي خاليا من المضمون ومن البشر.. وشيئا فشيئا أصبح المعرض القومي كاليتيم لا يجد من يرعاه. بل لا يجد أحيانا المكان الذي يقام فيه، فكان يقام حينا بمجمع الفنون بالزمالك «قبل إخلائه وتبويره في ظروف غامضة!» وحينا آخر ببعض قاعات متحف الفن الحديث التي كان يتم إخلاؤها وتعطيل دور المتحف، وبدلا من إقبال الفنانين المتميزين علي الاشتراك فيه توزعت أعمالهم بين المعارض ذات الجوائز مثل البيناليات والتريناليات وصالون الشباب، ولم يتبق لديهم للعرض بالمعرض القومي إلا الأعمال القديمة أو سقط المتاع في مخازنهم، هذا إذا اهتموا بالمشاركة أصلا!.. أما قضايا الهوية وما شابهها فصارت مثل الفلكلور أو موضات الأزياء العتيقة بالنسبة للبعض، فكانوا يستبدلونها بموضات عصرية منفذة علي مساحات ضخمة حتي لا يجدوا أعمالهم منزوية في الأركان المظلمة والأماكن الهامشية، هذا علي الرغم من أن كل دورة كانت تقام تحت عنوان براق من «الزمن الجميل» إلا أنه كان من النادر أن يذكره أحد حين يختار أعماله التي يشارك بها، ولعلنا نذكر المعرض القومي السابق 2008 الذي أقيم تحت شعار يدعو لتأكيد الهوية، ونذكر «المانيفستو» الذي كتبه قومسيير المعرض الفنان ثروت البحر في الدعوة للاشتراك داعيا الفنانين لاستلهام روافد الحضارة والبيئة والشخصية المصرية، لكن المعرض جاء في اتجاه آخر، فيما عدا فن الخط العربي الذي أضافه القومسيير إلي مجالات الفن، فبدا غريبا في غير مكانه. أما المقتنيات من المعرض فكانت أنظار اللجنة المكلفة بها تنجذب بقوة مغناطيسية نحو الأعمال «التجريبية» التي تقوم علي غرائب الخامات والتركيبات في الفراغ والألوان الصارخة والمسطحات الهائلة، فتعطي لها القطع السمينة من الميزانية، إلي جانب ما تختاره من بعض ذوي الأسماء الرنانة وأعضاء اللجان والمقربين، ولا يبقي لمئات الفنانين في النهاية إلا فتات المائدة.. وعلي كل حال فإنهم يتساوون جميعا في أن مصير أعمالهم المقتناة هو التكديس بمخازن المتحف المكتظة أصلا، بعد أن ضاقت جدران المبني عن احتمال المزيد من الأعمال، لكنها مساواة منقوصة في هذه الناحية، لأن هناك من تحتل أعماله مساحات هائلة في قاعات المتحف وفقا لخطط العرض التي كانت تتم عادة من خلال نظرة عنصرية تستعلي علي من يختلف مع اتجاهها الفني أو مع أدائها الوظيفي، فيما لا يجد البعض من أصحاب الأعمال الجيدة ولو مساحة لعرض لوحة صغيرة واحدة من أعماله المخزنة بالمخزن. حسنا.. فماذا عن الجمهور بالنسبة لكل ذلك؟ لقد خرج ولم يعد، وأصبح ذكري منسية قد نذكرها أحيانا كما يذكر فنانو صالون الشباب فكرة الهوية.. لا أنسي يوم حضرت ندوة بقصر الفنون حول أحد المعارض ولم يكن حاضرا كالمعتاد غير بضعة أشخاص أغلبهم من الفنانين والموظفين، وكالمعتاد أيضا كان المتحدثون يلوكون نفس الكلام المكرر ونفس الشكاوي الموسمية، وفي نهاية الندوة رأيت شخصا غريبا عن وسط التشكيليين، وكأنه جاء مندوبا عن الجمهور الغائب!، وسأل أحد الدكاترة المتحدثين في الندوة عن معني ما كان يقوله وذكر أنه لم يفهم شيئا مما قيل، فرد عليه الدكتور قائلا: أنت دخلت هنا غلط أصلا! نعم.. تلك هي الحقيقة العارية، لكن المشكلة هي: إذا غاب الجمهور وغاب الفنانون أيضا.. فلمن يقدمون أعمالهم؟.. ولماذا يستمر المسئولون في إقامة المعرض؟ في الدورة الأخيرة فاجأنا هؤلاء المسئولون بتغيير عنوان المعرض القومي ليعود إلي مسماه القديم «المعرض العام».. وبهذا يضاف إلي السؤالين السابقين سؤال آخر: هل بإعادة كلمة «العام» يعود عامة الشعب إلي الفن؟.. الإجابة رأيتها خلال الزيارتين اللتين قمت بهما للمعرض في وقتين مختلفين.. لم يكن معي في كل مرة إلا بضع طالبات بكليات الفنون وأحد النقاد!.. لكن هذه نتيجة وليست إجابة.. أما الإجابة فلا علاقة بها بالشعب، بل بإعلان السيراميك في التليفزيون: انسف حمامك القديم!.. لكن أصحابه من المسئولين يكملونه كالتالي: وأعد بناءه بحيث تخفي معالم من سبقوك وتدعم قوة كرسيك!.. أما الفنان فقد حذف من قاموسه أي كلمة تتعلق برسالة نحو المجتمع. عفوا.. لم أكن أنوي أن أكتب ما كتبت، بل إنني جلست فعلا لكتابة مقال عن المعرض العام الأخير بشكل مهني بحت، حول ما تضمنه من أعمال واتجاهات فنية، بناء علي دعوة كريمة من الناقدة فاطمة علي محررة هذه الصفحة، وكنت راغبا في الإشارة إلي التغير الذي حدث هذا العام بإفساح مساحة مناسبة للأعمال الجادة وفق المعايير التي تقوم عليها فنون التصوير والرسم والنحت والحفر، وتقليل مساحة التجهيزات في الفراغ والأعمال القائمة علي التكنولوجيا والوسائط الرقمية، بما عمل علي تحقيق التوازن المفقود بين الفنون الراسخة وفنون الميديا، وبما يوقظ الأمل في أن يكون ذلك مدخلا للتغيير المأمول، ومن ثم في إمكانية استعادة الجمهور.. لكنني انتبهت علي جرس التليفون، لأجد علي الخط إحدي الموظفات بقصر الفنون، تبلغني بأن المعرض قد انتهي، وبأن علي أن أحضر في أسرع وقت لاستلام لوحاتي.. هكذا عدت إلي المكتب وقد تبخر من رأسي كل ما كنت أنوي كتابته، ووجدت نفسي أكتب ما قرأتموه توًا! فعفوا مرة أخري.. وكل عام وأنتم بخير