لا يجد الدماغ العبري شبيهًا لأي مستبد في عصرنا الحالي إلا فرعون. والمصريون الذين يستخدمون هذا التشبيه لا ينتبهون إلي أنهم يتطابقون مع حاخامات اليهود، فعندما هاجم (أوفاديا يوسف) زعيم حزب شاس الديني (يوسي ساريد) رئيس حزب ميرتس اليساري شبهه بالفرعون الطاغية (أهرام 27/3/2000 ص4) وإذا كان يمكن فهم موقف الأصوليين اليهود المتمسكين بتراثهم المعادي لمصر، كما أنهم غير مصريين، فلماذا يقف كتاب (مصريون) نفس موقف الحاخامات؟ وليت الأمر يقتصر علي سب الفرعون (الرمز القومي للمصريين) وإنما وصل لدرجة انكار انتمائنا لجدودنا، فكتب أحدهم بعد فوز مصر بكأس الأمم الإفريقية عام 2008 مقالاً دل عنوانه علي مضمونه (لسنا فراعين ولكننا جنود صلاح الدين) (الدستور المصرية 16/2/2008) وأرشيفي المتواضع به عشرات الأمثلة لكتاب من اليمين إلي اليسار، ومع ذلك لا يتوقف النشيد العبري المعادي لمصر، وكان آخر مقال قرأته (القاهرة 9/3/2010 ص9) والملاحظ أن الدماغ المولع بالتراث العبري لا يلجأ إلي التاريخ ويستبعد لغة العلم، ولأن د.رشاد عبدالله الشامي عالم يحترم لغة العلم، كتب أن (فرعون سمح لليهود بالإقامة في مصر في أرض جاسان (الشرقية حاليًا) باعتراف التوراة (تكوين/47) وعندما طلب منهم ملك مصر (الفرعون حسب الاستخدام العبري) العمل كسائر المصريين في الزراعة والبناء، اعتبروا هذا التكليف عبودية وفكروا في الخروج من مصر (وجعلوا «يهوه» إلههم القبلي ينكل بالمصريين في صورة عمليات انتقامية بشعة ردًا علي جميل الإقامة لخمسة قرون نعموا خلالها بخيرات مصر، وهي الخيرات التي ندموا علي تركها عندما عانوا الأهوال والتشرد في التيه) (الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية- عالم المعرفة- الكويت- عدد يونية 86 ص 12). الاستبداد الفرعوني وبينما يحلو للدماغ العبري ترديد مقولة الاستبداد (الفرعوني) ذكر العالم د.محمود سلام زناتي أن الأسري في مصر تمتعوا (بوضع قانوني واجتماعي يفضل وضعهم في كثير من المدنيات القديمة. فقد كان الرقيق شأنه شأن الحر ويتمتع بحالة مدنية رسمية) وذكر ديودور الصقلي أن عادة المصريين كانت تجري في حالة وفاة أحد ملوكهم بأن يوضع في آخر أيام الحداد النعش الذي يضم رفاته أمام مدخل القبر. وتشكل محكمة لتنظر فيما قدم المتوفي من أعمال. وأباحوا لمن شاء أن يتهمه وأضاف أن ملوك مصر (لم يكونوا يعيشون علي نمط الحكام المستبدين في البلاد الأخري، فيعملون ما يشاءون تبعًا لأهوائهم غير خاضعين لرقابة ما، فقد رسمت لهم القوانين حدود تصرفاتهم، لا في حياتهم العامة فحسب، بل في حياتهم الخاصة وأسلوب معيشتهم اليومية. وأن الملك لم يكن في قدرته أن يقضي في المخاصمات وفق ميوله الشخصية وإنما وفق ما تنص عليه القوانين في كل حالة. وأن عادة المصريين كانت تجري بتنصيب أفضل الرجال من أحسن المدن قضاة عموميين. فكانوا ينتقون من كل من هليوبولس وطيبة ومنف عشرة قضاة. ويجتمع هؤلاء الثلاثون وينتخبون من بينهم أفضلهم رئيسًا للقضاة، كم عرف التنظيم القضائي في مصر القديمة نظام الاستئناف أمام محكمة أعلي) وأن القضاء كان (مدنيًا ولم يكن دينيًا). وعن وضع المرأة ذكر ماسبيرو (المرأة المصرية من الطبقة الدنيا والمتوسطة أكثر احترامًا وأكثر استقلالاً من أية امرأة أخري في العالم «القديم») وذكر ماكس ميلر (لم يكفل أي شعب قديم أو حديث للمرأة مركزًا قانونيًا مماثلاً في سموه كما كفله لها سكان وادي النيل) وذكر بارتوريه (كل الشعوب القديمة- في الغرب كما في الشرق- يبدو أنها اجتمعت حول فكرة واحدة: أن تجعل من المرأة كائنًا أدني من الناحية القانونية. أما مصر فإنها تعرض لنا منظرًا جد مختلف، فنحن نجد فيها المرأة مساوية للرجل من الناحية القانونية، لها نفس الحقوق وتعامل بنفس الكيفية) وذكر د.زناتي (لقد تمتعت المرأة في مصر (الفرعونية) بمكانة في المجتمع والأسرة لم تبلغها المرأة لدي شعب من الشعوب القديمة، بل في كثير من المجتمعات الحديثة، وأن مصر لم تعرف فكرة انفصال الجنسين وحجاب المرأة، بل كانت المرأة تغدو وتروح في حرية وتتحدث مع من تشاء وتخرج بين الناس سافرة الوجه. وكانت تسهم بنصيب كبير في الحياة الاجتماعية. وأن القانون في مصر القديمة كان يعترف للبنت بحق ميراث يساوي تمامًا حق الولد) وهناك من الدلائل (ما يشير إلي أن الزوج والزوجة كانا يعاملان في الطلاق علي قدم المساواة، وذلك عكس الكثير من الشرائع القديمة التي لم تسو بين المرأة والرجل، حيث كان الطلاق حقًا مطلقًا للرجل. وفي حالة الطلاق يرد الطرف الراغب في الانفصال الحقوق المالية للطرف الآخر لا فرق بين المرأة والرجل وكان القانون المصري يسمح بزواج الأرامل، وهو ما يخالف ما جرت به المدنيات القديمة التي كانت تحظر علي الأرملة عقد زواج جديد». ورسخت الحضارة المصرية قاعدة احترام الصغير للكبير وعطف الكبير علي الصغير، وجاء في نصائح الحكيم (آني) لابنه (لا تبقي جالسًا عندما يكون آخر واقفًا إذا كان أكبر منك سنًا ولو كنت أعظم منه مقامًا) وهي الحقيقة التي أكدها هيرودوت في كتابه الثاني عن مصر (انظر: د.زناتي- تاريخ القانون المصري في العصر الفرعوني والبطلمي والروماني والإسلامي- ط 85 من ص 50- 474) وذكر أكثر من مؤرخ وأكثر من عالم مصريات أن القانون الجنائي المصري كان يطبق العقوبة علي أي مواطن بغض النظر عن موقعه الاجتماعي وذلك عكس المدنيات القديمة. من بين هؤلاء برستد الذي كتب (أن قانون حمورابي كان يقضي في العدالة حسب المركز الاجتماعي للمدعي أو للمذنب. أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذي هو من أرقي مظاهر الحضارة المصرية، فلم يكن معروفًا في بابل. وأن ما أضافته المدنية البابلية إلي إرثنا الخلقي في حكم العدم) بينما في مصر فإن (المنزلة الاجتماعية أو المرتبة العالية لم تعط المصري القديم أية ميزة في نظر القانون) (فجر الضمير- ترجمة سليم حسن- ص 33، 236، 368). المواطنة نخلص من هذا المختصر أن الأسير كان يطبق عليه حق (المواطنة) وأن الفرعون (= الملك) كان يحاكم محاكمة شعبية لحظة وفاته، فإن تبين أنه أساء استغلال منصبه حكم عليه بعدم الدفن الملكي. وأن القانون لم يفرق بين المرأة والرجل، والعقوبة واحدة بغض النظر عن الموقع الاجتماعي، بل وأكثر من ذلك ابتكر جدودنا إلهة للعدالة (ماعت) وذكرت د.مرفت عبدالناصر أنها شاركت في مؤتمر للطب النفسي في لندن. وكان تكريم رئيس الجلسة لها هو وضع صورة خلفها للبرلمان الإنجليزي فوقها صورة كبيرة للإلهة ماعت (لماذا فقد حورس عينه- دار شرقيات عام 2005 ص 77) وجاء في كتاب (الطريقين) الذي كتبه مصري قديم أن كبير الآلهة قال (خلقت كل إنسان مثل أخيه. وخلقت الآلهة من عرقي. أما البشر فخرجوا من دموع عيني) (الرمز والأسطورة- رندل كلارك- ترجمة أحمد صليحة- هيئة الكتاب المصرية- عام 99 ص 72) ولذلك كتب كلارك أن الحضارة المصرية (حضارة راقية) (ص129، 261) وعثر الأثريون علي أكثر من بردية تصور الآلهة وهي تطعم الموتي من البشر وتسقيهم الماء، وهذه البريات محفوظة في متاحف العالم من بينها البردية رقم 7291 بمتحف برلين (أدولف إرمان- ديانة مصر القديمة- ترجمة د.عبدالمنعم أبوبكر، د.محمد أنورشكري- مكتبة الأسرة عام 97 ص 173، 243) وفي اليونان تم إعدام الفيلسوف سقراط وكانت التهمة أنه يدعو للآلهة الأجنبية (المصرية) ويسخر من آلهة اليونان. وتم عرض الفيلسوف أفلاطون للبيع كعبد (د.إمام عبدالفتاح إمام- الديمقراطية والوعي السياسي- نهضة مصر عام 2006 ص 34) بينما في مصر لم يتعرض حكيم واحد لمحنة سقراط أو أفلاطون، رغم النقد الحاد ضد فكرة وجود آلهة وفكرة حياة بعد الموت (أدولف إرمان- مصدر سابق- ص 126، 393، 447) وفي روما القديمة تم صلب ستة آلاف إنسان علي الطريق من كابوا Caopua إلي روما (أثينا إفرقية سوداء- مارتن برنال- أكثر من مترجم- المجلس الأعلي للثقافة- عام 97 ص 705) ورغم هذه الحقائق لا يوجد مثقف يوناني أو مثقف إيطالي يسب جدوده، بل إن الإيرانيين المعاصرين لنا مازالوا يُطلقون أسماء الأكاسرة (الوثنيين وفق الحكم القيمي) علي أولادهم، رغم أنهم يدينون بالديانة الإسلامية. فلماذا اختلف كثيرون من الكتاب المصريين عن غيرهم من كل كتاب العالم؟ وإلي متي تستمر حالة الدونية القومية المتجسدة في التنفس بخياشيم عبرية.