في تطور جديد في ملف المسلمين الأوروبيين الذي أطلق عليه البعض "القنبلة الموقوتة في أوروبا"، أشارت نتائج الاستفتاء الشعبي الذي أدلي به السويسريون في التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي إلي موافقة 57.5 بالمائة من الشعب السويسري علي تعديل الدستور السويسري ليتضمن فقرة تنص علي حظر بناء المآذن. وكانت الحكومة والبرلمان قد رفضا المبادرة علي أساس إنها انتهاك للدستور، ولمبدأ حرية التعبير والحريات الدينية، غير أن القائمين علي الحملة تمكنوا من تجميع أكثر من مائة ألف توقيع مما سمح لهم حسب الدستور الفيدرالي بعرض المبادرة للاستفتاء الشعبي. المسلمون هنا ولن يرحلوا جاء هذا الاستفتاء نتيجة حملة شنها أعضاء في حزب الشعب السويسري اليميني المتشدد وحزب الاتحاد الديمقراطي وهم من المسيحيين الإنجيليين عرفت بالمبادرة الشعبية لحظر المآذن. وفند الموقع الالكتروني للمبادرة حيثيات الدعوة إلي حظر المآذن، وبدأ بتقديم لمحة تاريخية عن المآذن التي تستخدم لدعوة المؤمنين للصلاة ولكنها تستخدم أيضاً لمراقبتهم. وأضاف الموقع، إن المآذن ترمز لدي البعض لنصر الإسلام وإرادة فرض القوة الدينية والسياسية كأنها تريد أن تقول "المسلمون هنا ولن يرحلوا". فالمآذن لا ترمز للعقيدة وإنما ترمز للقوة السياسية الدينية. وعلي الرغم من إقرار الموقع للحقوق التي يكفلها الدستور السويسري للمسلمين بحرية العقيدة في إطار المادة 15 إلا أنه في الوقت نفسه يطالبهم وفقاً للمادة 72 بالتسامح الديني فممارسة عقائدهم لا ينبغي لها أن تتعارض مع حقوق الآخرين وحرياتهم. ولذلك يحدد الموقع أن المبادرة تهدف من حظر المآذن ضمان الحريات للجميع. وبررت الحملة أسبابها في مجابهة خطر أسلمة المجتمع السويسري بعد ازدياد عدد المسلمين في البلاد والذي يتراوح بين 350,000 و400,000 نسمة، أي ما يمثل ما بين 4.5 %إلي 5.2% من مجموع السكان في سويسرا، حوالي خمسين بالمائة منهم من دول البلقان، وعشرين بالمائة من تركيا، وخمسة عشر بالمائة من السويسريين، وعشرة بالمائة من المغرب العربي والبقية من أصول تنحدر من مائة دولة مختلفة. وقامت الأحزاب اليمينية بشن حملة دعائية مكثفة قبل إجراء الاستفتاء استخدمت خلالها الملصقات الدعائية التي تظهر التعصب الديني والهوس السياسي الدموي للمسلمين ومن بينها ملصق دعائي به صورة امرأة منقبة وخلفها مآذن علي شكل صواريخ. وهو ما انتقده الكثيرون في أوروبا لما يمثله من تمييز ضد المسلمين، وأشارت صحيفة الجارديان البريطانية إلي أن المبادرة وحملتها الدعائية تمثل وصمة عار في جبين سويسرا ومثار قلق لكل أوروبا التي تتنامي فيها المعارضة للهجرة وصعود اليمين المتطرف وموجات الإسلاموفوبيا. وقال أولرخ شلوير، عضو في حزب الشعب السويسري اليميني، إن المآذن تمثل رمزا سياسيا وليس رمزا دينيا لأن المسلمين في سويسرا لديهم نوايا لتطبيق الشريعة ويمارسون معتقداتهم بمعزل عن المجتمع ككل ويطبقون عادات تتعارض مع القانون السويسري منها الزواج القسري وارتداء النقاب وختان البنات. وأضاف شلوير "لا نريد أن تصبح سويسرا مثل ضواحي لندن حيث يعيش أكثر من خمسين ألف مسلم في مجتمعات مغلقة. الجميع مرحب بهم في سويسرا، شرط أن يندمجوا في المجتمع ويحترموا القانون والأعراف. نعم للحرية الدينية، لكن هناك قانون واحد". وكشف أدريان أمستوتسذ، النائب البرلماني عن حزب الشعب، إن حزبه سيدعو في البرلمان لإجراءات ضد مظاهر الأسلمة الزاحفة علي المجتمع السويسري وأنه يعتزم النظر في مسألة حظر بناء مقابر خاصة للمسلمين. صدمة مسلمي سويسرا في المقابل، واجهت الجالية المسلمة في سويسرا نتيجة الاستفتاء بصدمة شديدة وعبرت عن قلقها من تنامي مشاعر الكراهية للإسلام والمسلمين وتعبئة العداء ضدهم أو إثارة ردود فعل غاضبة من المسلمين قد تزيد من التوتر العام. وقال حسن تانير خطيب اوغلو رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية "من الواضح أن هناك استفزازا للمسلمين، ونحن لا نريد أن نستدرج إلي ذلك المستوي. سويسرا تحترم الاديان وحقوق الإنسان، لكن الحملة الأخيرة أثارت نوعاً من الكراهية ضد المسلمين.. التزمنا بالهدوء، وآثرنا الحوار، حتي لا نساهم في تنامي الإسلاموفوبيا في سويسرا". كما أكد هشام أبو ميزر، رئيس فيدرالية المنظمات الإسلامية بسويسرا أن مسلمي سويسرا شعروا بالصدمة لهذه النتيجة ولكنهم في ذات الوقت يحترمون رأي غالبية الشعب. أما عبد الحفيظ الورديري، مدير مؤسسة التعارف في جنيف، والمتحدث السابق باسم المؤسسة الإسلامية بجنيف، فصرح لموقع سويس إنفو أن التصويت كان يهدف إلي تهميش المسلمين ومنح قوة سياسية لمن أطلقوا المبادرة والذين عملوا علي استغلال مخاوف الشعب إزاء المسلمين. ولم يستبعد الورديري أن تذهب المبادرات الشعبية القادمة إلي أبعد من ذلك بكثير لأن أصحاب المبادرة استخدموا هذه المرة المئذنة كرمز للإسلام لأنهم خشوا التعبير بصراحة عن استهدافهم للإسلام وللمسلمين. وأكد عادل الماجري، رئيس رابطة مسلمي سويسرا، أن المبادرة عمدت إلي تشويه صورة المسلمين لأسباب سياسية واختلاق أكذوبة خطر تطبيق الشريعة لأن المسلمين لم يطلبوا يوماً تعديل القوانين السويسرية، وتساءل "إذا كان كل المسلمين لا يمثلون أكثر من 4.6% من مجموع السكان، ولا تتجاوز نسبة الملتزمين منهم بممارسة الشعائر الدينية 10%، كيف يمكن أن يمثلوا مشكلة بالنسبة للمجتمع السويسري؟". معارضة سويسرية وجاءت بعض التصريحات الحكومية السويسرية متخوفة من قرار الحظر، وقالت وزيرة العدل ايفيلن ويدمير-شلومبف إن هذا الاستفتاء يعكس الخوف الكامن في سويسرا من الأصولية الإسلامية، وشددت علي أنه يجب أن تؤخذ هذه المخاوف علي محمل الجد مع اعتبارها ليست رفضاً للجالية المسلمة ولا للدين ولا للثقافة الإسلامية. وحذرت من إمكانية أن يؤدي حظر المآذن إلي تعزيز مكانة الإسلام الراديكالي وإلي الإضرار بصورة سويسرا كبلد متسامح. كما استنكرت وزيرة الخارجية ميشلين كالمي- التلاعب بالمشاعر الذي قام به القائمون علي المبادرة، وعبرت عن صدمتها في أن يقوم حزب مشارك في الحكومة بدعم هذه المبادرة. وأجمعت معظم الصحف السويسرية علي وصف القرار بأنه عرض من أعراض الخوف من الآخر واللامعقولية والخلط بين الأمور. وأكد فرانسوا مودو في افتتاحية صحيفة لوتون، الصادرة بالفرنسية في جنيف، أن التصويت عقابي وأن مسلمي سويسرا وقعوا ضحية للخوف والأوهام والجهل. واستنكرت صحيفة لوجورنال دوجور في افتتاحيتها بعنوان "هدف الخوف ضد مرمانا" الخلط القائم بين مسلمي سويسرا والأصولية الدينية التي تنتشر في العالم. كما عارضت الهيئات الدينية المسيحية واليهودية السويسرية بشدة قرار الحظر واعتبرته انتهاكاً للحريات وللعدالة. وأصدرت كلاً من الهيئة السويسرية للجاليات الإسرائيلية ومنبر اليهود الليبراليين بسويسرا بياناً الكترونياً نددا فيه بالتعصب الديني وبخطورته علي المجتمع ككل، واستنكرا الأثر السلبي الذي سيخلفه القرار في نفوس مسلمي سويسرا من إحساس بالإبعاد والتمييز. كما أصدرت هيئة الكنائس البروتستانتية السويسرية بياناً حذرت فيه من انتهاج مبدأ التمييز الديني وطالبت بمعالجة أسباب الأزمة الحقيقية وهي الجهود الناقصة لدمج مسلمي سويسرا في المجتمع. استياء أوروبي ودولي وقوبل القرار بقلق شديد في أوروبا وبانتقاد واسع في الصحف الأوروبية المختلفة. وكتبت صحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية في افتتاحيتها بعنوان "العبثي" إن سويسرا قابلت مسلميها بتمييز صارخ وبتبعية لعداء اليمين المتطرف لهم, أما صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية فوصفت القرار بأنه "انتصار للإسلاموفوبيا" و"هزيمة للصواب". وأشارت صحيفة "لوسوار دو بيلجيك" الصادرة في بروكسل أن الفاشيين والشعبويين نجحوا في تأجيج المشاعر الأكثر انحطاطا، وأضافت أن "استهداف أبراج عمودية ومهاجمة المؤمنين الذين يتواجدون في الأسفل هو تصرف منافق وينطوي علي المغالطة، وهو لعبة خطيرة في أيامنا هذه". وأثار قرار الحظر استياء عالميا خاصة من الدول الإسلامية والفاتيكان والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمات حقوق الإنسان. وعلي الرغم من أن ردود الأفعال في الدول المسلمة ابتعدت عن العنف الذي صاحب نشر الرسوم المسيئة، فإن بعض الدول نادت إلي مقاطعة سويسرا مالياً وسياحياً واقتصادياً لما يمثله القرار من استهداف لحرية العقيدة لدي الجالية المسلمة. وحذر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سويسرا من عواقب مثل هذا القرار ووصف موقفها بإحالة القضية المرتبطة بحرية العقيدة إلي استفتاء شعبي بأنه خطأ فادح ونذير بهيمنة العنصرية والتيار اليميني المتطرف. ومن جانبه، دعا الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) الدول الإسلامية إلي مقاطعة سويسرا وسحب الأرصدة المالية من بنوكها. وأشارت منظمة العفو الدولية إلي أن قرار الحظر ينتهك حرية الأديان ووصفته بأنه غير قانوني لأنه يتعارض مع الدستور السويسري (المادة 15 الخاصة بحرية العقيدة) لذلك استبعدت أن يتم تطبيق القرار. كما ذكرت نافي بيلاي المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة أن حظر بناء المآذن يتعارض مع التزامات سويسرا القانونية الدولية. تأييد اليمين الأوروبي وانتقد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي نتيجة الاستفتاء السويسري ووصف الحظر في بيان بعنوان "اليوم المآذن وغداً المساجد" بأنه يتعارض مع مواثيق حقوق الإنسان والحرية الدينية وحذر من عواقبه. وبالفعل، تبنت بعض الأصوات الأوروبية في بلدان مختلفة الدعوة للسير علي النهج السويسري والقيام باستفتاءات مماثلة. وأظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة لوفيجارو الفرنسية أن أكثرية نسبية من الفرنسيين تعارض بناء مساجد في فرنسا (41%) وتؤيد منع المآذن (46%). وعبر يمينيون أوربيون عن سعادتهم بقرار الحظر ومنهم موريتسيو جاسباري، رئيس مجموعة تحالف سيلفيو بيرلوسكوني في مجلس الشيوخ الإيطالي، ونائب اليمين المتطرف الهولندي غيرت فيلدرس، وزعيم حزب الحرية اليميني النمساوي هاينس-كريستيان ستراشي، ووزير التسهيل الإداري الإيطالي، روبيرتو كارديرولي، عضو الحزب الشعبوي والمعادي للأجانب "رابطة الشمال"، الذي علق علي القرار قائلاً "وصلتنا من سويسرا إشارة واضحة: نعم لأبراج الكنائس، ولا للمآذن". فشل دمج مسلمي أوروبا علي الرغم من الصدمة التي سببها قرار حظر بناء المآذن في سويسرا للكثيرين، إلا أنه يمثل تطوراً طبيعياً لمشاكل فشل جهود دمج المسلمين الأوروبيين من ناحية ولصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة من ناحية أخري. ويتراوح عدد المسلمين في أوروبا بين 15 و20 مليونا أي حوالي 4 إلي 5 بالمائة من إجمالي السكان في أوروبا، ويتركز معظمهم في دول غرب أوروبا وبالتحديد بلجيكا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، هولندا، الدانمارك، السويد وإيطاليا. وتشير الإحصائيات إلي أن المسلمين يشكلون أكبر عدد من المهاجرين إلي أوروبا كما يشكلون أكثر المجموعات الدينية تزايدا من حيث عدد المواليد مما أدي إلي التكهن بأن عدد المسلمين في أوروبا سيتضاعف عام 2025. وكما وصف المفكر السويسري المصري الأصل طارق رمضان ظاهرة خوف أوروبا من رؤية رموز الإسلام في مجتمعاتهم علي أنه خوف من تغيير الهوية الأوروبية التي تعاني أصلاً من مشاكلها الخاصة، فإن مسلمي أوروبا من الأجيال الثانية والثالثة يعانون في المقابل من مشاكل هوية ودمج تزيد من تعقيد عملية تقبل الطرفين لبعضهما البعض. المشكلة الراهنة هي بالتحديد تلاعب سياسي للأحزاب اليمينية والدينية كان من السهل عليها فيها استخدام كليشيهات الإسلام الراديكالي الإرهابي لتعبئة الناخبين للتصويت لصالح المبادرة، لكنها أيضاً تمثل امتدادا للقضية الأصلية وهي قضية اندماج مسلمي أوروبا في المجتمعات التي هاجروا إليها واستمرار إثارة الشكوك حول أولوية ولائهم للإسلام علي ولائهم للمواطنة التي منحتها لهم المجتمعات الأوروبية.