يأتي معرض الفنان السكندري عصمت داوستاشي الأخير بدار الأوبرا المصرية، ليجعل المسافة بين مدينته الإسكندرية، وقلب القاهرة النابض، أشبه بالمسافة بين غرفتين، بل يمكن القول إن ابن حي بحري، رفع الجدار الذي يتوهم البعض وجوده بين عاصمتين ثقافيتين، فعندما يحزم لوحاته وأعماله، ويتجه إلي القاهرة ينتفي معه الإحساس بالغربة التي قد تتسرب إلي نفوس من لا يعرف أن معدة مصر هاضمة تمتزج فيها عناصر وروافد ثقافات عديدة، داوستاشي المتجدد دائما، يتفاعل مع قضايا الأمة ككل، متجاوزا انتماءه إلي واحد من أعرق أحياء مدينة الإسكندرية شعبية (حي بحري) حيث جاء إلي الحياة في وقت كانت الحرب العالمية الثانية محتدمة (1943). جمع داوستاشي بين ثقافة مدينة الإسكندرية تلك المدينة العالمية التي تراكمت علي أرضها حضارات عدة وتلاحقت ثقافات، وفي نفس الوقت ارتباطه بالحس الشعبي العريق، خاصة عندما يكون هذا الحي منجما للفن الشعبي الذي تعلق به وشارك الفنان الشعبي في تجلياته أثناء رسمه الاحتفال بسفر وقدوم الحجاج من الأراضي الحجازية، أو تجلياته في رسم السير الشعبية، تلك الصور والرسوم التي عايشها منذ طفولته بجوار مسجد المرسي أبو العباس وتعرفه المبكر علي المظاهر الغنية للحياة الشعبية، كالموالد، خيال الظل، الأراجوز، صندوق الدنيا. رموز شعبية وكان عصمت داوستاشي قد خاض تجربة العمل الفني الشعبي مبكرا عندما ذهب إلي أشهر خطاط ورسام في حي بحري (الوحش) وطلب العمل معه، وبالفعل قام برسم عربات الكارو والكشري والدندورمة، هذه التجربة كانت كفيلة بأن تدفعه دفعا للتعلق بالأشكال والرموز والوحدات البصرية (موتيف) في تراثنا الشعبي الشرقي الغني، خاصة تلك التي اكتسبت عبر السنين شهرة وانتخبها الضمير الجمعي الشعبي لتعبر عنه، كالسمكة والنخلة، الحصان، والثعبان، والحمام، كما وقع داوستاشي في حب الخامات بكل أنواعها، والتي نجدها أمامنا باستمرار ولا نعيرها أي اهتمام، لكن داوستاشي يوظفها بشكل غير تقليدي في أعماله، ليقترب من فن البوب آرت، وساعده في ذلك بحثه الدائم ودراساته في مختلف المجالات الفنية من نحت مجال دراسته الأساسية بكلية الفنون الجميلة التي تخرج فيها العام1969 كما مارس داوستاشي التصوير (الرسم الملون ) علي نطاق واسع وكذلك الحفر وأيضا التصوير الفوتوغرافي. إسهام إبداعي ويعد من فنانين قلائل جمعوا بين الإسهام الإبداعي والإبداع الأدبي، فقد أصدر أكثر من عشرين كتابا آخرهما (الرملة البيضا) سيرة ذاتية صدر منها الجزء الأول يرصد الفترة (19431963 ) وأخرج داوستاشي أفلاما فنية قصيرة آخرها فيلم الريشة والقلم عام(2000) بمناسبة الافتتاح التجريبي لمكتبة الإسكندرية، كان قد عمل مديرا لمتحف الفنون الجميلة والمركز الثقافي بالإسكندرية، ويساهم حاليا في أنشطة أتيليه الإسكندرية. التقت أفكار عصمت داوستاشي مع منطلقات تيار عالمي كالدادا، تلك المنطلقات التي ظهرت في بيان الدادائيين عام 1919، والتي نادت بحقوق الفنانين كممثلين لجزء مهم في النسيج الثقافي، وطرح الفن التشكيلي كأحد المكونات الأساسية في الحياة الثقافية، وفي بناء مجتمع جديد دون تميز طبقي، تلك الأفكار التي قادت إلي بناء كيان مدرسة الباوهاوس، الألمانية، فيما كان الدادئيون قد ذهبوا إلي أنه إذا لم يكن بوسع الفن أن يغير المجتمع، فعليه أن يقوم بدوره الاجتماعي في توجيه الرأي والمطالبة بحرية الإنسان والفكر حيثما بدت مهددة! أما الباوهاوس فقد نادت برفع جدار الكبرياء بين الفنان والحرفي، بهدف وحدة الفنون الثقافية. الحركة الثورية وكان عصمت أطلق علي نفسه المستنير دادا، تيمنا بالحركة الثورية التي خرجت من رحم الحرب العالمية الأولي، في الوقت الذي اتفق داوستاشي مع شمولية توجهات الدادا التي أحدثت تقنيات غير مسبوقة كاعتمادها علي تقنيات تحققت في مجال الشعر والأدب والفنون التشكيلية والموسيقي معتمدة علي وسائل تعبير ملائمة عندما استحدثت تقنيات جديدة غير مسبوقة كالطباعة غير المنظمة، الكلمات الحرة، القصيدة المتزامنة، القصيدة الصوتية، الصورة الفوتوغرافية، بالإضافة إلي تقنية الإلصاق والتركيب التي اتخذ منها داوستاشي وسيلة للتعبير عندما لجأ إلي مجموعة من الأشياء الغربية المهيأة في الأصل لأغراض أخري تختلف عن استخدامها في عمل فني، فقد استخدم الفنان قناني المشروبات، وقصاصات الجرائد، والأسلاك والأزرار وعلب الكبريت، وبقايا الأثاث، تلك الأشياء التي وجدها الفنان مصادفة في طريقه، واعتمد صياغة مبتكرة لاستخدامها لصالح قيم تشكيلية جديدة غير تقليدية، وتشكل مساحة ومستوي علي سطح اللوحة لتحدث نتوءات بارزة، عندما تلصق بها بواسطة مادة لاصقة. تناقضات وإفرازات تكشف إبداعات داوستاشي عن حبه لعالم الدادئيين والبوب آرت ذلك العالم الذي يعكس المشهد الآني بكل تناقضاته وإفرازاته، وتعلن عن فنان بنزعة تجريبية يتعامل مع سطوح متعددة المستويات ومتحررة من الإطارات، باستخدام ألوان شديدة السطوع، ينثر عليها الزخارف والعلامات والرموز بجرأة وحيوية متكأ علي ثقافة موسوعية. محطات الفنان داوستاشي عديدة، ومحاولاته لم تتوقف عن اختراق جدار العزلة، فقد كتب حسين بيكار صباح يوم 31 مايو 1974 بجريدة الأخبار: اليوم أعلن الفنان السكندري الشاب عصمت عبد الحليم، أنه سوف يختفي عن الأنظار إلي الأبد، وأن معرضه الذي يقيمه هذا الأسبوع هو آخر معارضه علي الإطلاق، معرض الوداع الذي لن يراه أحد بعده! وفي واحدة من محطاته، اختار لنفسه اسما جديدا، فحتي سنة 1970، كان يوقع علي لوحات عصمت، لكنه فتش في مخازن الأسرة، فوجد جدا، له اسم مبتكر داوستاشي، فبداية من أول السبعينات أصبح عصمت داوستاشي. وإن كان بيكار في موقع آخر من مقاله الاسبوعي يقول: هذه صرخات احتجاج تصدر عن قلوب موجوعة في حالات يأس، ثم لا تلبث أن تهدأ كما تهدأ العواصف المثيرة للرمال، .. إن اعتزال الفنان للفن اعتزال للحياة. وعلاوة علي أن عصمت داوستاشي فنان غزير الإنتاج متعدد الوسائط فهو مصور ونحات وفوتوغرافي وشاعر وباحث في الفن بالإضافة إلي ذلك يعد من أكثر الفنانين تفاعلا مع القضايا الفنية علي الساحة وأحد الحريصين علي إقامة جسور دائمة بين الإبداع الفني وجمهور المتلقين مبتكرا طرق جديدة لنشر رسومه وأعماله وكتاباته بكل السبل رغبة في التواصل مع جمهور غائب عن صالات العرض. الكتاب المعرض وفي السنوات الأخيرة لجأ إلي وسيلة من وسائل الاتصال مع جمهور مفتقد، فابتدع فكرة الكتاب المعرض، وأصدر عددا من تلك الكتب تحت مسمي (معرض في كتاب)، ووزعها نسخها اليدوية علي المهتمين، وعلي الغلاف الخلفي كتب بخط يده: " أصبحت إقامة المعارض في القاعات عبثا وإحباطا للفنان الطموح في أن يؤثر إبداعه علي مجتمعه أو تصل أفكاره إلي الناس، فالجمهور لا يتابع والحركة النقدية لا تقيم الأعمال الفنية، فالمساحة المتاحة للفنون التشكيلية في وسائل الإعلام شحيحة باعتبارها فنونا غير جماهيرية وحتي القلة التي تقتني الأعمال الفنية تفضل الأعمال التجارية المزيفة" ويضيف داوستاشي: كنت قد أعلنت من قبل أني سأقيم معارضي الخاصة داخل كتاب لأنه يصل أكثر إلي الناس وهذا ما أفعله الآن، كما عرضت لوحاتي مقلوبة علي جدران نقابة الصحفيين بالقاهرة في غرفة مظلمة، وأوقدت الشموع أمام وجوه حزينة منحوتة علي البازلت المصري الأصيل، ولكن أحدا لم يشاهد المعرض للأسف، واليوم انطفأت الشموع وحل الظلام، .. فمعذرة إن جاءت أعمالي في هذا المعرض الكتاب .. سوداء.