تمتلئ السير الشعبية بعدد من الحكم التي يعتبرها البعض دليلا على تجربة سطحية عابرة، فيما يراها قسم ثان صياغة بسيطة لمعنى عميق، ومن هذه الحكم القول لأبو زيد والفعل لدياب وغير العارف للسيرة يعتقد هنا أن القول هو الأمر والفعل هو التنفيذ؛ فكأننا نقول: الأمر لأبو زيد والفعل لدياب، لكن الذهاب إلى السيرة يعطي معنى آخر مختلفًا ومغايرًا. في تلك الأيام البعيدة، وحتى لا أخرج في الظلام الماطر أو الحر الليلي كان ذلك أبي الحكَّاء الأعظم في ليل تلك القرى، يحكي لي السيرة الهلالية، ودائمًا ما كان ينسى أو يتناسى أنه أمام طفل شقي – كنت غاية الشقاوة – وأن حكايته وسيلة لمنعي من الخروج والقيام بمغامرتي الليلية التي تنتهي غالبًا بعودتي متسخ الثياب أو ممزقها؛ لذلك فقد كان يندفع في إلقاء أشعار السيرة، ودائمًا ما كنت أنسى رفقتي – الذين ينتظروني لكي ننفذ إحدى الطلعات المؤذية، أو نذهب إلى شاطئ البحر (فرع رشيد) لننتظر الجنية – وكنت أرافقه إلى عالم أبطال السيرة واحدًا واحدًا. يطل علي من آن لآخر اسم دياب بن غانم فأسأل أبي: لماذا يعتزل هذا الفارس الحرب؟ وحين تأتي الهلايل لتدخل تونس ويصرع الزناتي أسأل: كيف لفارسٍ كدياب أن يبتعد تاركًا دماء قبيلته تسيل؟ لكن السؤال الأكبر لماذا يصارع الزناتي الهلالية غير أبي زيد؟ ولماذا يصارع أبو زيد غير الزناتي؟ لم يحك لي أبي قصة عامر خفاجي، الملك العراقي الذي وجد ضفائر بنات الهلالية مقصوصة ومقدمة لدياب لكي ينهي اعتزاله ويعود ليقاتل الزناتي ويصرعه، وعلى الرغم من كون الخفاجي ليس من قبيلة الهلالية، فإنه يركب جواده ويقاتل في معركة النبل من أجل كرامة النساء، حتى يقتل غدرا، ويناجي وهو يموت الطير العراقي العائد إلى وطنه. أعود إلى أبي لأسأله: هل تذكر قصة عامر خفاجي؟ لم يكن سؤالي اختبارًا وإنما لأعرف، فربما أهملت سيرة أهل بحري، ما لم تهمله سيرة أهل قبلي، خصوصا والسيرة الهلالية لدى أهل سيوة مدتها ست ساعات فقط، بينما هي في الصعيد أضعاف أضعاف هذا الوقت. ما إن سألت أبي عن الخفاجي، حتى بدأ في إنشاد بكائية الخفاجي عامر، ثم قال لي من بين دمعتين لم أرهما قبلا ولا بعدًا: انت ليه بتجدد في البلاد نزاع، وعرفت ساعتها لماذا لم يحك لي أبي عن الخفاجي، فكلهم يعيشونه على هذه الأرض دور الخفاجي عامر المقاتل الصامت النبيل الذي يموت دفاعًا عن أرضٍ لا يملكها، وعن هدف لا يطمح إليه. تأتي الثورة ويروح ألف خفاجي ولا يأتي النصر، فكأن سيرتنا صارت تغريبة يملؤها الوجع، من مأساة إلى ثانية ننتقل وقد فقدنا شهداء وعزائم وعقائد، يبقى فقط الأبطال الوهميون والمعارك البلاستيكية؛ برلمان منقوص السيادة، رئيس بلا صلاحيات، دستور في مهب الريح. تقول الحكاية: إن دياب بن غانم حين عرف باستشهاد الخفاجي، وصارع الزناتي حتى صرعه وهذا هو الفعل، وظهر أبو زيد وملوك القبيلة في المشهد ليقتسموا الملك، والغنائم وليمنعوا دياب من أن يبر بقسمه لابنة الشهيد: أن أضع الرمح في عين الزناتي، وهذا هو القول. كان الزناتي يدافع عن أرضه وعرضه هذا لا شك فيه عندي، وكان الهلالية محتلين مخربين وباحثين عن نجاة من جدب الصحراء في نفس الوقت، لكن هؤلاء الخونة الذين يقاتلون كي لا نحص على حريتنا ليسوا أصحاب حق، ونحن لا نبحث إلا عن حاضر عادي، نريد وطنًا لا يخون فيه الزوج زوجته، ولا يقتل فيه الابن أباه، ولا تعرف فيه المسلم من القبطي، نريد وطنًا… وطنًا. أقوال غير مكسورة: مقاطعة الجهل علم، ومقاطعة الخيانة إخلاص. اغمس يدك في دم الشهداء واختر قاتلهم، أو قاتل دولة أبنائهم. قيمة المجتمع تعرف بمواضع لصوصه. الحكم عنوان الخديعة.