ماذا يجب أن يحدث عندما نريد أن نتفق على أمر واحد ، وتقليد واحد ، وقرار واحد ، ومعايير واحدة ، ونظام واحد ، وشخص أو أشخاص محددين ، أيا كان موضوع الاتفاق .. ؟ قد يكون معظم أو كل المطلوب اتفاقهم مختلفون حول هذا الشىء والقرار والنظام موضوع الاتفاق .. لكل رأيه ولكل تقاليده ولكل حساباته .. وقيمه ومعايير اختياره . فماذا نفعل لنتفق فى إطار من احترام الآخر والحفاظ على قيم الحرية والعدل والمساواة ؟ هناك طريقتان مختلفتان تماماً لإقرار هذا الأمر : الأولى وهى الاختيار الموجه ، وتعنى هذه الطريقة بأن يقوم بعض أو أغلب المطلوب منهم الوصول إلى اتفاق (المشاركين) بتبنى التقليد أو النظام أو المعايير أو الأشخاص المطلوب الاتفاق عليهم .. والترويج لها استناداً إلى العقلانية ، والتى تعنى ببساطة بيان المنافع العامة التى ستنتج عن تبنى هذا الأمر أو التقليد أو النظام . وطرحها فى أفضل صور الطرح الجاذبة شكلاً وموضوعاً على الآخرين المطلوب مشاركتهم وصولاً إلى الاتفاق من خلال مشاركة الجميع التى يجب أن تكون ضرورية وأساسية ولا بديل لها لإكساب الشرعية لما سيتم الاتفاق عليه . وهنا يحدث نتيجة هذا الترويج الذى يجب أن يتم من خلال الحوار الآمن والمنظم والموضوعى، والمناظرات القائمة على العقلانية والشفافية والمصداقية أحد أمرين إما الاستمالة والتى تعنى الاقتناع بما هو مطروح، وإما عدم الاقتناع بما مطروح والتشكيك فيه . وهنا يجب على الطرف الذى يروج للأمر إعادة صياغة المعايير الذى يتم على أساسها قبول أو رفض الموضوع ، والعمل على استنادها إلى العقلانية ، والتى تعنى هنا بالمنافع والفرص المتاحة والممكنة نتيجة الاتفاق على هذا الأمر .. والمخاطر والتهديدات التى يمكن أن تحدث نتيجة عدم الاتفاق عليه . وبعد هذه الجولة قد يحدث أمرين أيضاً إما أن يزداد أعداد من يقبلون الاتفاق ، ويصبح هناك أغلبية كبيرة فى مقابل أقلية رافضة تماماً . وهنا يجب تسجيل وتحديد وجهة نظر الأقلية الرافضة وتحليلها استناداً أيضاً إلى العقلانية والتى تعنى هنا بالمخاطر التى تترتب على الأخذ بوجهة نظر الأغلبية . وإذا لم يصل الأمر إلى الاتفاق يكون من الضرورى إذعان الأقلية لرأى الأغلبية وقبوله .. مع التأكيد على الاحترام المتبادل والتأكيد على التعاون المشترك بين الجميع بعد إقرار الاتفاق النهائى . وقد تسأل وأين التبادل والتوجيه هنا .. والإجابة هى .. أن التبادل هو إتاحة الفرصة لمعرفة كل الآراء .. أما التوجيه ، فهو فى أن الأمر يبدأ بتبنى فئة معينة منظمة أو غير منظمة أغلبية أو أقلية بالمشروع أو التقليد أو النظام أو الأشخاص المطلوب الاتفاق عليهم، وتوجيه باقى الفئات المطلوب الاتفاق معهم للوصول إلى هذا الاتفاق .. مع قيامها بوضع قواعد الاتفاق والترويج له والإقناع به . ومن هنا كان التوجيه .. الذى قد يجرنا إلى سؤال آخر هو ، وماذا يحدث إذا كانت الأفكار والتقاليد والمشاريع ، والنظم ( أو بالمعنى الأدق ) ما هو مطروح غير مقبول من قبل الفئات الأخرى ، وأن الفئة التى تتبنى الأمر تروج الأمر وتحاول فرضه استناداً إلى معايير غير مقبولة ؟ والإجابة أنه يحدث أمرين ، الأول وهو إذا كانت قواعد القبول والاتفاق ، تخضع للحوار الآمن والشفافية والمصداقية ، ووضعت معايير محددة للعقلانية فى الحكم ، وكانت نتيجة المناظرات والمحاورات بين كل الأطراف موضوع الاتفاق فى غير صالح ما هو مقدم تسحب الفئة الذى تبنت الموضوع الأمر .. وإما أن تقدم شىء جديد أفضل استناداً إلى الاستفادة من الحوارات والمناظرات السابقة .. وإما تتيح للآخرين أن يقدموا هم شيئاً أفضل ، ليتم الاتفاق عليه استناداً إلى القواعد الملزمة للوصول إلى الاتفاق .. وذلك إذا ما كان هذا المجتمع مجتمعاً عقلانياً ، يسعى إلى الديمقراطية . والأمر الثانى وهو أن تتمسك الفئة التى تتبنى الموضوع بعد الجولة الأولى بالموضوع ، وتتهم الفئات الأخرى بعدم العقلانية ، ويتم التشكيك والهجوم عليهم .. وإذا كانت هذه الفئة التى تتبنى الموضوع تمتلك السلطة فإنها تستخدم أساليب الإلزام والعنف والنبذ والاستبعاد والعقوبة على الفئات الأخرى ، وقد تقوم بتزييف إرادتها .. والإدعاء بأن الاتفاق العام قد حدث .. وغالباً ما يحدث ذلك فى المجتمعات غير العقلانية وغير الديمقراطية . أما الطريقة الثانية فهى التبادل المفتوح والذى يقوم على أساس أن القيمة الحاكمة والمشتركة بين كل أفراد المجتمع هى : " دع الجميع يتعايشون فى إطار اختلافاتهم ، ودعهم يعبرون عن اختلافاتهم ، وأدفعهم إلى المشاركة والتبادل رغم هذا الاختلاف إلى أن يصلوا من خلال الحوار الآمن، والمشاركة الإيجابية والفعالة ، وعبر منظمات حقيقية وفاعلة للمجتمع المدنى إلى اتفاق أو طريقة تنظم العلاقات فيما بينهم إلى أن يصلوا إلى تقليد جديد يقبلوه جميعاً ( التعايش دون مناظرات ، وتناحر ، وعنف ، ومحاولات من كل طرف أو فئة إلى أن تثبت أن وجهة نظرها هى الأفضل والتى يجب أن تسود ) . وفى حالة التبادل المفتوح فإن الفرص متساوية تماماً أمام الجميع .. فى التعليم ومواقع السلطة دون امتياز مسبق لأحد أيا كان هو .. وأن كل النظم السياسية والاجتماعية والثقافية فى المجتمع نظم حمائية تحمى كل الفئات وتحمى تقاليدها ومعتقداتها .. وليست نظم قائمة على بنية إيديولوجية أيا كانت . وهنا قد تسأل وأين نحن من الطريقتين التبادل الموجه ، والتبادل المفتوح ، والإجابة واضحة وهى أننا أقرب إلى التبادل الموجه ، ولكن التبادل الموجه الذى لا يتم إلا على أسس ومعايير الحوار الآمن ، والعقلانية ، وقبول سماع واحترام وجهة نظر الفئات الأخرى وإقناعها من خلال جولات متعددة ، وعبر مناظرات وحوارات موضوعية . وهنا قد تسأل كيف أقول ذلك ، وما هى الدلائل عليه ؟ · والإجابة ببساطة هى أنه لو قبلنا أن الحزب الحاكم هو الأغلبية ، وأنه الممثل الحقيقى للشعب ، ففى نفس الوقت علينا أن نقبل أيضاً أن هناك فئات أخرى حتى لو كانت أقلية لا تقبل بوجهات نظره ولا بأفكاره ومشاريعه .. وبالتالى استناداً إلى التبادل الموجه ، عليه أن يقبل أن يتناظر ويتحاور مع الفئات الأخرى فى إطار من الفهم والتعاون المشترك، وليس من منطلق أنا فقط مع العديد من المبررات التى تبدو عقلانية وموضوعية لأنها مستندة إلى أنه الذى أحرز التفوق فى السباق الذى كان فيه هو اللاعب والحكم والمنظم وربما أيضاً الجمهور . · وأن عليه أن يقبل أن التبادل الموجه لا يعنى فرض قواعد التبادل والاتفاق على الآخرين ، وإنما الاتفاق الحر عليها الذى يتسم بالشفافية والمصداقية ، وقبولها كأساس لتوجيه الاتفاق . · وعليه أيضاً أن يعرف أن القوة الحقيقية لا تكمن فى فرض الآراء بالقوة أيا كانت أشكال هذه القوة ، ولكنها تكمن فى حجم ما هو مشترك بينه وبين الآخرين ، وبما ينعكس بشكل مباشر على تشكيل قيم وتقاليد عامة يؤمن بها الجميع . · وعليه أن يعرف جيداً أن الحماية الحقيقية لأى نظام لا تكون بقوة ردع غير محدودة، ولكن بالتدريب على الموضوعية والعقلانية ، وتقديم نماذج بشرية رائدة فى إنكار الذات والفضيلة ، وتفضيل الصالح العام ، وعدم تقديم سلوكيات وقيم متباينة . · وأن عليه أن يعرف جيداً أيضاً أن حالة فساد واحدة أو حالة خروج عن قيم الفضيلة ، وإنكار الذات ، قد تؤدى إلى فقد جزء من المصداقية يحتاج الأمر لإعادتها إلى إنفاق مئة ضعف لما اقتنصته حالة الفساد هذه . · وأن عليه أن يعرف كذلك أن الآخر قيمة حقيقية تحت أى نظام للاتفاق سواء كان اتفاق موجه أو اتفاق حر ، وأن هذا الآخر هو منافس شريف وليس عدو يجب إقصائه ، وأن له الحق الكامل فى أن يطلب تغيير قواعد الاتفاق وأن من حقه أن يعلن قواعد الاتفاق التى يراها مناسبة ، تحت شرط العقلانية . هذا المصطلح الذى يعنى هنا ببساطة المساواة والعدل وعدم التميز لأى سبب من الأسباب ، وأن العقلانية المطلوبة لابد وأن تستند إلى ثقافة محددة ، هذه الثقافة لا يمكن أن تكون إلا استناداً إلى بديلين ، البديل الأول وهو الديمقراطية وحقوق الإنسان ، والبديل الثانى وهو مجلس الحكماء والوصاية ، ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان كأساس لمعايير العقلانية معروفة ، ويمكن الرجوع إليها ، وهى محددة ولا تحتاج إلى تفسير دقيق ، أما ثقافة مجلس الحكماء والوصاية فهى أن أصحاب المصلحة لا يعرفون صالحهم وليسوا من النضج ليصلوا إلى اتفاق أو ليشاركوا على قدم المساواة فى الحكم والبناء، وبالتالى لابد وأن يكون هناك مجلس حكماء هو الذى يعرف صالحهم أكثر منهم لكى يتحكم فيهم .. هذه ثقافة ، وتلك ثقافة أخرى ، ومن غير المقبول أن تكون الثقافة التى تستند إليها عقلانية ما هو مطروح الآن من الحزب والحكومة والسلطة إلى مجلس الحكماء ، ويكون ما هو معلن منهم أن الثقافة التى تحكم عقلانية ما يقدم هى الديمقراطية وحقوق الإنسان .. لنكن أكثر صدقاً مع النفس ونقول دون غموض وبكل وضوح أن الثقافة التى تحكم مدى عقلانية ما نقدم هى مجلس الحكماء وضرورة وجوده لعدم نضج أصحاب المصلحة . · وعليه أن يعلم أن الأمر واضح ولا لبس فيه ولا غموض إما ديمقراطية حقيقية تستمد منها كل قواعد ومعايير مدى عقلانية التصرفات والأمور والمشاريع وكل ما هو مطروح من أى فئة أو تنظيم ، وإما مجلس حكماء يعرف صالح من لا يعرفون صالحهم ، يفرض عليهم دون نقاش ، فلا نقاش لمن لا يعرفون صالحهم ، ولا سعى للاتفاق مع غير الناضجين . فإذا اتفقتم على أن قواعد العقلانية تستمد من الديمقراطية فلا بديل لأن تقبلوا استناداً إلى هذه العقلانية المستمدة من ثقافة الديمقراطية أنه : * فى الديمقراطية يكون للمواطن الحق فى أن يقرأ ويكتب وأن ينشر دعوة لكل ما يعتقد فيه مادام يقبل الحوار حول هذه الدعوة ، ومادامت هذه الدعوة لا تخرج عن الاتفاق العام . كما فى استطاعته أن يشكل جمعيات واتحادات تعمل على تدعيم وجهة نظره ، كما فى مقدوره أن يوجه إليها دعم مالى ، ويبحث عن ناس يدعمونها ويؤدينها . * فى الديمقراطية يكون للمواطن الحق فى أن يناضل من أجل تحقيق هدف يعتقد أنه الحق ، وأن يصحح إجراء ما يعتقد أنه خاطىء ، وأن الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى حكم صائب يفترض أنه الحق ، أو تصحيح إجراء يفترض أنه خاطىء هى أن يكون لدينا بدائل على أوسع نطاق ممكن . بينما فى العقلانية التى تستند إلى ثقافة مجلس الحكماء لا شىء من هذا . لذلك عليكم أن تعلنوها صراحة نحن لا نؤمن إلا بثقافة الأبوة ، ومجلس الحكماء ، ولا نعتقد فى نضج أصحاب المصلحة ، ولن يضيركم هذا أو يضيرنا ، ولكنه سيختصر جهدكم المبذول ، وجهد الآخرين المبذول فى الوصول إلى اتفاق مشترك ، حيث لا يمكن أن يصل فريقين إلى اتفاق تستند فيه العقلانية إلى ثقافتين متضادتين ومتعارضين تماماً .. لذلك ليس عليكم أن تزعجوا أنفسكم بالإقناع والتبريز والعقلانية والموضوعية إذا كان الهدف أن تجعلوا أنفسكم مسموعين من جانب واحد فقط . وليس عليكم أن تزعجوا أنفسكم بالمبادئ والقواعد والإجراءات إذا كان لا بديل آخر غيركم . ولكن لابد وأن نعرف جميعاً "أن الوطن ليس مدرسة ، والناس ليسوا تلاميذ مطيعين وأنتم لستم المعلمون ". وعليكم أن تعرفوا أن المجتمع الديمقراطى الذى ننشده جميعاً نحن وأنتم كما تقولون دائماً ، أو كلنا معاً دون شك فى أن أى منا فى أننا جميعاً نسعى إليه ، هو جمع من الناس الناضجين ، وليس مجموعة من القطيع تقوده مجموعة صغيرة تعلم كل شىء عنه ، ونحن نعلم أن النضج لن يكون ملقياً فى الشوارع ، وإنما ينبغى أن يُعلم ، ولا يمكن أن تعلمه فى المدارس التى تسلبه القدرة على التفكير ، وتنزع منه العاطفة ، وتقدم له أنماطاً مزيفة من التاريخ ، وإنما يتم تعلمه بمشاركة فاعلة ، وبممارسة حقيقية لحقوق الإنسان ، وبتداول للمعرفة ، وبابتعاد عن أساليب التخويف وقمع الآخرين ، وبعدم السعى إلى الوصول بكل الطرق إلى إجماع متحيز ، وبتأكيد الشفافية والمصداقية .. حتى يثق المواطن أن السعى إلى المشاركة والنضج سيصل به إلى التقدم . لذلك لو أن هناك إجماع لم يتم إلا عن طريق التبادل الموجه استناداً إلى قواعد متفق عليها ومقبولة وتستند إلى العقلانية المستمدة من ثقافة الديمقراطية ، أو لم يتم على أساس التبادل المفتوح المستند أيضاً إلى قيم وثقافة وعقلانية الديمقراطية ، فهو إجماع مشكوك فيه أم لكم رأى آخر
د. محمد كمال مصطفى استشارى إدارة وتنمية الموارد البشرية