في أحد أيام فصل الشتاء من العام 1961، كان «لورنز»، الذي عرف بشغفه في الجمع بين علم الأرصاد الجوية والرياضيات، يقوم بعملية إعادة تدقيق في لائحة بيانات حول نموذج رياضي من تصميمه يربط توقع الحالة الجوية بمجموعة مؤلفة من 12 معادلة تفاضلية (Differential Equation) تجسد التغيرات التي تطرأ على درجة الحرارة ونسبة الرطوبة وسرعة الرياح والضغط الجوي.. وذلك من ضمن نشاطه المعتاد في تتبع الأرصاد الجوية. واختصاراً منه للوقت، قام خلال عملية تلقين الحاسوب الرقمي بالبيانات، بإدخال كسر يتألف من ثلاثة أرقام مجتزئاً بالتالي الأرقام الثلاثة الأخرى التي يمكن للحاسوب استيعابها (506. بدل 506127.). هنا سقطت النتيجة المفاجئة فوق رأس «لورنز» كالصاعقة. فمع تراكم الأشهر التي عكف «لورنز» على دراستها، وجد أن التباين أخذ في الاتساع حتى انحرف الخط البياني للتحليل بالكامل عن ذلك الذي حصل عليه بإدخال الأرقام كاملة قبل تجزئة الكسر المؤلف من ستة أرقام. وظن في البداية أن خللاً ما قد أصاب حاسوبه المحدود السرعة والبدائي نسبة للمعايير المعتمدة اليوم، لكن بعد جهد في محاولة الكشف عن الخلل، تبين له أن الحاسوب سليم ولا يعاني من أي عطل فصب تركيزه حينئذ على اكتشاف خطأ ما في عملية إدخال الأرقام إلى أن تمكن من وضع اليد على مكمن المشكلة. فقد أدرك أن ما قام به من حذف لجزء من الأرقام، ظناً منه أنها غير ذي أهمية لاختلافها بنسبة 1 في المئة عن الأرقام الأصلية، قد أثر جوهريا على نتائج تحليله. دفعت هذه التجربة ب «لورنز» إلى الاعتقاد بأن توقع الأحوال الجوية في مدى يتجاوز الأسبوعين أو الثلاثة ليس سوى وهماً وخيالاً، كما وجد نفسه على طرفي نقيض مع العديد من العلماء الذين كانوا يعتقدون بعدم قدرة الاضطرابات الصغيرة التي تصيب الحالة الأساسية لنظام ما في التأثير على حالته النهائية. وانطلاقاً من هنا، قام «لورنز» بنشر نتائج تجربته سنة 1963 في رسالة الى أكاديمية العلوم في نيويورك معلناً أن أحد خبراء الرصد الجوي لاحظ أن خفقة واحدة من أجنحة النورس يمكن أن تغير معالم الطقس إلى غير رجعة. وهي الدراسة التي شكلت «تحفة فنية لناحية وضوح العرض الذي خلص إلى صعوبة توقع الأحوال الجوية» حسب ج. دوين فارمر، الأستاذ في معهد سانتا في (نيو مكسيكو). ومع المحافظة، في أبحاثه اللاحقة، على جوهر الفكرة القائلة بقدرة العوامل الثانوية على تحويل نظام دوري وعادي إلى نظام عشوائي النمط، أخذ «لورنز» بنصيحة أحد زملائه واستبدل النورس بالفراشة كمثال أكثر وقعاً وشاعرية. أثر الفراشة: ---------------- ينظر إلى تعبير «أثر الفراشة» على أنه مصطلح تبسيطي لفكرة تقنية أكثر تعقيداً. وتدور هذه الفكرة حول التبعية الدقيقة للحالة الأساسية للأنظمة (Sensitive Dependence on Initial Conditions) في ما يعرف بنظرية الفوضى (Chaos Theory) التي تقوم على مبدأي ارتداد النظام في الاتجاه المعاكس نحو حالته الأساسية أولاً، والتبعية الدقيقة لهذه الحالة ثانياً. وكان «لورنز» أحد أبرز من روّج لهذه النظرية التي رأى فيها العلماء الثورة الثالثة التي طبعت القرن العشرين بطابعها بعد النسبية ونظرية الكم بحسب كيري إيمانويل من معهد ماساشوستس. وفي الحقيقة لم يكن «لورنز» أول من تعرف إلى الفوضى بمنظار علمي، فقد توصل عالم الفيزياء والرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه في نهايات القرن التاسع العشر إلى خلاصات صادمة ومخالفة لقوانين نيوتون النظامية حول الحركة والجاذبية، لكن هذه الخلاصات لاقت أذناً صماء طيلة النصف الأول من القرن العشرين إلى حين تسليط «لورنز» الأضواء عليها. (((تفيد النظرية بأن الانحرافات البسيطة التي تطرأ على الحالة الأساسية لنظام ديناميكي معين يمكن أن تحدث تغيرات هائلة على المدى الطويل في السيرة السلوكية لهذا النظام. هذه الانحرافات تظهر في الكثير من الحالات عبر أشكال غامضة وصعبة التفسير في سلوك النظام))). لذلك يسعى العلماء إلى مقاربتها عن طريق أمثلة حية ومبسطة. ومن هذه الأمثلة أن يتم تغيير وضعية كرة صغيرة فوق تلة مرتفعة الأمر الذي قد يودي بهذه الكرة، بعد أن تبدأ بالتدحرج، كأن تنتهي في قعر واحد من عدة وديان مختلفة في سفح التلة. وإذا ما عدنا إلى مثال الفراشة وطبقنا عليه نظرية الفوضى، يعلل أنصار النظرية أن جناحي الفراشة قد يتسببان بتبدلات فائقة الصغر في الجو المحيط كسرعة الرياح واتجاهها إلى النشاطات المناخية الأخرى والتي قد تفضي في النتيجة إلى تبدل مسار إعصار ما، تأخير أو تسريع حدوثه أو ربما، أيضاً، منع حدوثه في بقعة جغرافية معينة. يشكل تخبط جناحي الفراشة تغيراً بسيطاً في الحالة الأساسية للنظام الطقسي، حيث ينتج عن ذلك سلسلة من الأحداث التي بدورها تقود إلى تبدل واسع النطاق في مجموع الظواهر الجوية. وقد يتساءل البعض هنا حول قدرة الفراشة، برغم التعقيدات المذهلة في حركة جناحيها والتي يسعى المهندسون إلى فهمها من أجل إحداث ثورة في عالم الطيران، على التسبب بإحداث إعصار.. وهو تساؤل له مبرراته كون الطاقة الحركية للإعصار (Kinetic Energy) تفوق بأضعاف مضاعفة طاقة جناحي الفراشة الحركية. هذا الكلام صحيح إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الإعصار يستمد طاقته بشكل رئيسي من الشمس بينما تؤثر طاقة الفراشة عشوائياً على بعض التفاصيل الصغيرة في الحالة الجوية، لكن تعميم المثال يساعد على فهم النقطة الأساسية التالية: إن توقع سلوك نظام كبير ما على المدى البعيد هو، واقعياً، في حكم المستحيل لكثرة العوامل الصغيرة المؤثرة فيه - كما في النظام الطقسي - وبالتالي، تتطلب السيطرة على سلوك النظام إدراك جميع العوامل المرتبطة به على اختلافها كبيرة كانت أم صغيرة. وهنا بالتحديد تكمن الصعوبة الحقيقية في عملية التوقع والتي أشار إليها «لورنز». هذا من الناحية النظرية البحتة، أما التصاق هذا المفهوم بمفاصل حياة الإنسان وبيئته فتلك حكاية أخرى. قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى ذهاب البشر بمخيلتهم بعيداً في محاكاة «أثر الفراشة» قبل تبلورها ضمن نظرية الفوضى بفترة طويلة. وفي ما يلي لمحة موجزة عن نتاج المخيلة الإنسانية. أول الأثر.. في خيال الإنسان: ------------------------------------- لقد سبقت مخيلة الإنسان، في تناولها احتمال تأثير الاضطرابات الصغيرة في سلوك الأنظمة الكبيرة، نظرية الفوضى العلمية وذلك من خلال أعمال الخيال العلمي الكثيرة. ونذكر هنا على سبيل المثال الأعمال الأدبية لكل من جاك هادامارد سنة 1890 وبعده بيار دوهيم سنة 1906 بالإضافة إلى قصة راي برادبوري «صوت الرعد» والتي تأمل فيها الكاتب بإمكانية السفر عبر الزمن إلى الماضي وإحداث بعض التغيرات التي من شأنها التأثير في أحداث المستقبل وفي المفارقات التاريخية بشكل عام. فقد تحدثت القصة عن تأثير موت فراشة عاشت في عصر الديناصورات على أحداث لاحقة كلفظ الكلمات في اللغة الإنكليزية وتبدل مسار الأوضاع السياسية، وكان ذلك سنة 1952. أما بعد ظهور النظرية إلى العلن، جاءت السينما لتلقي المزيد من الضوء عليها من خلال أفلام منها «الأبواب المنزلقة» (Sliding Doors) الذي صور قصتين متوازيتين عن حياة امرأة تمكنت من اللحاق بالقطار اللندني في أحد الأكوان وفشلت في اللحاق به في كون آخر، مصوراً تأثير هذه الحادثة البسيطة على مجرى حياتها بالكامل. بالإضافة إلى هذا الفيلم يأتي فيلم «تردد» (Frequency) في سنة 2000 الذي يدور حول والد وابنه تمكنا من التواصل عبر الزمن بواسطة موجات الراديو في محاولة لتغيير الماضي نحو الأفضل، ثم فيلم «أثر الفراشة» سنة 2005 الذي تناول التبدلات السلبية التي تحصل في الماضي والتي ترخي بظلالها على مستقبل أحد الأشخاص بحيث تتنوع حياة هذا الأخير تباعاً من كونه عضواً في أخوية إلى سجين إلى شخص مبتور أحد الأعضاء وفقاً لكيفية تلاعبه بماضيه. ناهيك بعدد من المسلسلات الأميركية التي أفردت بعضاً من حلقاتها لهذه الفكرة ومنها (The Simpsons) و (Scrubs) و (Malcolm In The Middle). وقع «أثر الفراشة» على سلوك الإنسان: --------------------------------------------------- يجد العلماء بين «أثر الفراشة» وسلوك الإنسان علاقة متينة تظهر تجلياتها في حيثيات التجارب التي تطغى على حياة هذا الأخير. فبناء على مشاهداته اليومية، لا يصعب على المرء ملاحظة كيف أن تغييراً ثانوياً في حياة أحدهم يؤدي إلى تبدل في سلوكه ومجرى حياته نحو اتجاهات غير متوقعة. ويعزو العلماء هذا التبدل السلوكي إلى الأحداث والذكريات المحفوظة في عقل الإنسان الباطني والمتراكمة فيه منذ نعومة الأظافر. ولإعطاء هذا التحليل حيزاً من الواقعية الملموسة، يلجأ هؤلاء إلى المثال الذي يصور واقعة إقدام أحد المراهقين على الانتحار من غير أن يكون قد مر بمرحلة أو بأخرى من مراحل الاكتئاب. فيقع ذووه حينها في حيرة من أمرهم بغية تحديد الدوافع والأسباب ليكتشفوا بعدها تفاصيل صغيرة في حياة المراهق لم يلتفتوا إليها باعتبارها سبباً ممكناً للانتحار. ننطلق من هنا لنطرق باب الشق الأشمل والمتعلق بتطبيق مفهوم «أثر الفراشة» على محيط الإنسان البيئي والطبيعي. نشاط مدمر .... --------------------- لا بد بداية من الإشارة إلى شبكة الاعتماد المتبادل التي تحدد معالم مختلف العلاقات الطبيعية في كوكب الأرض وإلى تأثير انقراض أحد الأجناس على بقية أوجه الحياة. ويقول العلماء، في هذا الصدد، إن الكوكب شهد خلال 439 مليون سنة خلت خمس كوارث فناء، أدت في كل مرة إلى محو ما بين 50 في المئة و 95 في المئة من أشكال الحياة من بينها تلك التي هيمنت في حينه. ويضيف هؤلاء أننا اليوم وسط كارثة الفناء السادسة حيث حلت سابقتها في عصر الديناصورات التي اختفت قبل 130 مليون سنة. لكن الخطير هنا هو كون الإنسان، هذه المرة، ضالعاً في تسريع حدوث الكارثة ومعرضاً لخطر الانقراض مثله في ذلك مثل بقية الكائنات. في هذا الإطار يتوقع عالم البيولوجيا في جامعة هارفرد إدوارد ويلسون أن استمرار الحال على ما هي عليه اليوم سوف يعرض نصف أجناس الحيوان والنبات إلى الانقراض بحلول العام 2100. وبسبب الاعتماد المتبادل للأجناس على بعضها البعض يتخوف سبعة من بين كل عشرة علماء بيولوجيين أن يهدد هذا الخطر وجود الإنسان بما يفوق تهديد ظاهرة الاحتباس الحراري له، وذلك حسب استطلاع قام به المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي. أضف إلى ذلك تحذير الصندوق العالمي لحماية الطبيعة من أن التنوع في العالم تراجع بمعدل الثلث تقريباً في السنوات الخمس والثلاثين الماضية، والذي أشار الى أن الفترة الممتدة بين 1970 و2007 شهدت تراجع الأنواع التي تعيش على الأرض بواقع 25 في المئة والأنواع التي تعيش في البحر بنحو 28 في المئة وتلك التي تعيش في المياه العذبة بنسبة 29 في المئة. وانطلاقاً مما سبق، يقول الخبراء إن معظم الأغذية والأدوية في العالم تأتي أساساً من الطبيعة وإن تضاؤل الأنواع يجعل بقاء البشر عرضة للمخاطر. وهنا لا يتردد هؤلاء في التنبيه من أن تراجع التنوع البيولوجي يعني أن ملايين البشر سيواجهون مستقبلاً تكون فيه إمدادات الطعام والمياه إما غير كافية وإما مرتعاً للأوبئة والأمراض القاتلة. رب سائل يسأل هنا عن سبب سرد كل هذه الوقائع: --------------------------------------------------------------- السبب بسيط، فعندما يشارك ملايين البشر في إحداث تبدل في تفاصيل النظام البيئي يؤدي ذلك التصرف، غير المسؤول في معظم الأحيان، إلى تغيرات عظيمة ومدمرة أحياناً لذلك النظام. إذ يتفق الخبراء على أن النشاط الإنساني، بمختلف تجلياته، قد أحدث بالغ الأثر في النظام البيئي للكوكب، ويضيفون أن هذا النشاط، ربطاً بنظرية الفوضى و«أثر الفراشة»، يساوي على المستوى الجماعي جراء تراكم الأعمال الفردية الإنسانية في شتى أنحاء الأرض، العمل «السلبي» لبلايين الفراشات مجتمعة. فالضرر الذي ألحقه البشر في معظم المواطن البيئية الحيوانية والنباتية على الأرض، بدءاً من تلوث مياه البحار والمحيطات مروراً بالتبدلات الكيميائية في تركيبة التربة وتقلص المساحات الخضراء ووصولاً إلى إتلاف الغلاف الجوي بالانبعاثات الغازية المختلفة، مهد لنتائج كارثية على مستوى التنوع البيولوجي، المدافع الأول عن الكوكب في وجه الكوارث الطبيعية، ولنا في «مجاعة البطاطس الإيرلندية» الشهيرة خير دليل على ذلك.