وهتف البحر هاهي الخيصة تتراقص أمامي وكأنها للتو عائدة من فرح .. وأنا أتفرس في النوافذ والشوارع ووجوه عرفتها وعشت معها وسكنت بينها في زمن غنيت له بنشوة وتخلى عني بسهولة وعجل . مدينة أغرتني بالحب ودفئه . عرفت أخيرا أنها كانت تمارس معي لعبة التنكر ، وروحي تعيش الصدق ولاتعرف الخديعة والرياء .. تهاتفني الصباحات في طريقي وفي عيني الذهول والحيرة .. أخطو محاذيا للخور بخطوات كسلى ودواخلي ملأى بالوجوم والانقباض . أتوسد وجعي وصمتي .. باحثا عن شيء أعاقني وأربكني وأعادني للخلف وجثم علي طويلا .. في حين اصبح النسيان من الاستحالات القاتلة التي لن أستطيع الإمساك به ، وقد عشت عمري أعانق النور الطافح بالأسئلة والإجابات المتناقضة .
ترف لاتزال الطفلة المدللة وكل ماتأمر به يستجاب دون نقاش أو جدل .. تأخذ كل شيء ترغب به وتهفو روحها إليه .. كل الذين يعرفونها يدركون تكاثف الولع بداخلها .. يتمدد كل يوم ويتصاير غيوم وفضاءات تملؤها النشوة وكثير من القلق .. وحين كبرت كبر معها وتفتّح كل شيء .. تقنّعت بالأسئلة ومطاردت أضواء الترف ، متخطية عتبات المنع وأسوار الإنكفاء .. في غفوة الحلم تسافر كفراشة والهة للنور وعطشى للأرق .. يتكحل الفجر بأريجها الطاغي ، فيراوده الشوق لتمشيط جدائل الليل والمساءات الراعشة بالدفء والشجن .. تنفتح منافذ الكون فيعبرها بخيوله في عتمة الأعين وغفلة العسس .. يغتبط للندى المختلط بتأوهات الروح المغتسلة بنزف العطش واشتعالات الإشتهاء .. يُنتهك السر ، فتنزف الشعاب باللذة والرحيق ، فيخضر اليباب بشيء من التخَلقِ والنماء .. تبكي السماء فتتلعثم الشفاه النازفة بالنشوة ، ويخرس الهمس وتسترجع الأرض صوت الصدى ، تنطلق النايات لذلك الآتي ، ويظل خنجر الإنتظار يلكز دواخل الغنج المتوّج بروائح الرمل المعتّق بالدمع وانهمارات البكاء .. تستعذب العزلة والأرصفة النائية ، وعيونها شاخصة في الوجوه المصبوغة بالمساحيق والرموش المصطنعة ، فتزيدها جنوناً ووجعاً وندم .. تتوهم الأصوات المنبعثة حولها قدوراً من الجمر تقذف حياءها وتشعل بداخلها حنين المرارة وانبجاسات الوجع .. وللزمن خطواته الناسجة تمائم الخوف وولائم الفجيعة وشتاءات الألم .. يحتدم جنونها ، فيطفو الزبد ضفافها وأمكنتها .. تقبع داخل ذاتها لائكة حزنها وبعض التسابيح المتخلّقة في لحظات التوحّد ومتاهات السؤال .. تتمرأى بالصبر وتتململ على اجنحة التوجع ومساءات الضجر بعد أن بدأ يزحف نحوها شيء عصي تصحبه لذة وزفرات ألم .. على باب أحد المساجد ذهل المصلون عند خروجهم بعد أداء صلاة الفجر .. لسماع صوت طفلة مغمضة العينين ، تنهشها الريح ويبكيها الخواء .
سيدة العطر رن هاتفي الخلوي بأنفاس ميتة وصوت متقطّع منهك مدجج بقذائف القلق وفحيح الرجاء .. مع بقايا ليل مثقل بمرارات الفجيعة وانثيالات الألم . مراكبي تكاد ترسو بعد عمر مليء بالتمزق وعواصف الرياء . متعثرة روحي بقوافل الموت وحمائم سوداء لاتعرف الهديل . مثقلة قدماي ولاأكاد اخطو ، وعيناي ممسكتان ببقايا أمل ورجاء . جسدي مثقل بمتاعي ، ولم تبقي الريح منّي شيء ، وفي عيناي دمع لايكف . سياط تلاحقني ، ومدينتي تتغنّى بأمجاد الأولين ، وحاضر تمسك به عناكب الزيف .. وصغار في سوالفهم سادرين . أرد وجهي نحو جبال مدينتي ، فتشيح عنّي خجل وحياء .. ترشقني بتساؤل .. - أوهل ينبت الورد على تخوم العمائم ..؟ أسعى باحثا عن بعض الصبر ، وقد شارفت شمسي تدنو وتغيب ، وعيون الليل تقذف حمم القسوة وبراكين الغضب ، وقلوب تعود للخلف في هلع وتخاذل .. تتوسد أرض الخيبة ومنازل الثرثرة والكلام . يقتلني ويشل لحظات وقتي صوت امرأة .. - أثمة رجال هنا ..؟ يشق الحزن أسوار روحي ، فتشتعل براكين الغيرة بداخلي ، فأتأبط سيوف أجدادي .. - أحقا أوشك المعتصم أن يعود ..؟ يستغيث زمني بصوت تردد صداه جبالي ووديان لهوي ومسالك مبتغاي .. - وامعتصماه -تدور الأرض بي ولم أعد أرى سوى سعيرا يشتعل ويحترق . جبال ونخيل وورد وسماء معتمة .. أصوت ديكة وخراف وجمال وحيوانات وأشياء لا أعرفها ولم أرها ذات يوم . سأعقر نياقي حين تخذلني ، وسأتعفر بالموت وانتصر للنور .. سأُصلّي للسماء وأكثر التسابيح والدعاء .. سأبحث في كل مضائق المدينة ، وامتطي جيادي لأرى الحقيقة ومعان الأسئلة ، وقد أينعت الفصول وحق قطافها ، ولم يبق سوى عمائم تائهة بين المذابح وصفوف الساجدين . يتحرر مدادي ويستبقني ، وسيوف أجدادي في شراهة للدماء .. سأبقى ممسكا بما بقي من ورق وحبر وأحرر السبايا وأنصف النساء .