الطابور معناه: الصف. وقد رجعت إلى معاجم اللغة العربية القديمة لأبحث فيها عن كلمة (طابور) فلم أقف لها على أي أثر. وكلمة الصف التي تقابل الطابور كانت هي المتداولة في الكلام العربي القديم بمعان كثيرة ورد بعضها في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الشريف وفي مأثور الكلام العربي. انظر مادة (الصف) أو (صفف) في القواميس العربية...ويبدو أن كلمة (طابور) من الكلمات المعربة التي راجت في الاستعمال اللغوي العربي المعاصر، شأنها شأن كثير من الكلمات الدخيلة التي تسربت إلى اللغة العربية من الفارسية أو التركية إبان تغلب الفرس والأتراك على كثير من البلدان العربية بالمشرق وبعض بلدان المغرب العربي الكبير. ولعل أصلها هو (تابور) بالتاء، وإنما قلبت التاء طاء لتتناسب مع طبيعة اللسان العربي الذي يجنح إلى التخفيف.وكلمة الصف قديما أو الطابور حديثا تعني: السطر المستوي من كل شيء معروف، وجمعه صفوف، كما جاء في لسان العرب لابن منظور. أما كلمة طابور فيجمعها البعض على طوابير قياسا على قواعد الميزان الصرفي العربي.ويستفاد من معنى الصف أو الطابور أمران مهمان: الأمر الأول هو التكديس أو التجميع، والأمر الثاني هو الترتيب أو الاستواء. فالعنصر الواحد لا يمكن أن يصنع صفا أو طابورا، والترتيب أمر ضروري حتى يستقيم معنى الصف أو الطابور؛ ومكان كل عنصر من الطابور وسط بين السابق واللاحق. ويعبر عن معنى الطابور في اللغة الفرنسية بكلمة: ( la queue)، وتعني في لغتنا العربية: الذيل. ولم يشرع في استعمال مفهوم الطابور إلا في وقت متأخر من تاريخ فرنسا إبان الثورة الفرنسية .غير أن لكلمة طابور أبعادا دلالية أخرى تستعمل في المجال العسكري وفي لغة التحليل السياسي، عندما يجري الحديث عن الجواسيس والعملاء والمندسين الذين يعملون لصالح العدو فيشار إليهم في أدبيات اللغة السياسة بعبارة الطابور الخامس والسادس...وإذا انتقلنا إلى لغة الحاسوب والبرمجة الرقمية فإن كلمة طابور تفيد أيضا ترتيب الأشياء في نسق متوال؛ فيكون أول شيء يدخل الطابور هو أول ما يخرج منه، وآخر ما يدخله هو آخر ما يخرج منه. ويتعلق الأمر هنا ببنية البيانات الرقمية المتراصة عند إدراجها. ويمكن تخيل الطابور الرقمي لتوضيح الصورة بمجموعة من الصحون المرتبة فوق بعضها البعض؛ فأول صحن يوضع سيكون آخر صحن يمكن أخذه إذا كانت الصحون تأخذ من الأعلى، وآخر صحن وضع في الأعلى سيكون أول صحن يمكن آخذه. أنظر موسوعة ويكيبديا الحرة لمزيد من التفصيل..وهذه الصورة تنطبق أيضا على نسق بناء المواقع والمدونات، حيث تتوارى أولى إدراجاتها بعيدا، بينما تظهر آخر الإدراجات على الواجهة أو على الصفحة الأولى. وكأن الإدراجات هنا شكل آخر من الطوابير، فإذا ما حذف إدراج واحد منها فإن الإدراج التالي يحتل مكانه ويقترب درجة واحدة من السطح.. ويمكن للمدون أن يتحكم في طابور إدراجاته كيفما شاء، ويمكنه أيضا أن يظهر جميع الإدراجات على الصفحة الأولى، على شكل ذيل طويل. غير أن هذا الأمر متعب للمتصفح الذي ربما احتاج إلى وقت طويل حتى تظهر جميع الإدراجات دفعة واحدة، وخاصة إذا كانت هذه الإدراجات تعد بالمآت، فما بالك إذا كانت بالآلاف ونتاج سنين عديدة. ولذلك فإن أغلب المواقع والمدونات تكتفي بإظهار آخر الإدراجات، أما الإدراجات المتوارية فيمكن إظهارها أو استدعاؤها إلى الواجهة من خلال الضغط على زري: السابق والتالي، أو من خلال عناوينها المباشرة أو روابطها المختصرة.غير أنه بإمكان المدون أيضا تثبيت بعض الإدراجات في مقدمة الصفحة دونما اعتبار لترتيبها وموقعها من طابور الإدراجات إذا كانت مميزة ومرغوبة من لدن الزوار، كما أنه بإمكانه أن يجعل ظهور إدراجاته عشوائيا حتى يأخذ كل إدراج نصيبه من الظهور والاختفاء، إلى غير ذلك من الخيارات التي تتيحها تقنية العرض الرقمي.وإذا رجعنا إلى الطابور العربي التقليدي المعروف بطابور المصالح والعيش؛ كطابور الخبز وطابور الهوية وطابور الوثائق الإدارية وطابور المدرسة وطابور النقل العمومي وغيرذلك من الطوابير التي لاتعد ولا تحصى فإننا نجد لها حكايات طويلة ممتدة كالطوابير نفسها، في ذاكرة كل واحد منا، وهي تتلون بألوان عادات مجتمعنا المرضية الكثيرة التي تجعل العقلاء والنزهاء منا لا يطيقون الوقوف في الطوابير الحكومية الطويلة لما يشوبها من اختلال واعتلال، مردهما فساد التربية الطابورية لدى نوع من المواطنين المصابين بتضخم الأنا ممن يحلو لهم اختراق الصفوف والقفز على الرقاب ولي أعناق البسطاء دون استحياء ومن غير وجه حق، عتوا واعتدادا بعلاقاتهم الزبونية ونزعاتهم الوصولية المشبوهة...لكن، ومع إدخال تقنية الطابور الرقمي في كثير من الدوائر والمصالح العمومية العربية بدأت محنة المواطن العربي مع الطوابير تخف تدريجيا في انتظار أن يعمم الطابور الآلي في كل مصلحة عامة أو خاصة.والحمد لله أن الناس ما عادوا يرتبون أنفسهم في الطابور وفق الهوى والمزاج، بل أصبح الموزع الآلي هو الذي يرتبهم ويعطي كل واحد منهم بطاقة الانتظار المرقمة على التوالي.ولم تعد عيون المراجعين وأصحاب المعاملات المختلفة على من اندس في الطابور خلسة كأنه عميل محسوب على الطابور الخامس أو السادس، بل على شاشة العرض الرقمية التي لا تميز زيدا من عمر، وكل الرؤوس الآدمية المرقمة لديها سواسية.ما أعجب إنسان هذا العصر الذي يستحي من الآلة فيذعن لأوامرها، ولا يستحي من الخالق عزو جل ناهيك عن المخلوق، ولا ينصت لصوت ضميره ولا يستجيب لصولة الحق.