تستدعي اللحظة العربية الراهنة جهدا ثقافيا استراتيجيا برؤى مبدعة للإجابة على أسئلة تتعلق بوجود الأمة وطبيعة النظام العربي الجديد في وقت تتشكل فيه ملامح نظام عالمي جديد. وفيما دعت مصر لإقامة نظام عربي إقليمي جديد باعتباره ضرورة استراتيجية" لفت وزير الخارجية سامح شكري في كلمة بمنتدى "حوار المنامة" العاشر لأهمية ألا يكون تجديد النظام الإقليمي العربي قائما على أساس أي من المحاور التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقود الأخيرة. وأوضح شكري أن أهداف هذا النظام العربي الإقليمي الجديد مواجهة تحديات العصر وتحقيق التنمية والإعداد لتمكين الجيل الجديد فيما يأتي هذا الطرح معبرا عن حالة حراك حميد على مستوى الفكر والعمل للسياسة الخارجية المصرية واستعادة الدبلوماسية المصرية العريقة لمفهوم المبادرة بما يخدم مصر وأمتها العربية معا. وتأتي هذه الدعوة المصرية لإقامة نظام عربي جديد في وقت تتردد فيه التساؤلات حول اتجاهات النظام العالمي وما إذا كان هناك نظام عالمي جديد تتشكل ملامحه بالفعل على نحو ما قال المفكر الاستراتيجي الأمريكي هنري كيسنجر في كتابه الجديد "النظام العالمي" والذي جاء معبرا عن نظرة رجل جمع ما بين نظريات الاستراتيجية وخبرات العمل كوزير للخارجية ومستشار للأمن القومي. ولا جدال أن كيسنجر "رجل التنظير والعمل معا" أحد أبرز من وضعوا أسس النظام العالمي إبان الحرب الباردة بل ومرحلة تالية لنهاية هذه الحرب في مطلع تسعينيات القرن الماضي فيما يسعى بوضوح في كتابه الجديد للإجابة على أسئلة حول النظام العالمي الجديد الذي يتوجب على الولاياتالمتحدة أن تتبناه وتعمل على تطبيقه أو بمعنى أكثر صراحة "تفرضه على العالم". فأمريكا حسب هذا التصور الكيسنجري تقوم بالدور الأكثر أهمية في صياغة "منظومة القيم" التي تتحول "لمنظومة قيم عالمية" أو قيم مشتركة للإنسانية تكون "قوام الشرعية الدولية" ومن يخرج عليها يحق عليه العقاب. وغير خاف على كل ذي عينين أن "ثعلب السياسة الأمريكية العجوز" يرمي بهذا التنظير الجديد للحفاظ على قيادة أمريكا للنظام العالمي القادم والذي تتشكل ملامحه بالفعل فيما ستكون ملامحه النهائية هى محصلة نتائج المواجهة البالغة التعقيد والتشابك والدهاء بين الولاياتالمتحدة والقوة الصينية الصاعدة. وهنا يكون السؤال الذي يهمنا كعرب: "أين موقعنا وموقع النظام العربي الإقليمي المنشود مما يحدث على المستوى الكلي في العالم"؟!. لا ريب أن سؤالا بهذه الأهمية يتطلب مؤسسات بحثية عربية للإجابة عليه ويستدعي تفعيل لكيان بحثي عربي مثل معهد البحوث والدراسات العربية الذي يتنادى العديد من المثقفين المصريين الآن لإنقاذه من محنة تهدده في الصميم. ويرجع تاريخ هذا المعهد لأكثر من ستة عقود وكان يوصف بأنه "مأثرة ثقافية لجامعة الدول العربية" فيما اقترن عند تأسيسه بأسماء رواد وأدباء ثقافيين مثل طه حسين وساطع الحصري وشفيق غربال. معهد البحوث والدراسات العربية أنتج مئات الدراسات حول مختلف القضايا العربية وكان يجسد الثقافة العروبية ويدافع منذ تأسيسه تحت مظلة جامعة الدول العربية عن الفكرة القومية ويثري المخزون العلمي والثقافي على قاعدة الانتماء للأمة العربية بقدر ما يساعد صانعي القرارات بالعالم العربي في إدارة الصراعات وعملية صياغة التخطيط الاستراتيجي. ومن هذا المعهد نال المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي وهو السجين في سجون الاحتلال الإسرائيلي شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية عام 2010 فيما لم يكن بمقدور هذا المقاوم الأسير أن يحضر بشخصه مناقشة رسالته بالقاهرة ولم يكن أمامه سوى الرد على أسئلة اللجنة بمعهد البحوث والدراسات العربية عبر رسائل أفلتت من قيود السجن والسجان. غير أن هذا الصرح المعبر عن "العروبة الثقافية " يتعرض الآن حسب العديد من التقارير والطروحات المنشورة في الصحف ووسائل الإعلام لإجراءات من جانب بعض المسئولين في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم يمكن أن تؤدي لتفريغه من دوره التاريخي والانحراف عن رسالته الأصيلة وتصفية كوادره العلمية. والحاجة لمثل هذا المعهد تبدو جلية في مرحلة تتطلب إضاءة بحثية وجهد ثقافي وحشد للإمكانات العلمية العربية وإنتاج دراسات "غير مؤدلجة" مع حماية الهوية العربية للنظام الإقليمي المنشود في العالم العربي. وإذا كنا أمام نظامين في طور التشكل أحدهما عربي إقليمي والآخر عالمي فإن ثمة حاجة لتنظيرات ثقافية-سياسية مصرية وعربية على مستوى هذا المشهد الفريد مناطها في نهاية المطاف خدمة الإنسان العربي والدفاع عن قضاياه العادلة في عالم لم يعد يسمح بالعزلة ولا تتحلى القوى الكبرى فيه بنزعة خيرة لحد المساعدة المجانية للضعفاء!. ولئن كان هناك من يذهب إلى أن المشهد الإقليمي العام في المنطقة العربية لم يكن أبدا أسوأ مما هو عليه الآن فإن هناك اتفاقا عاما بين أغلب المثقفين المصريين والعرب عامة على أن الإرهاب هو العامل الرئيس في تردي هذا المشهد العربي وإنهاك مكونات القوة العربية الشاملة. وكان وزير الخارجية سامح شكري قد أشار في سياق كلمته بمنتدى المنامة العاشر في العاصمة البحرينية إلى الضرورة القصوى للتصدي لتنظيم داعش الإرهابي في المهد وأن يكون ذلك ضمن استراتيجية شاملة لمحاربة جميع التنظيمات متشابهة الفكر في المنطقة وأن يكون الهدف هو القضاء عليها عسكريا وفكريا. وفي كتابه الجديد "النظام العالمي" الذي يتجاوز ال400 صفحة ويقع في تسعة فصول تعرض هنري كيسنجر لقضايا تتعلق بالتنظيمات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط بما يعكس إدراكا لأهمية الظاهرة وقابليتها للتطويع في سياقات مختلفة ومتعددة. فالإرهاب وإن تخفى خلف شعارات دينية لا ولن تتردد القوى الإقليمية غير العربية ناهيك عن القوى العالمية في استغلاله بما يحقق مصالحها وتعظيم مكاسبها وأنصبتها في النظام العالمي الجديد الجاري تشكيله عبر مخاضات أليمة وصراعات قاسية. ووسط هذه المخاضات والصراعات فإن هناك قوى إقليمية وعالمية تدفع بحكم مصالحها في اتجاه بلقنة المنطقة العربية" أو المزيد من تجزئة المجزأ وتحويل الأوطان لأشلاء عبر سلاح الإرهاب الذي قد يكون من أخطر أسلحة الدمار الشامل!. وهكذا فالمشهد العربي الحالي يطرح أسئلة مختلفة عن أسئلة الماضي كما يتطلب فهما ثقافيا استراتيجيا عميقا لمحدداته ومتغيراته وسرعة التطورات فيه أحيانا وعمق التدخلات الخارجية في هذه التطورات سواء من قوى إقليمية غير عربية أو قوى عالمية. كلها تحديات تتطلب "لغة جديدة" و"إبداعات ثقافية استراتيجية" و"أدوات مختلفة عن السائد والتقليدي من أساليب الماضي" بقدر ما ترد على تساؤلات من قبيل :هل شاخت أفكار العروبة وتقادمت خبراتها وباتت شعارات الثقافة القومية لا تصلح في سياقات العولمة والحداثة وما بعد الحداثة؟!. ثم إن القضية أيضا ليست استنطاق الماضي أو محاكمته لمجرد الاستنطاق والمحاكمة بقدر ما هى استلهام العبر والدروس والبحث عن إجابات للمستقبل وهذا ما يفعله الغرب في تناوله للقضايا العربية وتاريخ العرب فيما يعمد الجهد الفكري الغربي للإضافة والتراكم لمزيد من سلامة الفهم ودقة النتائج. إن الأمر هنا يتعلق بتحول شامل طال الساحة العربية في مجملها ويتطلب صياغة جديدة للفكر القومي العربي للإجابة على أسئلة خطيرة تمس الوجود العربي ومفهوم الأمة الواحدة ومضمون النظام الإقليمي الجديد. وإذا كان لسان حال كثير من المنتمين للفكر القومي يتساءل في عام يستعد للرحيل: "ماذا يحمل العام الجديد للأمة؟!" فإن الوطن الكبير لن يستسلم لدوي الرصاص ودعاة المجزرة!.