تأتي الذكرى الثانية والثلاثين لعيد تحرير سيناء، وسط أشارات مظفرة لانتصار "ثقافة الدولة الوطنية المصرية" بعد أن خاض جند مصر الأبرار حربا مجيدة لتحريرها من الإرهاب العميل تماما، كما حرروها من الاحتلال الأجنبي. ومع الحفاوة الثقافية الرسمية بذكرى يوم تحرير سيناء، الذي يوافق الخامس والعشرين من ابريل، يتردد السؤال على إيقاع اللحظة المصرية ووقعها: "هل حان الوقت لتحويلها من وقائع احتفالية إلى ثقافة حاضرة فاعلة في الواقع المصري" لتعلي من مجموعة قيم النصر وثقافة هي ثقافة الأمل والعمل على امتداد المجتمع كله وبتعدد اطيافه داخل الجماعة الوطنية؟. فجند مصر الذين انحازوا مرة تلو مرة لارادة الشعب وحموا ثورته في موجتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو كان لهم أن يصنعوا امثولة جديدة في الوطنية والفداء في حربهم النبيلة ضد الإرهاب في سيناء. والقضية متصلة "بعلم الصراع" ومايرتبط به من استعمالات القوة والأبعاد والمعاني الجديدة للإرهاب كظاهرة تهدد حتى وحدة اراضي الدولة والحفاظ على ترابها الوطني وهي كظاهرة اتسع نطاقها في سياق العولمة ليظهر الإرهاب العابر للحدود والأوطان. وجماعات الإرهاب طرف عميل في "تحالفات المصالح والمهام " حيث بعض اصحاب "الأحلام النائمة" لاحياء امبراطوريات بادت وباتت في ذمة التاريخ لديهم استعداد للتحالف مع قوى عالمية لديها مشاريع لاعادة رسم خرائط المنطقة بما يحقق المزيد من مصالحها التي لاتكترث للدماء المراقة جراء التناحرات الطائفية أو حتى الحروب الأهلية. والحرب الجديدة التي يخوضها جند مصر في سيناء هي حرب ضد الجهالة والخيانة معا وهي في المقام الأول حرب تدافع عن الثقافة الوطنية المصرية وتنتصر لها في عالم يشهد تغييرا ثقافيا عميقا حتى في مفاهيم الحرب التي تنتقل من "إطلاق النار إلى إطلاق الأفكار". انها حركة التاريخ حيث جدل وصراع المطالب والمصالح وحسابات الربح والخسارة وحيث تضحيات المقاتلين دفاعا عن حقوق شعبهم في الاختيار الحر واشواقهم في التقدم والنماء داخل الدولة الوطنية واستيعابا لمعنى الشكل الجديد للصراع الذي بات صراع نظريات وأفكار وان الحروب الحديثة هي بالدرجة الأولى حروب على العقول والقلوب. والإرهاب لايعدم غوايته كما اراد الذين يقفون ورائه ممولين ومشجعين ومروجين في الحرب على مصر بعد الموجة العظمى لثورتها في الثلاثين من يونيو والتي انتصرت للدولة الوطنية ومعنى التراب الوطني ورفض مؤامرة تمزيق الوطن واقتطاع اراضيه ومحاولة تسويق المؤامرة بشعارات دينية والدين منها براء. وواقع الحال أن لعبة توظيف الدين لتحقيق اغراض سياسية ومصالح مادية لقوى اجنبية ليست وليدة اليوم كما أن تجليات اللعبة الخطرة توالت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي وتبني وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس في مطلع خمسينيات القرن العشرين لنظرية فحواها أن "الدين هو السلاح الأكثر فعالية ونفاذا" في العالم الثالث وفي القلب منه حينئذ المنطقة العربية. ومن مفارقات تلك المرحلة أن الآن دالاس مدير المخابرات المركزية الأمريكية وشقيق وزير الخارجية هو الذي تولى الشق التنفيذي في الحرب الجديدة التي تعتمد على إطلاق الأفكار واتخاذ شعارات الإسلام ذخيرة لتحقيق المصالح الأمريكية وحمايتها في المنطقة العربية فيما كانت مصر مستهدفة بالدرجة الأولى ضمن تنفيذ هذا المخطط في المنطقة. واذا كان المخطط القديم الجديد لم يتورع عن توظيف الدين بل و"الاستيلاء على النص المقدس" وتحويله إلى شعارات كرهينة وآداة في يد القائمين على تنفيذه فان هذا المخطط تأثر في خمسينيات القرن الماضي بدراسة لفريق من اساتذة جامعتي برينستون وشيكاغو وعلى رأسهم الدكتور "بولك" استاذ الدراسات الإسلامية بجامعة شيكاغو كما يقول الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه "الزمن الأمريكي من نيويورك إلى كابول". وقد ذهبت هذه الدراسة إلى أن "الدولة الوطنية في العالم العربي ظاهرة حديثة وهشة وان المنطقة عاشتالى مطالع القرن العشرين تحت سلطة خلافات إسلامية انتهت بالعثمانيين الذين حكموا من اسطنبول إلى مابعد الحرب العالمية الأولى". واذا كانت الإستراتيجيات املاء جغرافيا وتاريخ وقد تتغير السياسات المعبرة عنها لتتلائم مع متغيرات الظروف فان الإستراتيجية كعلم تعلم دارسيها أن الأهداف يمكن الاقتراب منها عن طريقين: اقتراب مباشر واقتراب غير مباشر مع بقاء الهدف في الحالتين ظاهرا امام عيون طالبيه. وفي ظل النظام السابق في مصر الذي لم يكن يؤمن عقائديا "بالدولة الوطنية" تحولت سيناء لمختبر إرهابي في لعبة خطرة على شفير الهاوية لأنها مستعدة لتقسيم الوطن والتفريط في ترابه فيما سعى سدنة هذا النظام الذي اسقطه شعب مصر في ثورة 30 يونيو لتلغيم سؤال الهوية بألغام عرقية وجغرافية ودينية وبما يمهد لتنفيذ مخطط التقسيم والخرائط الجديدة للمنطقة كلها. وهكذا يحتفل المصريون هذا العام بمرور 32 عاما على عيد تحرير سيناء بعد ثورة شعبية انطلقت في الثلاثين من يونيو 2013 لتطيح بحكم جماعة ابدت عدم احترام لتقاليد مصرية عريقة وتراث ثقافي راسخ يعلي من قيمة الأرض. انها "الأرض" التي تقترن في الادراك المصري العام "بالعرض" فيما لم يكن الشعب المصري مستعدا بأي حال من الأحوال لاحتمال استمرار حكم جماعة توالت الشواهد والنذر حول قبولها التفريط في سيناء التي حررها المصريون بالدم الغالي في حرب مجيدة وباتت تؤشر "لجغرافيا الشهداء في الثقافة المصرية وسيناء في الحقيقة مكون اصيل في التنوع الثقافي المصري داخل الجماعة الوطنية بهويتها الجامعة ومشتركاتها الثقافية ودماء الشهداء دفاعا عن كل ذرة رمل فيها تحت علم مصر فيما باتت الحرب على الإرهاب لاتقل أهمية عن الحرب ضد المحتل الأجنبي وكلاهما من أجل تحرير الأرض والإنسان المصري. واذا كانت مصر الآن بحاجة ماسة "لثقافة الأمل والعمل " فان اروع مافي ملحمة تحرير سيناء أن المقاتلين المصريين كانوا يقاتلون مدافعين عن شرف علم مصر "وعيونهم ليست في ظهورهم وانما ترنو للأمام في سيناء طالبين النصر أو الشهادة ليشكلوا ثقافة جديدة هي في جوهرها ثقافة التقدم للمستقبل ". وهذه الثقافة بمكوناتها الجوهرية من مبادأة ومبادرة وابتكار وابداع وتضحية وفداء وايمان وفهم عميق لمعنى التراب الوطني وقيمة الأرض وشرعية الحرب ونبل القتال لتحريرها و"فرض السلام المصري على القوى المعادية لمصر" لايجوز أن تكون مجرد تاريخ وانما لابد وان تكون "حياة" وثقافة حاضرة وفاعلة في الواقع أن كان للمصريين أن ينشدوا حياة افضل. لقد دفع المصريون الكثير والكثير من أجل تحرير سيناء واستعادة كامل ترابهم الوطني وبمشاعر قد لايصل لعمقها وحساسيتها اصحاب بعض الطروحات الغربية عن سيناء في راهن اللحظة المشحونة بالمتغيرات والتحديات غير أن الغريب حقا أن جماعة وصلت لحكم مصر في يوم ما واذا بها لاتدرك عمق هذه المشاعر أو تتعامى عنها بمؤثرات عقائدية لايمكن أن يسوغها صحيح الدين. وفيما يقول مثقف مصري كبير هو " الحاضر الغائب جمال حمدان":"أن تكون مصريا فهذا يعنى في الواقع شيئين في وقت واحد:الأرض والشعب"..فاننا نقول أن مصر باتت بحاجة "لثقافة تحرير سيناءالتي تدرك معنى الأرض والشعب". ولئن كانت ثورة 30 يونيو قد حسمت الصراع لصالح "الدولة الوطنية" واسقطت المشروع الخياني لتقسيم مصر فان العقل الإستراتيجي المصري مدعو اليوم لمواجهة تحديات التنمية في سيناء ضمن تحرك شامل على المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية لالحاق الهزيمة النهائية بمخطط التفكيك والتقسيم لأقدم دولة في التاريخ. فثمة حاجة جوهرية لثقافة تقدم حلولا للمشاكل المصرية مهما بدت صعبة وعصية أو مستعصية..ثقافة الأفكار غير التقليدية وثقافة وفية للحلم المصرى..حلم الشهيد وحلم الشاعر وحلم المثقف الذي عبر عنه جمال حمدان بقوله:"مشروعنا القومى ليس الا بناء مصر القوية العزيزة الكريمة في الداخل والخارج..مصر القوة والجمال..القوة هي التحرر الوطنى والسيادة اما الجمال فهو عزة الإنسان المصرى في دولته القوية..دولة العدالة والمساواة. دماء الشهداء التي ارتوت بها رمال سيناء تنادي كل المصريين لبناء الدولة الوطنية المنتجة والديمقراطية بدلا من الاستسلام لثقافة المجتمع الاستهلاكي المنزوع السياسة كما تنادي بترجمة مطالب الجماهير الثائرة في الثلاثين من يونيو عام 2013 إلى سياسات لمشروع وطني ديمقراطي بمضمون اجتماعي واحساس بالزمن وإنجازات على الأرض تجسد ثقافة الأمل والعمل وتنتصر لتلك الجماهير التي رفضت الاملاءات الخارجية والاجندات الأجنبية. انها دماء الشهداء التي تبرهن مجددا على أن سيناء هي جغرافيا الشهداء ولن تكون ابدا جغرافيا الإرهاب ولاركام وانقاض وبكاء وعذاب..انها سيناء التي قدرها أن تكون علامة أساسية على الطريق نحو تلبية متطلبات المصريين للحداثة الحقة كنظرة فكرية تتجسد في بنى ثقافية-سياسية-اجتماعية وتستدعي نقلة جذرية ونوعية وقدرة على "ابتكار الحاضر والمستقبل الأفضل". أن الذكرى ال32 لتحرير سيناء تقول ضمن دروسها أن الجيش المصري هو "جيش الشعب" كما أن هذا الجيش الوطني برهن عبر المحن والاحن وعواصف الدم والنارعلى قدرة الصمود في الأزمات الكبرى وكتابة التاريخ لصالح شعبه وامته العربية دون أن يتخلى عن اخلاقياته وانضباطه وقيمه المصرية أو ينفصل لحظة عن هموم شعبه أو يتوانى عن الانحياز للارادة الشعبية الغلابة كما تجلى في ثورة 30 يونيو. هاهي الذكرى ال 32 لتحرير سينا تأتي وقد نجحت ثورة 30 يونيو 2013 في ابعاد مصر عن حافة الخطر عبر نقلات صعبة نقلة تلو نقلة وربما كانت اصعب هذه النقلات في سيناء حيث خاض جند مصر الأبرار معركة جديدة لتحريرها من الإرهاب. هي سيناء وكم ردت من عوادي واعداء..هي سيناء انشودة الكبرياء والدم الزكي وروعة الانتماء لمصر الكنانة..هي الأرض المصرية المباركة الحاضرة في التين والزينون وفي طور سنين وفي ورق الدفلي وعطر الياسمين..في السهول والجبال الشم وابتهالات ام وابتسامة طفل في ضوء قمر مصري.