استعادة اسم عباس محمود العقاد، فى مناسبة مرور خمسين سنة على رحيله، تبدو مسألة مهمة، اعتبارًا من أن القفز فوق هذا الاسم، يعنى عدم الاقتراب من مرحلة مصرية خصبة، منذ مطلع القرن الماضى حتى منتصف ستينياته. وخلال هذه الفترة، واكب الرجل أحداثًا بارزة، لكنه مع قيام ثورة يوليو1952، ترك السياسة، أو بالحرىّ تركته، خاصة أنه لم يتبين أى من توجهاتها. وفى مساحة فكرية متحركة، تزخر بالمبدعين، تمكن من أن يرسم طريقًا متميزة ضمن خارطة الفكر، ولم تخْل حياته من معارك، وتعرض للسجن، ومنافحة ضد الحكومات الرجعية فى الثلاثينيات، وضد مهاجمة الفيلسوف الصوفى ابن عربى، وآزر طه حسين وعلى عبد الرازق فى معركتيهما حول الأدب الجاهلى وأصول الحكم فى الإسلام، وحرض ضد الماركسيين والتشهير بهم. ولدى رجاء النقاش، كان العقاد من أكبر المتحمسين للتجديد خلال ارتباطه بالوفد، وأصبح من معارضيه بعد انفصاله عنه، وانتقاله الى معسكر أحزاب الأقلية. وينوّه هنا بتعدد القراءات حوله، وتراوح توجهاتها، ومعالجة قضايا معالجة تجزيئية، تعزلها عن إطارها النصى، وإبراز بعض من وجوهها على حساب تشكلها العام، وهو التباس يقصر عن مقاربة تجربته ومسيرته، فيما التفتيش عن جذرها، المتمثل فى إعادة تشكيل مبناها ومعناها، ما يسمح باستبصار قراءته. ذلك أن الاقتراب من تحقيق رؤية تركيبية لما أنجزه، تشى بأن الثقافة لديه هى النص الواحد، الذى يحوي بين طياته النصوص النقدية والفكرية والدينية، بما يحيلها إلى نص واحد، حتى لوْ خضع لأنساق القول المختلفة. على أن جهده الأوضح تمثل فى محاولته التأسيسية لتحقيق توطين الثقافة المصرية، على أسس عربية إسلامية، سواء على مستوى اللغة أو الفكر أو الأدب أو التاريخ. وتبلغ اللغة العربية قمة زهاوتها لديه، لما توفره من مزايا التعبير وفن العروض وفصاحة المنطق، ناهينا عن تجسيدها وصفات أهلها، وأطوار مجتمعها، ما يجيز القول أنه عاشق كبير لها. وفى الأدب، تباينت مواقفه بإزاء التعامل مع الأدب الأجنبي، وقدّم جديد طرحه للسيرة الذاتية على أساس المنهج النصى، وجعل من المقالة جنسًا تعبيريًا يتسع للمناجاة والأسمار والحوار، وتتميز بالأحكام والتمحيص والسلامة اللغوية، وإن فاضل الشعر على القصة، مفاضلة التفاح على الجميز بتعبيره، وناقض نفسه حين آزر باكثير فى الثلاثينيات مع شعره المرسل، ليقف فى الستينيات مناهضًا حركة الشعر الجديد. وكان التاريخ لديه مجالًا للتقدم، مع النظر إلى وقائعه بميزان أخلاقى، وقاده تصوره إلى تأكيد دور العبقرية فى التاريخ لشخصيات لها فرادتها ( سعد وغلول، جوته، جورج واشنطن، عبد العزيز آل سعود، الأفغانى، جحا...). قد لا نتراود معه فى نظرته إلى الاختلاف بين الرجل والمرأة، أو فى وقوفه ضد الأدب الواقعى وحركة الشعر الجديد، لكننا لن نختلف فى تقدير جهده حول تأصيل الوعى بالهوية، وتوطين الثقافة المصرية على أسس عربية إسلامية.