"هل تسقط الأشياء من رفها الساكن في خزانة التاريخ"؟!..وهل تلك الذكرى مناسبة للبكاء أم للأمل؟!..ثمة حاجة لمقاربة ثقافية لأزمة الذات العربية في ذكرى أهم تجربة وحدوية . في مثل هذا اليوم من العام 1958 أعلنت دولة الوحدة بين مصر وسوريا لتكون أهم مشروع وحدوي عربي في القرن العشرين رغم أن جريمة الانفصال يوم الثامن والعشرين من سبتمبر العام 1961 لم تمهل "الجمهورية العربية المتحدة" طويلا وإن بقت مصر محتفظة بهذا الاسم الوحدوي وحافظة له ورافعة أعلام الوحدة ومرددة نشيدها عدة سنوات تالية. إن القضية ليست استنطاق الماضى أومحاكمته لمجرد الاستنطاق والمحاكمة بقدر ما هى استلهام العبر والدروس والبحث عن إجابات للمستقبل وهذا ما يفعله الغرب فى تناوله للقضايا العربية وتاريخ العرب فيما يعمد الجهد الفكرى الغربى للإضافة والتراكم لمزيد من سلامة الفهم ودقة النتائج. وبين الذكرى والخسارة تتجلى أزمة الذات العربية وسط طوفان المتغيرات على مدى 56 عاما..مسيرة طويلة من الآمال والخيبات والانكسارات والأحلام الآفلة والدمع المنفلت والبحث عن أحلام تعويضية !.. واليوم يتردد السؤال :هل تحولت أفكار الوحدة والطروحات القومية لمجرد إنشائيات رخوة أو متهدلة ومترهلة وبعيدة عن الجدة بقدر ماهي عاجزة عن الاستجابة لتحديات الراهن وهي مختلفة إلى حد كبير عن تحديات زمن الحرب الباردة و"الجمهورية العربية المتحدة"؟! . هل شاخت أفكار العروبة وتقادمت خبراتها وباتت شعارات الثقافة القومية لاتصلح فى سياقات العولمة والحداثة ومابعد الحداثة ونظريات "مدرسة شيكاغو" في الاقتصاد المشجعة لبيع أصول الأوطان وخصخصة ما لايجوز خصخصته بدعوى الاحتكام للسوق ؟!..هل قدر الفكر القومى العربى أن يفشل دوما فى الواقع وبفعل فيروس الاستبداد؟!..وماذا عن قضايا الحرية والإبداع فى المشهد العربى الراهن؟. أسئلة تتوالد من أخرى فى رحم ذكرى الوحدة المصرية - السورية التى أعلنت يوم الثاني والعشرين من فبراير العام 1958 ولن يعفي التاريخ حزب البعث من مسؤوليته عن ممارسات أفضت لضرب التجربة الوحدوية في الصميم رغم أن هذا الحزب سعى لاكتساب شرعيته برفع شعار الوحدة !. ومن الكتب المهمة للمؤرخ البريطاني المنحدر من أصل لبناني البرت حورانى كتابه :"سوريا ولبنان" الذى نشر أول مرة عام 1946 أي فى سياق كان حزب البعث قد بدأ يفرض ذاته كرقم مهم فى معادلة على المشهد فى المشرق العربى ، فيما تتوالى التساؤلات عما إذا كانت المتغيرات العاصفة والممارسات الاستبدادية لهذا الحزب الذى فقد السلطة فى العراق وفقد شرعية الحكم فى سوريا ستسدل الستار تماما على الثقافة والأفكار النظرية للبعث . ومن المنظور التاريخي فإن حزب البعث لم يولد فى أحضان السلطة وإنما كان تعبيرا عن مشروع فكرى بلورة كاتب متفلسف واسع الثقافة هو المفكر السورى ميشيل عفلق الذى استمد أطروحاته الأساسية من النزعات الحيوية الأوروبية وفى مقدمتها أطروحات هردر وفيختة وفلسفة برجسون التى أتقنها أيام إقامته فى فرنسا . وتعبر الكتابات الأولى لميشيل عفلق التى تضمنها عمله الرئيسى "فى سبيل البعث" عن هذه الاتجاهات النظرية الثرية التى كانت تؤهله لأن يكون أحد أبرز الوجوه الفلسفية العربية لا العقل المفكر لإحدى أكثر التجارب العربية إيغالا فى القمع والاستبداد. ومع ذلك فمن الصعب تحديد علاقة ميشيل عفلق بالأنظمة السياسية التى استندت لمشروعه فالمعروف أن الرجل لم يتبوأ إلا قليلا من الوظائف الرسمية ، كما أنه قضى سنوات عديدة فى المنفى ، فيما يذهب بعض الباحثين إلى أن حزب البعث أدى دورا مهما فى الحياة الثقافية العربية ، رغم تعرض كتاب ومفكرين للتنكيل والقمع أثناء حكم حزب البعث بجناحيه المتصارعين في سورياوالعراق. وإذا كانت التجربة الناصرية قد جذبت مثقفين هنا وهناك بفضل تميزها على صعيد العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والتبعية فإن لحزب البعث سياساته التى انحازت للفلاحين وصغار المزارعين غير أن أية إنجازات اجتماعية من هذا النوع تبددت أو شوهت جراء فيروس الاستبداد والعدوان على الحريات. ولن يكون من قبيل المبالغة القول بأن القلب العروبي لجمال عبد الناصر والعاشق لسوريا العروبة ذبح بسكين الانفصال عام 1961 وكانت هذه الجريمة أول ضربة قاسية للمشروع القومي الناصري الذي تجسد في "الجمهورية العربية المتحدة". وفيما تكشف النظرة الاسترجاعية للتاريخ عن مواقف مناهضة للوحدة من جانب مثقف سوري كبير مثل الشاعر والمنظر "ادونيس" فإن جريمة الانفصال كانت موضع إدانة من مثقفين مصريين وشعراء كبار بل إن الشاعر المصري العروبي الراحل أمل دنقل توقف فيما بعد طويلا أمام حقيقة النموذج الأدونيسي "الذي يتبنى الإبهار بدلا من الصدق". ورأى أمل دنقل أن "النزعة التجريبية" لأدونيس "لا تسير في طريق التقدم ومع حركة التاريخ وإنما تشد المجتمع للوراء متدثرة بعباءة الحداثة "! بقدر ما التفت الشاعر المصري الكبير لقضية الحرية ليقول :"سقط العقل في دورة النفي والسجن حتى يجن". غير إنه من سوء الطالع أن كثيرين من رموز تلك المرحلة لم يتوقفوا طويلا عند تأثير غياب الديمقراطية على قضية الوحدة خاصة عندما يتعلق الأمر بالدولة التي تشكل قاعدة الوحدة العربية ورافعتها الأهم وهي مصر . ومع ذلك ورغم كل المآخذ على غياب الحريات يبقى المشروع التنموي لجمال عبد الناصر في سياقه التاريخي علامة دالة على أهمية الاستجابة لأشواق الجماهير في أي مشروع قومي حقيقي كما سيبقى توظيف قوى الرجعية للدين على غير مقاصده السامية في المعركة غير المقدسة ضد هذا المشروع والتحولات الاجتماعية لصالح القاعدة الشعبية العريضة علامة كاشفة لعدم تورع تلك القوى عن "استخدام المقدس في سياقات أبعد ما تكون عن القداسة والسمو". و"الجماعة" التي رفض الشعب المصري حكمها الاستحواذي المتسلط واسقط نظامها الحكم في ثورة 30 يونيو وقفت في صدارة القوى التي تربصت بالمشروع الوحدوي القومي وعمدت دوما للمشاركة النشطة في تصفية التراث الناصري فيما تنخرط اليوم بنشاط في ممارسات الشر لإلحاق الأذى بمصر وترويع المصريين. واليوم في ذكرى الوحدة بين مصر وسوريا يحق التحذير بقوة من بلقنة المنطقة العربية أو المزيد من تجزئة المجزأ والعجز عن لملمة ما بقى متماسكا من أشلاء هذا الوطن العربي الكبير ، فيما لم تتورع أطراف ارتدت مسوح الدين عن الإسهام في تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد بكل ما يعنيه ذلك المخطط من تفكيك وتقسيم وتفتيت وخلط للمفاهيم. أنه المخطط "المؤامرة" لإعادة رسم الخرائط العربية وإعادة تقسيم الدول العربية وإعادة إنتاج دول أو دويلات أكثر تجانسا و استقرارا ما يعنى أن التقسيم هو الحل!.والأمر هنا يتعلق بتحول شامل طال الساحة العربية فى مجملها ويتطلب صياغة جديدة للفكر القومى العربى للإجابة على أسئلة خطيرة تمس الوجود العربى ومفهوم الأمة الواحدة . ويقول الخبير الأمريكى فى شئون الشرق الأوسط جيسون برونلى فى كتابه الجديد "منع الديمقراطية" بوضوح أن الولاياتالمتحدة ساندت النظام السابق فى مصر رغم أنه " لم يكن في حقيقته سوى نظام استبدادى يرتدى زى الديمقراطية" وهو ما ينطبق أيضا على علاقة واشنطن مع نظام حكم الجماعة التي أسقطتها ثورة 30 يونيو. كما أن واشنطن التى تنادى بضرورة إرساء قيم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان "لا تتوانى عن التذرع بهذه المثاليات واستخدامها كستار بما يحقق مصالحها الاستراتيجية ومصالح حليفتها إسرائيل حتى وإن قامت بتلفيق الواقع ، وربما أحيانا حقائق الماضي والمستقبل". فالخطاب الأمريكى الدائم عن نشر الديمقراطية وإرساء حقوق الإنسان لا يتطابق دائما مع الأفعال وإنما يتم تطويعه ، كما يقول جيسون برونلى "حسب الهدف الحقيقي وراءه وليس المعلن للكافة" ، فيما يؤكد على أن الولاياتالمتحدة " تناهض الديمقراطية الشعبية والسيادة الشعبية فى العالم العربى لأن ذلك يعارض مصالحها. واللافت في الفكر الغربي ذلك الاتجاه الذي يعالج قضايا العروبة والثورة معا ، وها هو كتاب "تاريخ الشعوب العربية" لالبرت حورانى المؤرخ البريطانى المنحدر من أصل لبنانى يظهر فى طبعة جديدة بإضافات جديدة للباحث ماليس روثفين تعيد التوازن للكتاب الذى صدر لأول مرة عام 1991 ، وبات من أهم المراجع الغربية التي تناولت العالم العربي وأنظمة الحكم العربية المزعزعة. واللافت أن هذا الكتاب بمجرد صدوره في طبعته الأولى احتل مركزا متقدما فى قوائم أكثر الكتب مبيعا في الغرب ، فيما جاءت الإضافات مبررة لأن الكثير قد تغير فى العالم العربى منذ العام 1991 ، فيما جرت وتجرى مياه كثيرة وجديدة تحت الجسور . وهكذا أنجز ماليس روثفين الصحفى والباحث المتخصص فى شئون العالم الإسلامى الإضافات فى توطئة الطبعة الجديدة للكتاب وهوامشه بذكاء مزج ما بين ثراء سيرة حياة المؤلف البرت حورانى الذى قضى العام 1993 وما بين تكثيف عرضه البارع للمتغيرات الخطيرة فى العالم العربي منذ أن ظهر الكتاب لأول مرة ليحظى بإقبال لافت من القارىء الغربي. فالإضافات لم تشوه العمل الأصلى أو تعتدى على فكرة المؤلف البرت حورانى الذى ولد العام 1915 وتخصص فى تاريخ العرب ، وإنما زادت الكتاب ثراء ليكون عرضا بديعا لتاريخ العالم العربي منذ البعثة المحمدية الجليلة حتى نشطاء الفيسبوك من الشباب المصري عندما تنادوا للنزول لميدان التحرير من أجل التغيير والثورة على نظام مستبد فاسد. لم يتوقع البرت حورانى فى كتابه انفجار ثورات شعبية عربية أو ما عرف في الغرب بالربيع العربي بالصورة التي جرى بها ما جرى ويجرى الآن لكن ماليس روثفين يلفت بإلحاح إلى أن هذا المؤرخ الكبير خلص في الطبعة الأولى لكتاب "تاريخ الشعوب العربية" إلى نتيجة حاسمة وهى أن كل الأنظمة العربية : قلقة..مقلقلة..وغير مستقرة بأى حال من الأحوال. ويقول الكاتب والناقد ايان بيندر فى سياق تعليقه على هذا الكتاب أن العمل الأصلي للمؤرخ البريطانى - اللبنانى البرت حورانى اكتسب الآن المزيد من الثراء الفكرى بإضافات ماليس روثفين الذى رأى أن غياب مجتمع مدنى عربى بالمعنى الحقيقى كان وراء تحول حلم الديمقراطية العربية إلى شبح فى الظلام . لكن ايان بيندر يلاحظ أيضا أن البرت حورانى فى عمله الأصلى كما ظهر فى الطبعة الأولى للكتاب وضع يده على مكمن علة من مكامن العلل التى اعترضت الديمقراطية فى العالم العربى وصاغها فكريا فى "مفهوم العصبية" حيث القبائلية والتعصب للعشيرة وحكم الجماعة أو العائلة فى سياق الجوع للسلطة والشبق للنفوذ. وهو مفهوم اكتسب المزيد من الخطورة والوحشية مع المفارقة المؤلمة عندما لم تجد تلك النوعية من أنظمة الحكم العربية ما تستعيره من منظومات التحديث وزمن الحداثة الغربي سوى أحدث آليات الرقابة وآلات التعذيب ، كما تحدث البرت حورانى الذى كان حاسما في التنديد بهذه الأنظمة الفئوية والمستعدة لعنف بلا حدود ضد الشعوب. وإذا كانت الحرية تكتسب أولوية لأن الحق مرتبط بتحقيقها فهل يسعى الغرب بالفعل لدعم قضية الديمقراطية فى العالم العربي ؟!..هل يعمل بإخلاص لإزالة ما يعترض حرية الإنسان العربى من عقبات كؤود وأنماط تسلطية ؟!..الحقيقة أن قضية الديمقراطية مطروحة باستمرار فى خضم الجدل بين الغرب والعرب ناهيك عن الجدل بين العرب بعضهم البعض خاصة بعد الثورات الشعبية العربية. ومع سقوط الكثير من الأحلام القديمة فإن الحاجة ماسة لمراجعة ثقافية عميقة وجديدة للمفاهيم الفكرية والسياسية للحركة القومية على أن تولى هذه المراجعة المزيد من الاهتمام لقضية الديمقراطية والحريات بعد أن تسبب غيابها في ظل أنظمة الاستبداد والطاعة في إهدار صدقية الخطاب الثقافى القومى. وهناك من يرى أن الصراعات في بعض الدول العربية بنزعاتها القبلية والطائفية والعنصرية والفئوية إنما تعبر عن إشكالية ثقافية وعدم قدرة على إعمال معطيات الدولة الحديثة بما يستدعي ثورة ثقافية على مستوى الأفكار والتصورات لتغيير النفوس والعقول. ولعل هذه المراجعات تشمل جامعة الدول العربية التي تبقى فعاليتها محل شكوك عميقة فيما يرى البعض أنه كان من الأفضل أن تمنح هذه الجامعة اهتماما أكبر للعمل الثقافي ، فيما رأى الشاعر والمثقف المصري الراحل أمل دنقل منذ عام 1974 أن "الوحدة الثقافية في العالم العربي هي أقوى وحدة موجودة" حينئذ. وأمل دنقل قال أيضا " إن الإنسان العربي الجديد لا يمكن له أن يعتبر نفسه إنسانا باحثا عن الحرية أو ساعيا إلى تغيير المجتمع ما لم تكن لديه رؤية عميقة لتاريخه وانتمائه وإلا فإن كل ثقافة مكتسبة تصبح بلا جذور". ودون اجترار للماضي الذي ولى ولن يعود ، فإن الأمة العربية بالفعل نهضت بأدوار محورية في التاريخ وهي تمتلك اليوم من إمكانات تتيح لها تبوء مكانة مرموقة في العالم ، وإذا كان لسان حال المنتمين لثقافة الفكر القومى في ذكرى أهم حدث وحدوى عربى فى القرن العشرين ، "بأى حال تعود الذكرى" فإن العروبة لن تموت لأنها قلب الأمة بالفعل غير أن الحرية لابد وأن تكون فى قلب الثقافة القومية الجديدة والحداثية. فالعروبة يطرحها الواقع وستستمر في إنجاب شعرائها وكتابها وأفكارها مادام الواقع موجودا تماما كالثورة..العروبة ستنتصر مهما توسعت دوائر المؤامرة والفداحة والوجيعة..قد تحجبها سحب الدمع عن العيون وتحجبها الستر الفاصلة والهمم القعيدة والجعجعة الجوفاء..لكن العروبة هنا في القلب والكلمة والأرض وزهو الذكرى والدم المنسكب وأنبل الشهداء.