"طه حسين مبدعا"، عنوان اعترف الكاتب الصحفي حلمي النمنم بصعوبته، ووضع بعده الدكتور حسين حمودة علامة استفهام، ودار حوله كلام رفع فيه كلاهما طه حسين إلى العنان، وشعر كل منهما بأن الموضوع في حاجة إلى المزيد من البحث. قدم للندوة أحمد حسن قائلا: الحديث عن طه حسين هو الحديث عن مائدة متنوعة الأنماط الثقافية، ذلك لأنه كاتب موسوعي له وجوه عديدة، منها وجه الناقد ووجه العالم التربوي، ووجه المبدع الذي كتب روايات عديدة، بينما الكثيرون لم يعرفوا أن طه حسين بدأ حياته شاعرا، ولكنه أحس أنه لن يكون الأول فنحّى هذا الجانب. بينما يذكر حلمي النمنم الحضور بأن اليوم هو الجلسة الأخيرة للحديث عن شخصية العام الدكتور طه حسين وتتناول الجانب الإبداعي في أعماله. يعترف النمنم بصعوبة الموضوع واتساعه ويقول: الجوانب الإبداعية في أعمال طه حسين لها أكثر من مستوى بدأ بكتابة الشعر منذ أن كان طالبا في الأزهر، وهناك من جمع قصائده بعنوان "ديوان طه"، ويستطرد: "عندما سافر إلى فرنسا توقف عن الشعر واتجه إلى الكتابة كأستاذ جامعي في قضايا الفكر والإبداع، وكتب الشعر والمقال، وهو من أعلام كتاب المقال كما كتب الرواية والقصة القصيرة. ويتطرق النمنم إلى روايته "شجرة البؤس" ويصفها بالمهمة والملهمة التي على غرارها ظهرت فيما بعد ثلاثية نجيب محفوظ، أما روايته "المعذبون في الأرض" فقد نشرها في مجلة "الكاتب المصري" وكانت قصصها سببا في غضب الديوان الملكي والقلم السياسي عليه، وطبعها في بيروت وبعد الثورة طبعت في مصر، فضلا عن "الحب الضائع" و"دعاء الكروان" والعديد من الأعمال الأخرى. ويضيف حلمي النمنم: لن أخوض في جوانب الإبداع الروائي وهي في حاجة إلى دراسات متخصصة، كما أكّد على أن كتابة السيرة الذاتية في روايته "الأيام" قد فتحت الباب أمام الكتاب ليقدموا سيرهم الذاتية، وكتبها عميد الأدب العربي بعد أزمة كتابه "في الشعر الجاهلي"، وتوقف فيها عند عودته من باريس والظروف لم تسمح له بتكملة أجزاء العمل، أما تعامله مع الفكر والتاريخ الإسلاميين فهو يوحي ببراعته الإبداعية في هذا الجانب بوصفه من المجاهدين في الفكر والتاريخ الإسلاميين، كما أن مقدمة كتابه "على هامش السيرة" تحدث فيها عن كيفية تناول السيرة وتحديد قيمة الأدب والتعامل مع الأدب القديم، أعاد الدكتور طه حسين تناول السيرة وقال إنه أعطى لنفسه الحرية في أشياء لم ترد فيها نصوص قاطعة، وهو ما عرف بتحولات الكتاب الليبراليين إلى الكتابات الإسلامية التي عرضت هؤلاء الكتاب إلى اتهامات عديدة، ومن يقرأ مقدمة هيكل في "حياة محمد" سيعرف مدى تعرضهم للنقد، والدكتور طه حسين تناول القضية وقال: إن العقل ليس كل شيء في هذه الحياة، ولكن للوجدان والروح مكانا ويجب أن يكون موقع تقدير واحترام، أما النقطة الأخرى في مجال الكتابات الإسلامية هى كتابه "الفتنة الكبرى" الذي يتحدث في الجزء الأول منه حول مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويتناول سيرة الخليفة الثالث وكيف فسدت الأمور حوله ومن تهجّم عليه وقتله بطريقة بشعة وصدر سنة 1947 والثاني حول "على وبنوه" سنة 1953 ويقارن حلمي النمنم بين الحال قبل إصدار الدكتور طه حسين للفتنة الكبرى وبعدها، حيث كان الجميع يدرسون معركة استشهاد سيدنا عثمان على أنها مجرد مواجهة خليفة لمجموعة من المنافقين واليهود، لكن إبداع طه حسين وتفسيره اتخذ منظورا آخر حين تحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكيف جمع حوله الصحابة ليقيموا معه، وعثمان رضي الله عنه، الذي وسّع عليهم فحدث اضطراب اجتماعي في البلاد المفتوحة، وهذا التفسير نسميه التفسير الاجتماعي والاقتصادي والحضاري، وهو تفسير جديد لم يكن أحد قد تطرق إليه من قبل، والكتاب يتحدث عن الغنى الفاحش والفقر الفاحش في الدولة الإسلامية وكأنه يريد أن يذكرنا بما يحدث في عصر الملك فاروق، حيث تفاقمت المشكلة الاجتماعية في نفس اللحظة التي يكتب فيها طه حسين عن الفقراء وتخوفهم من عدم تحقيق العدل، ويتحدث عن تجربة عثمان وازدياد الثراء وحدوث الفتنة ومقتل الخليفة الثالث أحد صحابة الرسول الذي مات قتيلا على هذا النحو وهو ما ندفع ثمنه حتى الآن!، ويتساءل حلمي النمنم: ترى هل كان طه حسين يحذر الملك فاروق من مصير مشابه؟!. لو نظرنا إلى القرن العشرين وحجم التطور في الدراسات الإنسانية سنجد أن للدكتور طه حسين دورا كبيرا فيه، حتى في دراساته النقدية والعلمية كان له إبداعه الخاص، ومن يتصدّى لهذه المجالات دون أن يمتلك الروح الإبداعية والنقدية يحدث من الكوارث أكثر ما يقدم من الإيجابيات، بينما هناك من دخل مجال الفقه الإسلامي دون تسلّح علمي أو امتلاك للروح، ويشير "النمنم" إلى ميزة كانت في طه حسين، يقول إنها لم تتح إلا ل "رفاعة الطهطاوي" في شبابه، حيث وصل إلى شهادة العالمية في الأزهر - توازي شهادة الدكتوراة - وبسبب بعض كتاباته اختلف مع شيوخ الأزهر وذهب إلى الجامعة المصرية ودرس وتخصص في أشعار وكتابات أبي العلاء المعري، وكانت أول دكتوراة من نصيبه وسافر إلى فرنسا ولم يكن بعيدا عن التاريخ، فدرس ابن خلدون، وطه حسين بهذه الخلفية العلمية الرصينة إضافة حقيقية ومبدع يحتاج إلى كثير من الدراسات. ويعقب أحمد حسن على حديث حلمي النمنم فيقول: المداخلة تجاوزت إبداع الفكر لدى طه حسين إلى فكر الإبداع، وتطرح تساؤلات أكثر ما تقدم أجوبة، ويلتقط منه الدكتور حمودة طرف الخيط ليقول: "طه حسين مبدعا" وعلامة استفهام، هذا سؤال كبير وجميل، وتتعدد إجاباته، والطرح الذي قدمه حلمي النمنم يمثل إجابة مهمة لأن كتابات الدكتور طه حسين خارج الإبداع تمثل إبداعا حقيقيا، ويقول حمودة: أصغيت إلى الجزء الأول من "الفتنة الكبرى" كما أصغى إلى عمل موسيقي، ثمّ بدأ حمودة بعد ذلك في تناول كتابين لطه حسين بالنقد، هما: "المعذبون في الأرض" و"جنة الحيوان"، ووصفهما بأنهما ينتميان إلى شكل إبداعي يسميه طه حسين حديثاً قصصياً ويركز على أن هذه الأحاديث القصصية بعيدة عن النموذج المطروق لفن القصة القصيرة، باعتبار أن النماذج لا تقود التجربة الإبداعية، وهو ما جعل الدكتور طه حسين يسخر من قواعد فن القصة القصيرة المتعارف عليها لدى الغرب، ويشير إلى أنه يكسر هذه القواعد ويرتضي صيغة حوارية بين صوت المحدث والقارئ، ولكل من الطرفين حرية واسعة جدا يؤكّدها طه حسين بأكثر من سياق. الكتاب الأول "المعذبون في الأرض" فيه قسمات كثيرة من تجربة طه حسين والجوانب الأساسية التي استند إليها في كتاباته وروابط تصل بين الكتاب والأيام، ويطرح طه حسين العديد من القضايا التي طرحها في أغلب كتاباته، مثل العدل الغائب، الذي يشير إليه في مفتتح هذا الكتاب، وقضية العدل الغائب تستدعي الكثير من أحاديث المعدمين - من مسيحيين ومسلمين - ومظاهر غياب العدل تتأكد بوجود فريقين: البائسين الأشقياء والقلة المنعّمة التي تجد كل شئ، ويستخدم مفردات تشير إلى العري والذل وشظف العيش والحرمان، إلى جانب سرد آخر يتصل بالقلة المنعمة وحشد مفردات تشير إلى اللا مبالاة وحجاب العقل والانقطاع عن الأمس والغد، وكأننا إزاء هجائية لهذه القلة المنعمة ونبرة شفقة تجاه المعذبين، وفي المقابل يشير إلى مجموعة من الفضائل كقيم الكرامة والشرف والتعفف. ويتحرك حركة زمنية واسعة بين الحاضر - الذي يرصده - وبين الماضي، حتى يصل إلى شخصية عمر بن الخطاب الذي يقول عنه: "يجوع كما يجوع الناس ويظمأ كما يظمؤون"، ومن هذه الحركة يتطلع طه حسين إلى زمن محتمل مقبل قادم، يرنو فيه ويحلم بحياة جديدة للمصريين، وقوام هذه الحياة نفي المسافة بين الأقوياء والضعفاء، والكتاب الآخر الذي يمثل هذا الجانب "جنة الحيوان" الذي صدر في الخمسينيات، ويطرح ما طرح من قضايا من خلال الحكاية المجسّدة التي تستند على تداخل استعاري، وهي صيغة مطروحة منذ الأدب القديم، وصيغة الأمثولة بها قيمة كبرى، هي أنها قادرة على أن تكون مجاوزة للزمن وليست متصلة بفترة محددة، وتتلقّى في أكثر من فكرة وسياق، وتستند إلى بعد التجسيد من خلال صور ملموسة، وهذه الصيغة تصلح لأن تتلقى على مستويات متعددة، والعلاقة التي تجمع الحيوانات والطيور تطرح قضايا متصلة ومتجددة، مثل غياب "العدل الاجتماعي"، ومنها مجانية التعليم التي ألح عليها أكثر من مرة، ومنها ما يتصل بالتحولات ويجعل بعض الناس ينقطعون عن حياتهم، ومنها الفكرة الأساسية المقرونة بين التباعد والتلاقي بين الإنسان والحيوان، وهي لم ترتبط بوحدة الكائنات القديمة أو فكرة الصلة الحميمة التي تربط الإنسان والنبات والحجر، ولكن يطرحها من خلال بعد استنكاري يؤكد فكرة التحضر الإنساني، وبالتالي فإن هذا التداخل به نوع من الإدانة لكثير من الأبعاد، ويشير إلى شخصيات واحدة منها تمثل الثعلب الذي يمثل المكر والإوزة التي تعني الحمق. يستند طه حسين إلى هذه الأفكار ليصل إلى القيم المتجدّدة، وما طرحه في الكتاب أمثولة الأمثولات، الإنسان، انفصل عن الحيوان الذي اتصل به في زمن غابر، والعملان يستعيران شكل الأحاديث بصيغة قصصية عربية بعيدة عن تقنيات القصة القصيرة بمعناها الغربي، ويحتاجان إلى وقفة كبيرة لأنهما يطرحان قيماً عابرة للأزمنة والقضايا - التي طرحها في الأربعينيات والخمسينيات - ما زالت ملحّة حتى الآن وفي حاجة إلى أن نستعيدها وهو صاحب تجربة ستظل إلى فترة طويلة قضايا متجددة. ويعقب أحمد حسن: تراثنا العربي غنيّ بمثل هذه الأمور كما في "كليلة ودمنة"، وهذه الكتابات قابلة لتعدد القراءة، كما أن جوانبه الإبداعية تنتظر من يتناولها باستمرار كما نلمح البعد التراثي ويظلّ طه حسين، يناوش أفق العلاقة بين الإنسان والحيوان في الشعر العربي، وفي إجابته عن سؤال حول تجربة التأليف المشترك لطه حسين وكتابه "في الشعر الجاهلي" يجيب الدكتور حسين حمودة: فيما يخص تجربة التأليف المشترك فهي تجربة لم يكتب لها الذيوع والانتشار، وكانت هناك تجربة لاحقة وتمثيل هذه الفكرة على الكتابة التفاعلية، وفيما يخص كتابه "في الشعر الجاهلي" فبعد عام من صدور الكتاب عاد طبعه تحت عنوان "في الأدب الجاهلي"، وتخفف من بعض العبارات الصدامية مثل الإشارة إلى سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل، وعلاقة ذلك بالحقائق التاريخية كما طبع الكتاب في فترات لاحقة أكثر من مرة بأكثر من تقديم، وهذا متاح الآن. وحول الكتاب الذي أبدعه طه حسين ويمكنه تلخيص واقعنا، يقول حلمي النمنم: من الصعب أن يكون هذا في كتاب واحد، ولكن "مستقبل الثقافة في مصر" يقدّم تصوّراً عن الحالة الراهنة وفصوله تتحدث عن التعليم، وأن هذه الأمة لن تنهض دون نهضة التعليم، وفي هذا الكتاب كان يدافع عن التهمة التي تقول إن عقلية المسلم غير قابلة للإبداع، أما التفاقم الطبقي فعبّر عنه في كتابه "المعذبون في الأرض" و"شجرة البؤس"، وحول حقيقة اتهام الأزهر لطه حسين بالإلحاد يقول النمنم: الأزهر لم يتهم حسين بالإلحاد، وكان يكتب مقالات في جريدة أحمد لطفي السيد، وأخرى فى جريدة "الحزب الوطني"، والمقالات أغضبت شيوخ الأزهر لكن المسألة لم تصل إلى حدّ التفكير.