قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده وموته، تلك هي الجملة تمثل مبدأ ومشوار العالم والمفكر والأديب والطبيب الدكتور مصطفى محمود، الإنسان شديد التسامح حتى لمن أساء إليه قولاً وفعلاً، البسيط جداً، الذي حمل قلب طفل وحلم بالعدالة الاجتماعية وإعلاء كلمة الأمة الإسلامية. هذا هو مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، الفيلسوف والطبيب والكاتب المصري، الذي يعود نسبه إلى الأشراف - المنتمين إلى آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم - وينتهي إلى علي زين العابدين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، توفي والده عام 1939 بعد سنوات من الشلل، فدرس الطب وتخرج عام 1953 وتخصَّص في الأمراض الصدرية، ولكنه تفرغ للكتابة والبحث عام 1960 وتزوج عام 1961 وانتهى الزواج بالطلاق عام 1973، رزق بولدين: "أمل" و"أدهم" من زواجه الأول، وتزوج ثانية عام 1983 من السيدة زينب حمدي، وانتهى هذا الزواج أيضا بالطلاق عام 1987. * "محمود" يجمع بين العمق والجاذبية والبساطة في الكتابة ألف 89 كتاباً منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة. قدم الدكتور مصطفى محمود 400 حلقة من برنامجه التليفزيوني الشهير "العلم والإيمان"، وأنشأ عام 1979 مسجده في القاهرة المعروف ب "مسجد مصطفى محمود" بحي المهندسين، وتتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، ويقصدها الكثيرون من أبناء مصر نظرا لسمعتها الطبية، كما شكّل قوافل للرحمة من ستة عشر طبيبًا، ويضم المركز أربعة مراصد فلكية ومتحفا للجيولوجيا يقوم عليه أساتذة متخصصون، كما يضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية، والاسم الصحيح للمسجد هو "محمود" وقد سماه باسم والده. * مصطفي محمود ومسألة الإلحاد في أوائل القرن الفائت كان عدد من الشخصيات الفكرية يتناول مسألة الإلحاد، تلك الفترة التي ظهر فيها مقال "لماذا أنا ملحد؟" ل "إسماعيل أدهم"، وأصدر طه حسين كتابه الشهير الذي أثار جدلا كبيراً "في الشعر الجاهلي"، وخاض نجيب محفوظ أولى تجارب المعاناة الدينية والظمأ الروحي، كان "مصطفى محمود" وقتها بعيدا عن الأضواء، لكنه لم يكن بعيدا عن الموجة السائدة وقتها، تلك الموجة التي أدت به إلى أن يدخل في مراهنة عمره التي لا تزال تثير الجدل حتى الآن. * "المشرحجي" مصطفى محمود عاش مصطفى محمود في ميت الكرماء بجوار مسجد "المحطة" الشهير، الذي يعدّ أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر، ما ترك أثره الواضح على أفكاره وتوجهاته، وبدأ حياته متفوقًا في الدراسة حتى ضربه مدرس اللغة العربية، فغضب وانقطع عن الدراسة مدة ثلاث سنوات إلى أن انتقل هذا المدرس إلى مدرسة أخرى فعاد مصطفى محمود لمتابعة الدراسة، وفي منزل والده أنشأ معملاً صغيرًا يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات ثم يقوم بتشريحها، وحين التحق بكلية الطب اشتُهر ب "المشرحجي" نظرًا لوقوفه طول اليوم أمام أجساد الموتى، طارحًا التساؤلات حول سر الحياة والموت وما بعدهما. * مصطفى محمود يعترف بأنه مخطئ إن مصطفى محمود كثيرا ما اتُّهم بأنَّ أفكاره وآراءه السياسية متضاربة إلى حد التناقض، إلا أنه لا يرى ذلك ويؤكد أنّه ليس في موضع اتهام، وأنّ اعترافه بأنّه كان على غير صواب - في بعض مراحل حياته - هو ضرب من ضروب الشجاعة والقدرة على نقد الذات، وهذا شيء يفتقر إليه الكثيرون ممن يصابون بالجحود والغرور، ما يصل بهم إلى عدم القدرة على الاعتراف بأخطائهم. * مصطفى محمود ولغز الحياة والموت في الستينيات تزايد التيار المادي وظهرت الوجودية، ولم يكن مصطفى محمود بعيدا عن ذلك التيار الذي أحاطه بقوة حتى إنه يقول عن ذلك: "احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين، ثلاثون عاما من المعاناة والشك والنفي والإثبات". ثلاثون عاماً من البحث عن الله!، قرأ وقتها مصطفى محمود عن البوذية والبراهمية والزرادشتية، ومارس تصوّف الهندوس القائم على وحدة الوجود، حيث الخالق هو المخلوق والرب هو الكون في حد ذاته، وهو الطاقة الباطنية الكامنة في جميع المخلوقات، والثابت أنه في فترة شكه لم يلحد، فهو لم ينفِ وجود الله بشكل مطلق؛ ولكنه كان عاجزا عن إدراكه، كان عاجزا عن التعرف على التصور الصحيح لله، هل هو: الأقانيم، "الحالات" الثلاثة، أم يهوه، أم "كالي"، أم غير ذلك؟!. * البحث عن الحقيقة من الجاحظ للغزالي لمصطفى محمود لا شكّ أن هذه التجربة صهرته بقوة وصنعت منه مفكراً دينياً خلاقاً، لم يكن مصطفى محمود هو أول من دخل في هذه التجربة، فعلها الجاحظ قبل ذلك، فعلها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، تلك المحنة الروحية التي يمر بها كل مفكر باحث عن الحقيقة، إن كان الغزالي ظل في محنته 6 أشهر فقط، فإن مصطفى محمود قضى ثلاثين عاما، ثلاثون عاما أنهاها بأروع كتبه وأعمقها: حوار مع صديقي الملحد، رحلتي من الشك إلى الإيمان، التوراة، لغز الموت، لغز الحياة، وغيرها من الكتب شديدة العمق في هذه المنطقة الشائكة. ومثلما كان الغزالي كان مصطفى محمود، الغزالي حكى عن الإلهام الباطني الذي أنقذه، بينما اعتمد مصطفى محمود على الفطرة، حيث إن الله فطرة في كل بشري وبديهة لا تنكر، يقترب في تلك النظرية كثيرا من نظرية "الوعي الكوني" للعقاد، اشترى قطعة أرض من عائد أول كتبه "المستحيل"، وأنشأ عليه جامع مصطفى محمود وبه 3 مراكز طبية ومستشفى وأربع مراصد فلكية وصخور جرانيتية. * مصطفى محمود وبرنامج "العلم والإيمان" يروي مصطفى محمود أنه عندما عرض على التلفزيون مشروع برنامج "العلم والإيمان"، وافق التلفزيون راصدًا 30 جنيها للحلقة الواحدة، وبذلك فشل المشروع قبل بدايته، إلا أن أحد رجال الأعمال علم بالموضوع فأنتج البرنامج على نفقته الخاصة، ليصبح من أشهر البرامج التلفزيونية وأوسعها انتشارا على الإطلاق، لا زال الجميع يذكرون سهرة الاثنين في الساعة التاسعة مساء، ومقدمة الناي الحزينة في البرنامج، وافتتاحية مصطفى محمود: "أهلا بيكم"، إلا أنه ككل الأشياء الجميلة كان لا بد من نهاية، وللأسف.. هناك شخص ما أصدر قرارا برفع البرنامج من خريطة البرامج التليفزيونية، وقال ابنه أدهم مصطفى محمود - بعد ذلك - إن قرار وقف البرنامج صدر من الرئاسة المصرية إلى وزير الإعلام آنذاك "صفوت الشريف"، بضغوط صهيونية. * مصطفى محمود وكتاب "الله والإنسان" تعرض مصطفى محمود لأزمات فكرية كثيرة، كان أولها عندما قُدِّم إلى المحاكمة بسبب كتابه "الله والإنسان"، وطلب عبد الناصر بنفسه تقديمه إلى المحاكمة - بناء على طلب الأزهر - باعتبارها قضية كفر، إلا أن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب، وبعد ذلك أبلغه الرئيس السادات بأنه معجب بالكتاب وقرر طبعه مرة أخرى. * محمود: من يفشل في إدارة أسرة لا يستطيع إدارة وزارة كان صديقا شخصيا للرئيس السادات، ولم يحزن على أحد مثلما حزن على مصرعه، ويقول في ذلك: "كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلا ردّ مظالم كثيرة وأتى بالنصر وساعد الجماعات الإسلامية، ومع ذلك قتلوه بأيديهم"، وعندما عرض السادات الوزارة عليه رفض قائلا: "أنا فشلت في إدارة أصغر مؤسسة، وهي الأسرة، فأنا مطلق، فكيف بي أدير وزارة كاملة"، ورفض مصطفى محمود الوزارة مفضلا التفرغ للبحث العلمي. * "واصل" هو الوحيد الذي وقف إلى جانبه في "أزمة الشفاعة" الأزمة الشهيرة، أزمة كتاب الشفاعة - أي شفاعة رسول الإسلام محمد في إخراج العصاة من المسلمين من النار وإدخالهم الجنة - عندما قال مصطفى محمود إن الشفاعة الحقيقية غير التي يروج لها علماء الحديث، وإن الشفاعة بمفهومها المعروف أشبه بنوع من الواسطة والاتكالية على شفاعة النبي محمد، وعدم العمل والاجتهاد أو أنها تعني تغييرا لحكم الله في هؤلاء المذنبين، وأن الله الأرحم بعبيده والأعلم بما يستحقونه، وقتها هوجم الرجل بألسنة حادة وصدر 14 كتابا للرد عليه، على رأسها كتاب الدكتور شاكر أستاذ الشريعة الإسلامية، وكان رداً قاسيا للغاية دون أي مبرر، واتهموه بأنه مجرد طبيب لا علاقة له بالعلم الديني. وفي لحظة واحدة حوّلوه إلى مارق خارج عن القطيع، حاول أن ينتصر لفكره ويصمد أمام التيار الذي يريد رأسه، إلا أن كبر سنه وضعفه هزماه في النهاية، تقريبا لم يتعامل مع الموضوع بحيادية إلا فضيلة الدكتور نصر فريد واصل - مفتي الجمهورية الأسبق - عندما قال: "الدكتور مصطفى محمود رجل علم وفضل ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الاطلاع والغيرة على الإسلام، فما أكثر المواقف التي أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين، وكم عمل على تنقية الشريعة الإسلاميّة من الشوائب التي علقت بها، وشهدت له المحافل التي صال فيها وجال دفاعا عن الدين". مصطفى محمود لم ينكر الشفاعة أصلا، رأيه يتلخص في أن الشفاعة مقيدة أو غيبية إلى أقصى حدّ، وأن الاعتماد على الشفاعة لن يؤدي إلا إلى التكاسل عن نصرة الدين والتحلي بالعزيمة والإرادة في الفوز بدخول الجنة، والاتكال على الشفاعة، وهو ما يجب الحذر منه، والأكثر إثارة للدهشة أنه اعتمد على آراء علماء كبار على رأسهم الإمام محمد عبده، لكنهم حمّلوه الخطيئة. * كامل الشناوي: العلم خيّب ظنّ مصطفى محمود كانت محنة شديدة أدت به إلى أن يعتزل الكتابة إلا قليلا، وينقطع عن الناس حتى أصابته جلطة في عام 2003، أصبح يعيش منعزلا وحيدا، وقد برع الدكتور مصطفى محمود في فنون عديدة منها الفكر والأدب، والفلسفة والتصوف، وأحيانا ما تثير أفكاره ومقالاته جدلا واسعا عبر الصحف ووسائل الإعلام، وقال عنه الشاعر الراحل كامل الشناوي: "إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة، كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم، أخذ يبحث في الأديان - بدءا بالديانات السماوية وانتهاء بالأديان الأرضية - ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم". * وفاة مصطفى محمود توفي الدكتور مصطفى محمود في الساعة السابعة والنصف من صباح السبت 31 أكتوبر 2009، بعد رحلة علاج استمرت عدة شهور عن عمر يناهز ال 88 عاماً، وقد تم تشييع الجنازة من مسجده في حي المهندسين.