إذا رأيتني ضعيفًا في موقف من المواقف فابعث بالصورة التي معك إلى المسؤولين نيابةً عني، وهذه مسؤوليتك أمام الله"، تلك هي الرسالة التي أودع شيخ الأزهر الراحل محمد الخضر حسين، عندما تولي مشيخة الأزهر لسكرتير مكتبه، رغبة منه في التذكير الدائم برقابة الله عز وجل لأفعاله وأعماله. ولد "حسين" بمدينة نفطة التونسية في مثل هذا اليوم 16 أغسطس عام 1876م، لأسرة أصلها جزائري، تنتمي لعائلة العمري، من قرية طولقة (ببسكرة)، وهي واحة من واحات الجنوب الجزائري، أبوها هو الشيخ مصطفى بن عزوز، وخاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، ترعرع الشيخ في مدينته التي كانت تلقب بالكوفة الصغرى، وبها جوامع ومساجد كثيرة، وهي واحة بها زرع وفيها فلاحون. ونشأ الشيخ في هذه البيئة طالبًا للعلم فحفظ القرآن، ودرس العلوم الدينية واللغوية على يد عدد من العلماء منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي كان يرعاه ويهتم به، وحاول الشيخ منذ سن الثانية عشرة أن يقرض الشعر، ثم برع فيه بعد ذلك، ولما بلغ الشيخ سن الثالثة عشرة انتقل إلى تونس مع أسرته ودرس في جامع الزيتونة وهناك درس على خاله محمد المكي بن عزوز الذي كان له شهرة كبيرة بالجامع ويدرس فيه مجانًا، ودرس على يد مشايخ آخرين أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أعمدة الإصلاح في تونس، درس على يديه صحيح البخاري، وقد تخرج الشيخ في الزيتونة سنة 1898م، وألقى دروسًا في الجامع في فنون مختلفة متطوعًا، وبقي كذلك مع حضور مجالس العلم والأدب المختلفة. لزم الشيخ مدينة تونس وجامع الزيتونة لفتر طويلة من عمره، وأنشأ مجلة "السعادة العظمى" إبريل 1904م، كأول مجلة عربية ظهرت في تونس، وكانت تصدر كل نصف شهر، ولم يصدر منها سوى 21 عددًا ثم انقطع صدورها، وقد كان الشيخ يكتب أغلب مقالاتها. تولي الشيخ قضاء بنزرت عام 1905، وقام بالتدريس في جامعها الكبير، وما لبث أن استقال وعاد إلى تونس وتطوع للتدريس في جامع الزيتونة، ثم إحيل إليه تنظيم خزائن كتب الجامع، في سنة 1325 ه شارك في تأسيس الجمعية الزيتونية، وخلالها عين مدرسا رسميا بجامع الزيتونة، وقام خلال هذه الفترة بالتدريس والخطابة في الجمعية الخلدونية، فلفت الأنظار بسعة علمه. رحل الشيخ إلى الجزائر وزار أمهات مدنها، وألقى بها دروس مفيدة، وما لبث أن عاد إلى تونس، وإلى التدريس بجامعها، وحاولت في هذه الفترة السلطات الفرنسية ضمه إلى المحكمة الفرنسية فرفض بشدة، وفي سنة 1329 ه وجهة له تهمة روح العداء للغرب وخاصة سلطات الحماية الفرنسية، فأحس الشيخ بأن حياته وحريته في تونس معرضة للخطر، فسافر إلى إسطنبول بحجة زيارة خاله بها، وبدأ رحلته بمصر ثم دمشقفإسطنبول، وعندما سمع بأن الأحوال هدأت بتونس عاد إليها عن طريق نابولي الإيطالية، لكنه وجد أن الأمر ازداد تعقيدا، فأزمع الهجرة نهائيا واختار دمشق موطنا ثانيا له، وخلاله رحلته مر بمصر والتقى بمشايخها الكبار الساكنين بها مثل الشيخ طاهر الجزائري ومحمد رشيد رضا والشيخ محب الدين الخطيب. نال الشيخ عضوية هيئة كبار العلماء برسالته "القياس في اللغة العربية" عام 1950م، ثم اختير شيخا للأزهر في 16 سبتمبر 1952م، والتي استقال عنها في 7 يناير 1954م احتجاجًا علي إلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني. للشيخ مؤلفات كثيرة منها "محمد الخضر حسين وزين العابدين بن الحسين التونسي في القدس، رسائل الإصلاح، وهي في ثلاثة أجزاء، ديوان شعر "خواطر الحياة"، بلاغة القرآن، زين العابدين بن الحسين التونسي ومحمد الخضر حسين في طرابلس، أديان العرب قبل الإسلام، تونس وجامع الزيتونة، تونس، 67 عاما تحت الاحتلال الفرنساوي 1881-1948، حياة ابن خلدون ومثل من فلسفته الاجتماعية، دراسات في العربية وتاريخها". وحينما أصدر علي عبد الرزاق -الأزهري المنتكس- كتابه (الإسلام وأصول الحكم) يهاجم فيه تطبيق الشريعة الإسلامية، ويزعم أن الإسلام ليس دين حكم، وينكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية. نهض الشيخ محمد الخضر حسين لتفنيد دعاوى الكتاب، وأصدر كتابه: (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) في نفس العام، تتبَّع فيه أبواب كتاب علي عبد الرازق، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التي تعبِّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ونقد استخدام المؤلف للمصادر. وفي العام التالي كان له موقفًا معارضًا ل "طه حسين"، في كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي زعم فيه أن كل ما يعد شعرًا جاهليًّا هو مختلق ومنحول، ولم يكتف بهذه الفرية بل جاهر بالهجوم على المعتقدات الدينية حيث قال: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وتوفي في 13 رجب 1377 ه /28 فبراير 1958.