انتابت جمهور مهرجان القاهرة السينمائى، حالة خاصة وهم يشاهدون فيلم «كوستوريتساك» واسمه «فى درب التبانة» الذى كتب السيناريو ولعب دور البطولة أيضا فيه. ورغم ما يقال عن أن الدعابة أو النكتة لا يفهمها سوى أصحاب ثقافة واحدة أو يتشاركون مجتمعًا واحدًا، إلا أن تلك الضحكات التى تعالت وتفجرت أكثر من مرة طوال مدة عرض الفيلم التى جاوزت الساعتين بخمس دقائق، تدل على أن هناك مشتركات كثيرة وعامة بين البشر فى العالم، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين. ففى المشاهد الأولى للفيلم، يجد مشاهده أنه فى بيئة قريبة منه تكاد لا تختلف عن أى قرية مصرية أو عربية أو حتى صينية أو مكسيكية أو إفريقية، نحن هنا بصدد حالة إنسانية حميمية، قرية بسيطة فى جبال صربيا أثناء الحرب اليوغوسلافية، وإن كان الفيلم لم يشر صراحة أو يوضح أية حرب هذه، ومجموعة من أهالى القرية يقومون بتحضير طعام الإفطار للجنود، وكان رائعا ذلك المشهد، واثنان من الطهاة يكسرون العشرات من البيض، وفوق رأسيهما تحلق الطائرات تطلق قذائفها وصواريخها، تمطر بها الأرض وتقصف الجبال من حولهما. البطل نفسه «كوستا» لا يفيق من نومه إلا بسقوطه من فوق فراشه على وقع الصواريخ والقذائف، ورغم ذلك يعمل على إيصال الحليب إلى الجنود فوق الجبل، يمتطى حماره لا يشعر بجنون تلك الحرب الدائرة من حوله، فهو فى حراسة صديقه «طائر العُقاب» الذى يحميه طوال مدة الفيلم. يقع كوستا فى غرام «مونيكا» العميلة السرية، من أب صربى وأم إيطالية، وتحاول الأجهزة السرية التى تطاردها قتله، لكنها تصل إلى مركز للاجئين وتسعى للحصول على هوية جديدة، وقامت بدورها النجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي. على العكس من أفلام كوستوريتسا التى تميل للغرائبية والفانتازيا جاء فيلمه بمسحة إنسانية مغرقة فى المحبة والصوفية، كانت مكثفة فى عدة مشاهد، خاصة تلك التى كان كوستا يضع الحليب كل يوم للثعبان بعدما لاحظ أنه يشربه، كوستا الذى يقيم علاقات حميمية بكل الكائنات الحية من حوله، سواء من البشر أو حتى الحيات السامة، تمكن أن يروض أو يستأنس ذلك الثعبان، بل حاول الثعبان أن ينقذ حبيبته من حقل الألغام الذى وقفت فيه، لكنها لم تفهم سوى أنه يريد الفتك بها فتقتله، ومن ثم تدفع حياتها ثمنًا لسوء الفهم هذا. مشهدان آخران أحدهما عندما يطلق الجنود الرصاص على حمار كوستا ويردونه قتيلًا، تلك الدموع التى ذرفها على حماره ونظرة الحزن العميقة فى عينيه، كانت تحمل تلك الفلسفة الصوفية المؤمنة بتكامل الكون والمحبة بين جميع كائناته وموجوداته، أما المشهد الآخر والذى نقل بحرفية إبداعية، فذاك الخاص بالخراف التى ترغم على دخول حقل الألغام وتتطاير متفجرة لتسقط محترقة من السماء، فى هذا المشهد شديد العبقرية وكأن السماء تمطر خرافًا محترقة، إحداها كانت فى مشهد سابق تلد حملًا صغيرًا وحتى بعد أن تقتل بالرصاص يجرى الحمل لضرعها ليمتص آخر رحيق للحياة من جثتها الساخنة التى لم تبرد بعد. حمل كوستوريتسا رسائل عديدة فى فيلمه، ربما من أهمها الشغف بالحياة، والتمسك بآخر رمق فيها، وذلك من خلال مشاهد عدة لأهالى القرية الذين لم يتخلوا عن عاداتهم اليومية، فنراهم يرقصون.. يغنون.. يقيمون حفلاتهم الموسيقية الصاخبة، وحفلات الزفاف تحت وقع القذائف وأصوات زخّات الرصاص. نجحت الموسيقى التصويرية للفيلم، فى بث تلك الحالة من البهجة الملونة التى تنفى أن هناك حربًا دائرة، إنما حالة عشق للحياة والاستمتاع بكل لحظاتها، وكأنها قوس ألوان قزح ساهم تصوير «مارتن سيك، جوران فولارفيك» فى غزل تلك القصيدة السينمائية، والتأكيد على الحالة شديدة الإنسانية، حتى أنها سرت بين متابعي الفيلم، رغم أنه لم يكن متبوعًا بترجمة عربية.