لم تعد نوبل من نصيب أدباء القصة والرواية ودواوين الشعر.. تذهب الآن إلى صحفيين ومؤلفى أغانٍ. لا يزال «أدونيس» مرشحًا، مجرد مرشح سنوي، دوري، لا تخلو سلة الترشيحات منه كل عام، ولا يحصل على الجائزة. تشبه «نوبل للآداب» لعبة «البوكر»، رست الكرة هذا العام إلى الأمريكي، بوب ديلان. «ديلان» شاعر وملحن ومغن وفنان أمريكى مولود فى 24 مايو 1941، وقالت الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة إنه «خلق تعبيرات شعرية جديدة فى الأغنية الشعبية الأمريكية». أغنيات الشاعر الأمريكى معروفة بالتناص التاريخي، والإيقاع الخاص، حتى إنه، فى أغلب الاستفتاءات الأمريكية، يجلس على عرش الشعر الغنائى بجانب «ملتون» و«كيتس». «ديلان»، الاسم الحركى لروبرت تسيمرمان، ولد عام 1941 فى ولاية «مينوسوتا» قرب الحدود الكندية، ونال شهرته العالمية فى أوساط الشباب والمثقفين والطبقة العاملة، تعلم العزف على الجيتار وهو طفل صغير، وتحول إلى عازف محترف ل«الهارمونيكا» قبل أن يصل الثامنة عشرة من عمره. كان أول ظهور له، كعازف ومغنٍ، عام 1955، حين شارك فى حفلات موسيقية مع فرقة متخصصة فى «الفلكلور الشعبى الأمريكي». من هنا بدأت الرحلة. اختنق من هواء المدينة الضيقة، الذى حمل إليه «ضيقًا» من كل شيء، من البارات والمقاهى الرخيصة، التى داوم على الغناء فيها، فانتقل عام 1961 إلى نيويورك، التى كانت مدينة النوادى الليلية الكبيرة، الأولى فى حفلات الموسيقى الفلكلورية. لاحظ «ديلان» أن أغلبية المغنين يكتفون بإعادة غناء الفلكلور، لا يؤلفون، ولا يكتبون أشعارا، فحمل على كاهله مسئولية تجديد الفلكلور. نفخ فى الأغنيات الفلكلورية من روحه، لكن ذلك لم يكن يكفي، فألَّف جديدًا، وحولها إلى أغنيات ثورية تضجّ بها نوادى الجاز، وهناك تعرَّف على مطربه المفضل «ودى جوثري»، الذى كان يتميز عن بقية المغنين بدفاعه عن الطبقات العمّالية والمضطهدين. وهكذا من حفل لآخر سحر هذا الشاب الخجول الناسَ بصوته الجامح المسكون بنبرة حزن موجعة وبأغانيه التى تروى شجون الحياة اليومية عبر قصص قصيرة ومكثفة تحكى انكسارات وأحزان المواطن الأمريكى العادي، وإذا به، وفى غضون عام واحد، يكتسب شهرة متعاظمة، ليقوم فى العام التالى بتغيير اسمه إلى بوب ديلان تيمنا بالشاعر توماس ديلان وتزامنا مع إصدار ألبومه الأول الذى لقى نجاحا كبيرا على الفور وضم أغانيه الأكثر شهرة حتى الساعة. لا يمكن فهم صعود نجم ديلان من دون ربطه بالسياقين الثقافى والسياسى العام اللذين بزغ فيهما نجمه؛ فقد كان عصره عصر الحرب الباردة وحركات الاحتجاج الشبابية الكبرى على سباق التسلح وحرب فيتنام واضطهاد السود كما كان عصر التحول إلى موسيقى الروك التى صارت اللون الموسيقى الأكثر جدة وانتشارًا والتصاقا بهموم وتطلعات الشباب الأمريكي، وابتداء من 1964 تحول ديلان إلى العزف على الجيتار الكهربائى منتقلا من الموسيقى الفلكلورية إلى الروك، ويؤكد مؤرخو الموسيقى أن هذا التحول كان له الفضل الكبير فى دفع الموسيقى الشعبية إلى عالم موسيقى الروك وإغنائها بالمضامين العميقة والوعى السياسى والاجتماعى حتى غدت أغنياته بمثابة النشيد الوطنى لجيل كامل من الشباب الغاضب خلال الستينيات وأوائل السبعينيات. نال ديلان الكثير من الجوائز الكبرى شاعرًا ومثقفًا وموسيقارًا ومغنيًا، وعده بعض النقاد أفضل كاتب كلمات فى تاريخ الغناء الغربي، وهو يستلهم تلك الكلمات من حياته ومن آمال وأحزان وتطلعات الناس المحيطين به والشباب منهم على وجه الخصوص، وما يزيد من تقدير الناس لكلماته أنها محاطة بقدر كبير من الغموض المحبب الذى يبقى الأغنية حية ومفتوحة على العديد من التفسيرات والاحتمالات التى يخمنها المستمعون كل حسب طريقته دون أن يتطوع هو بتفسيرها وإيضاح معانيها، حدث هذا مثلًا فى أغنيته القصيرة «أطرق باب السماء» التى كتبها وغناها من أجل الموسيقى التصويرية لفيلم Pat Garrett & Billy the Kid عام 1973 وحققت مراتب متقدمة وتبوأت المرتبة الثانية عشرة فى قائمة Billboard لأفضل 100 أغنية فردية فى العالم، وهى تتحدث على لسان مساعد شرطة يخاطب أمه وهو فى لحظاته الأخيرة بعد إصابته فى مواجهة مع المجرمين؛ أو فى أغنيته الذائعة الصيت Like a rolling stone التى عدها البعض أعظم أغنية روك فى التاريخ، والتى اختلفت الآراء وتعددت حولها وحول قصتها وقيل إنها تتحدث عن فتاة منعَّمة هجرت قيم الأسرة والوفاء والصدق مع النفس، تلك القيم التى تتردد أصداؤها فى أغلب أغنياته، وانغمست فى عالم اللهو والأضواء والرفقة المداهنة لتفقد كل شيء: البيت والثراء والأضواء والأصدقاء ولقمة الخبز. شارك ديلان فى ألمع التظاهرات والمهرجانات الموسيقية فى الولاياتالمتحدة وأدى بعض الأغانى مع المغنية الشهيرة «جون بيز» التى كانت هى الأخرى من بين أبرز ممثلى الفن الملتزم المناهض لحرب فيتنام آنذاك. ومع أن تأثيره وصل إلى ذروته فى الستينيات من القرن العشرين، فقد استمر فى كونه فنانًا له جمهور واسع من المعجبين ويتبع خطواته عن كثب العديد من الفنانين المعاصرين، لم يرضَ ديلان، رغم بلوغه السبعين، أن يتوقف عن الإبداع أو أن يوضع على الرف أو يتحول إلى فنان مُتقاعد يقدم النصيحة إلى الآخرين، وواظب طوال حياته على إنتاج ألبومات مميزة، متنوعة العناصر والأساليب ولا تتبع مسارًا ثابتًا، بحيث تمثل شهادة فريدة على روح الابتكار لدى موسيقى البوب وعلى قدرة ديلان شخصيًا على الاستمرار عبر جولاته الفنية الماراثونية وتسجيله الذى لا يكل للمزيد من الأغنيات التى تتجاوز قدرة المراقبين على التكهن بما يأتى به من جديد.