إنَّ فتوى تحريم الغناء ونشرها وانتشارها فى مصر على نطاق واسع فى العقود الأخيرة مثَلٌ واضح على التضليل، وسأكتفى هنا بما قاله القدامى أنفسُهم من معلومات، فخلاصة الروايات المتكررة فى هذا السياق تثبت أنَّ الرسول (ص) لم يُنكر الدفَّ فى بيته فى واقعتين منفصلتين، وعلى هذا لا يوجد كثير من الخلاف فيما يخص الدف، والخلاف الوحيد كان فى جوازه على الإطلاق أم في مناسبات معينة. فيما يخص الآلات الأخرى مثل العود الذى كان معروفاً آنذاك، فهناك اختلافات جذرية بين المدارس الفقهية، وتميل المدارس المتشددة لتحريمها تماماً. لكن الغريب أنه لا توجد رواية واحدة متواترة تثبت هذا التحريم. ويعتمد المحرِّمون على تأويلهم لبعض الآيات مثل الآية الكريمة: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ»، {سورة لقمان، آية: 6}. فيؤوِّلون هذه الآية تأويلاً غريباً مفاده أنَّ المقصود بلهو الحديث هو الغناء. والآية الأخرى: «أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ* وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ* وَأَنتُمْ سَامِدُونَ»، {سورة النجم، آيات: 59-61}. فيقولون إنَّ السَّمْد فى لغة أهل حِميَر هو الغناء. ويستندون فى ذلك إلى قولٍ منسوبٍ لعبد الله بن عباس بذلك. وحتى لو كان المعنى هو الغناء، فمعنى الآية واضحٌ، وهو حدوث الغناء أثناء سماع القرآن. لكن المشكلة أنَّ ناقل الخبر عنه هو عكرمة المعروف، كما سنعرف لاحقاً، باتهامه بالكذب فى رواية الحديث. ويتجاهل المحرِّمون بعض ما ذُكر عن بعض الصحابة الذين عُرفوا بسماعهم لآلة العود مثل عبد الله بن جعفر بن أبى طالب الذى قال عنه الرسول (ص) أنه أكثر الناس شبهاً به من حيث الخُلق والخِلقة. كان عبدالله بن جعفر يسمع العود، وقال عنه الحافظ ابن عبد البر إنه كان لا يرى بالغناء بأساً. روى الحافظ أبومحمد بن حزم فى رسالته فى السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: «إنَّ رجلاً قدم المدينة بجوارٍ فنزل على ابن عمر، وفيهنَّ جارية تضرب. فجاء رجل فساومه، فلم يهوَ فيهنَّ شيئاً. قال: انطلق إلى رجلٍ هو أمثَلُ لك بيعاً من هذا. قال: من هو؟ قال: عبدالله بن جعفر.. فعرضهنَّ عليه، فأمر جارية منهنَّ، فقال لها: خذى العود، فأخذته، فغنت، فبايعه». وروى صاحب «العقد» العلامة الأديب أبو عمر الأندلسى أنَّ عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية فى حجرها عود، ثم قال لابن عمر: هل ترى بذلك بأساً؟ قال: لا بأس بهذا. وهناك رواية مشهورة عن عبد الله بن الزبير تقول: «نقل الأثبات من المؤرخين أنَّ عبد الله بن الزبير كان له جوارٍ عوَّادات، وأنَّ ابن عمر دخل عليه وإلى جانبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه وتأمله ابن عمر، فقال: هذا ميزان شامي! قال ابن الزبير: يوزن به العقول». ومن جيل التابعين كتفى بذكر اسم إمام التابعين سعيد بن المسيب الذى أباح لابنته آلة من آلات الضرب مثل الطمبورة (آلة الدرامز). لقد كُتبت كتبٌ فى التحريم وأخرى فى الإباحة. وضُعِّفت تقريباً كل الأحاديث التى حرَّمت الغناء حتى فى الكتب التى حرَّمته، ومن الأئمة الذين ضعَّفوا هذه الأحاديث أبو حامد الغزالى وابن حزم. واستند المحرِّمون إلى أقوال المفسِّرين ولم يعتمدوا على الأحاديث. أى أنهم اعتمدوا على آراء الفقهاء. ويتضح من هذا أنها مسألة خلافية لا قطعَ فيها. ولأنَّ الأصل فى الأشياء الإباحة فيلزم أن يأتى المحرِّمون بأدلة قطعية للتحريم، وهو ما لم يحدث. وأنقل الآن ما قاله أحد أكبر فقهاء السنَّة والجماعة (الإمام الشوكانى 1759م) فى رسالة مهمة عن الغناء وحكمه. المخطوط هو «إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع»: «أما العود فهو معروف، واختلف العلماء فيه وفيما جرى مجراه من الآلات المعروفة ذوات الأوتار، والمشهور من مذاهب الأئمة الأربعة أنَّ الضرب به وسماعه حرام، وذهبت طائفة إلى جوازه، ونُقل سماعه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن جعفر بن أبى طالب، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص وغيرهم، ومن التابعين خارجة بن زيد وسعيد بن المسيب وعطاء بن رباح والشعبى وابن عتيق وأكثر فقهاء المدينة، ونُقل عن مالك سماعه، وكان إبراهيم بن سعد الزهرى من علماء المدينة يقول بإباحته ولا يحدِّث حديثاً حتى يضرب به، ولما قدم بغداد، واجتمع بالخليفة هارون الرشيد ضرب به وغنى ثم حدَّثه، ونقل الإمام المازنى عن عبد الله بن الحكم أنه مكروه، وحُكى عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه مباح».