لم يكن ما يصرخ به «الشيخ» على المنبر شذوذًا منه عن أقرانه، أو تفرُّدًا لهذا المسجد عما سواه، بل كان أشبه باتفاق بين معظم مَن يعتلون المنابر، سواء من كان منهم تابعًا لوزارة الأوقاف أو تابعًا لإحدى الجماعات المنتشرة بطول البلاد وعرضها، كان الواعظ يهتف قائلًا: إنهم يتحدَّون الله ورسوله، ويأخذون عن الغرب الكافر وسائل تحديد النسل، وحتى يخدعوا المسلمين يسمونه تنظيم النسل، إنهم يكذِّبون سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى قال «تناكحوا تناسلوا فإنى مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة». هكذا كان عقد الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى فى مصر، رئيسٌ مقتول، وطنٌ خارجٌ لتوِّه من عقود طويلة من الحروب، وقيادةٌ عسكرية تولَّت الزمام وقد أحاط بها من الرجال آنذاك مَن لم يتهمهم أحدٌ، حتى الآن، فى ولائهم لوطنهم أو فى ذممهم المالية أو فى كفاءتهم أمثال حسب الله الكفراوى وماهر أباظة وسليمان متولي.. وغيرهم. وقد أراد هؤلاء أن يخططوا لبناء وطن قوى، ورأوا أنَّ من عماد هذا البناء إيقاف الزيادة السكانية الرهيبة حتى يتنسَّمَ الناسُ عبيرَ إنجازاتهم فى جميع أرجاء مصر، فانتشرت فى القرى والنجوع مراكزُ تنظيم الأسرة، واعتاد الناسُ مشاهدةَ الإعلان الشهير (حسنين ومحمدين) ترغيبًا فى أسرةٍ صغيرة العدد وتنفيرًا من فكرة كثرة الأطفال. وأخيرًا كانت النتيجةُ أن قفز عدد سكان مصر من 44 مليونًا عام 1981م إلى 59 مليونًا ونصف المليون عام 1996م!، أى إنَّ كل هذه المجهودات ذهبت هباء منثورًا، ففى وطن بلغت نسبة الأمية بين نسائه فى بعض المناطق أكثر من 98% وبين رجاله أكثر من 80%، كانت كل حملات التوعية تلتهمها بضعُ كلمات من واعظ متشنج يلقى بهذا الحديث المزعوم فى وجوه المصلين الذين اعتادوا طوال تاريخهم أن يخشوا معارضة حاملى لواء الدين، بدءًا بالكهنة القدامى وصولًا لوعَّاظ الجمعة على المنابر، يعرف الوعَّاظُ كلمةَ السرِّ لإغلاق الأفواه والعقول. كلمة «قال رسول الله عليه الصلاة والسلام». عرفوا السرَّ فأطلقوا لأنفسهم العنانَ فكان ما كان، ومازال يجري. عاد العائدون من شباب مصر (الأميون ومتوسطو التعليم) بعد رحلة السُّخرة فى بلاد الخليج منذ أواخر السبعينات حتى منتصف التسعينات، عادوا بالجلابيب البيضاء واللحى والسواك وأجهزة التسجيل الضخمة ذات البابين، ومع كل ذلك أيضًا أحضروا الكتيبات الدينية وشرائط الكاسيت لشيوخ الخليج، أصبح مشهد انتهاء صلاة الجمعة وتزاحُم المصلين على البائع ذى الجلباب القصير مشهدًا معتادًا فى كل محافظات مصر، وفى تلك الفترة انتشرت بعض الفتاوى، لعلَّ أشهرها فتاوى تحريم الغناء، وقد أثمرت تلك الكتيبات والشرائط ثمارَها المرَّة، فاستسلمت عقولُ الكثير من المصريين للإلحاح المتكرر، وقرَّ فى تلك العقول اعتقادٌ بحُرمة الغناء، حتى هؤلاء الذين اعتادوا التمتع بالاستماع للغناء اعتقدوا أنهم يأتون حرامًا. قُتل فرج فودة بتهمة الارتداد عن الإسلام وتم القبض على المتهمين بقتله، أرادت هيئة المحكمة أن تستوثق الحكم الشرعى فاستدعت عالمًا أزهريًا يُفتيهم وقد أفتاهم بأن جريمة المتهمين (الذين اعترفوا بالقتل) ليست القتل وإنما الافتئات على سلطة وليِّ الأمر فى إقامة الحدود ومنها حدُّ الردة. فالعالِم قد أقرَّ أولًا بكفر فودة، ثم قال ثانيًا بوجود حكم دنيوى للردة، وأقرَّ ثالثًا بجواز إقامة الأفراد للحدود إذا ما عطلها وليُّ الأمر، واعترض – فقط – على تعدِّى القتلة على سلطة الدولة فى تطبيق القانون أو الحد الشرعي، وهذا التعدى سماه افتئاتًا على سلطة وليِّ الأمر، وقال إنَّ عقوبة هذا الافتئات تعزيرية يحددها القاضي، لكنها فى كل الأحوال ليست عقوبة قتل.