يخوض قادة أوروبا سباقًا مع الزمن لوقف انهيار وتفكك الاتحاد الأوروبي، الكيان السياسى الكبير، الذى يضمن بقاء القارة العجوز كقوة مؤثرة على خارطة العالم السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، بعد ظهور مؤشرات قوية حول تفككه تقودها بريطانيا، نتيجة خلافات أيديولوجية وفكرية بين الدول الأعضاء. وعلى مدار اليومين الماضيين شهدت العاصمة البلجيكية بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، اجتماعات مكثفة لقادة 28 دولة أوروبية أعضاء الاتحاد، لبحث سبل إنهاء تلك الأزمة الحالية وكيفية تطبيق الإصلاحات التى طالبت بها بريطانيا وإثناء رئيس الوزراء ديفيد كاميرون عن خططه التى لوح بها حول خروج بلاده من الاتحاد. ونقلت «بى بى سي» عن مسئولين أوروبيين تأكيدهم أن هناك انقسامًا حادًا بين القادة الأوروبيين حول عدة قضايا أبرزها قضية المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط، والتحديات الهائلة التى تواجه دول القارة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا من استمرار زحفهم. واستمر النقاش لأكثر من ست ساعات، يوم الخميس الماضي، لكنه كان عقيمًا بين جميع القادة، الذين لم يتفقوا على رؤية استراتيجية موحدة لمواجهة هذا الخطر، واستمر الجدل بين القادة خلال اجتماع أمس الجمعة الذى خرج بقرار واحد وهو «التعامل مع القضية من المنبع.» وتسعى أوروبا لعدم انتظار وصول المهاجرين إلى سواحلها أو حتى نزولهم إلى البحر المتوسط، بل يجب منعهم من الوصول إلى البحر أصلًا، وذلك من خلال الضغط على تركيا المصدر الأول للمهاجرين نحو أوروبا. وأكد دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبى أن اجتماعًا موسعًا بين الاتحاد الأوروبى وتركيا سيجرى فى مارس المقبل لمناقشة أزمة المهاجرين وسبل التصدى لها. وقال: «أولويتنا هى وضع خطة تحرك أوروبية تركية»، وكان الاتحاد الأوروبى قد تعهد بمنح تركيا نحو 3 مليارات يورو، لمساعدتها فى إيواء اللاجئين داخل أراضيها. واستقبلت دول الاتحاد الأوروبى أكثر من مليون لاجئ خلال عام 2015، ما أثار أسوأ أزمة لجوء فى أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وكان الاتفاق الوحيد بين القادة على ضرورة الضغط على تركيا لتبذل المزيد من الجهود لوقف تدفق المهاجرين، ورفع الحماية المفروضة على المهربين وتجار البشر. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر فى تصريحات نقلتها التايمز البريطانية: «لقد أكدنا أنه لا بديل عن تعاون ذكى وحكيم مع تركيا». وجددت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» دعوتها لتقديم رد «موحد» عن أزمة المهاجرين، لكن اعترضت النمسا على هذه الخطوة وقررت اتخاذ إجراء أحادى الجانب بتحديد أعداد طالبى اللجوء الذين ستسمح لهم يوميًا بدخول أراضيها، وذلك رغم أنف المفوضية الأوروبية. وقالت ميركل إن خطة التحرك الأوروبية التركية «هى الشيء الذى سنركز عليه». وأضافت ميركل أن أعداد المهاجرين، الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا، شهدت تراجعًا خلال الأشهر الأخيرة، لكنها حذرت من أن هناك «خطرًا واضحًا»، من موجة تدفق جديدة خلال الربيع بسبب تحسن الطقس، ومن ثم ظروف الملاحة. وكان من المتوقع أن يشارك رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، فى اجتماعات القمة الأوروبية الخميس، لكنه ألغى مشاركته، بسبب التفجير الدامى الذى شهدته أنقرة الأربعاء. أما القضية الأخرى المهمة التى تهدد مستقبل أوروبا، فتمثلت فى بريطانيا ورفض البريطانيين الاندماج فى أوروبا والمطالبة بمميزات إضافية للبقاء فى الاتحاد. ويشعر البريطانيون أنهم لا ينتمون لأوروبا أو الاتحاد الحالي، وهو ما أكده رئيس الورزاء ديفيد كاميرون فى كلمته أمام 27 زعيمًا أوروبيًا. وقال كاميرون: «يجب على أوروبا إقناع البريطانيين بتأييد انتماء المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي». ودعا إلى اتفاق يتيح تسوية مشكلات العلاقات بين بريطانيا والقارة «لجيل قادم». ويواجه الاتحاد الأوروبى معارضة قوية داخل بريطانيا حتى داخل حزب المحافظين الحاكم نفسه، والذى يرى أنه لا يجب أن تكون لندن جزءًا من هذا الاتحاد، فضلًا عن أن البريطانيين لا يقبلون أن يتعاملوا بنفس معاملة بقية سكان الاتحاد الأوروبي، ولن يقبلوا أيضًا بمنح سكان أوروبا امتيازات. ويطالب البريطانيون بالتصدى للهجرة الداخلية أو ما يطلق عليه المهاجرون الأوروبيون، ويريد كاميرون تقييد بعض الامتيازات والخدمات الاجتماعية التى يحصل عليها سكان دول الاتحاد الأوروبى عند الانتقال إلى بريطانيا، وذلك لخفض عدد القادمين إلى الأراضى البريطانية. ويثير هذا الإجراء، الذى يعتبر «تمييزًا» بالنسبة للمبدأ «المؤسس» لحرية التنقل، قلق بلدان أوروبا الوسطى والشرقية كونه يستهدف عمالها. كما يريد كاميرون ضمانات للحفاظ على مصالح بريطانيا الاقتصادية والمالية، لكنه يصطدم بمعارضة فرنسا التى تعتبر أنه لا مجال للسماح ب«احتمال استخدام حق النقض» من قبل لندن التى ليست عضوًا فى الاتحاد النقدي، أى منطقة اليورو. وقال الرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند «لا يجب منح أى بلد حق النقض ولا يمكن لأى بلد أن يتملص من القواعد المشتركة أو السلطات المشتركة». ووعد كاميرون بتنظيم استفتاء بشأن بقاء بريطانيا من عدمه فى الاتحاد، ومن المرجح إجراء هذا الاستفتاء فى يونيو، وفقا لبى بى سي. لكن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا يرفض الشروط والإملاءات البريطانية ويطالب بمعاملة موحدة لجميع الدول وعدم منح لندن أي امتيازات، وتقود بلجيكا هذا التيار بالاشتراك مع بولندا ودول أخرى. وقال رئيس الوزراء البلجيكى شارل ميشال الذى تعتبر بلاده من بين أكثر المعارضين لتقديم تنازلات لبريطانيا «إنها ساعة الحقيقة». من جهتها، قالت رئيسة وزراء بولندا بيتا سيدلو «نريد اتفاقًا جيدًا لكن ليس بأى ثمن». وشدد رئيس الوزراء البلجيكى على أنه «من غير المقبول أن تكون لبلد من خارج منطقة اليورو استراتيجية مقابلة لاستراتيجية منطقة اليورو». وتفجرت قضية أخرى بين إيطاليا ودول شرق أوروبا، وذلك بعد تهديد رئيس الوزراء الإيطالى ماتيو رينزى زعماء بلدان شرق أوروبا من أنها قد تحصل على أموال أقل من الاتحاد الأوروبى لمشاريع التنمية إذا لم تساعد فى التصدى لأزمة اللاجئين. وفى خضم أسوأ أزمة للهجرة فى أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية تقف المجر وبولندا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك فى صف أشد المعارضين لخطط الاتحاد الأوروبى لنقل طالبى اللجوء الذين يصلون إلى جنوب القارة إلى بلدان أخرى بالاتحاد. وقال رينزى «أزمة الهجرة مشكلة مشتركة لكل بلدان الاتحاد الأوروبي. إذا لم تظهروا تضامنًا فإن البلدان التى تقدم أكبر مساهمة فى ميزانية الاتحاد ربما ستظهر قدرًا أقل من التضامن معكم». وهدد بلدان شرق أوروبا بتخفيضات فى تمويلات التنمية من الاتحاد الأوروبى الموجهة إلى المناطق الأكثر فقرًا فى تلك الدول. ونحو ثلث ميزانية الاتحاد الأوروبى للسنوات السبع من 2014 إلى 2020 وقدرها تريليون يورو (1.11 تريليون دولار) مخصص لمشروعات فى البلدان والمناطق الأكثر فقرًا بالاتحاد وهى بالأساس دول شيوعية سابقة. وستبدأ مفاوضات حول ميزانية السنوات السبع التالية فى وقت لاحق هذا العام. ومن جانبها رفضت المجر تهديدات إيطاليا وقال الناطق باسم الحكومة زولتان كوفاتش، إن تهديد إيطاليا بخفض التمويل المقدم من الاتحاد الأوروبى للدول الأعضاء من شرق أوروبا هو «ابتزاز سياسي.» وأكد كوفاتش من جديد موقف المجر من أن نظام الحصص الذى يلزم أعضاء الاتحاد الأوروبى باستقبال عدد محدد من اللاجئين ليس له مكان فى أوروبا، وأضاف أن سياسة الهجرة الأوروبية الحالية فشلت لأنه من المستحيل وضعها موضع التنفيذ.