برؤية صوفية تمزج الأدب بالفلسفة تعاطى المبدع الراحل جمال الغيطاني مع أسئلة الحياة والموت، فيما اعتبر أن الرحيل عن الحياة الدنيا مفتتح لبدء جديد وسكة مغايرة. وجمال الغيطاني، الذي تأثر أيما تأثر بالموروث الثقافي الثري لإعلام المتصوفة واجترح لغة أقطاب التصوف، وفي مقدمتهم النفري وابن عربي وجلال الدين الرومي، كان "صاحب موقف صوفي حيال الموت" ولعل عمله الثقافي الإبداعي الكبير "التجليات" من أهم أعماله التي تحوي تبصراته وتأملاته في رحلة المسير والمصير الإنساني. وبروحه الإيمانية استقر في وجدان الغيطاني قول الحق "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت"، وبدا صاحب جائزة النيل في الآداب مشغولا في كتاباته الأخيرة بفكرة "الوداع" كما يتجلي في "دفتر الدفاتر"، الذي تضمن عنوانين دالين: "في وداع أشياء" و"في وداع أماكن". وكان المبدع الكبير وصاحب مقولة: "جئنا إلى الدنيا وسنمضي عنها وسنترك آخرين يأملون في قدوم الأيام السعيدة" قد انتقل صباح أمس الأحد للرفيق الأعلى بعد معاناة مع المرض استمرت عدة أشهر، فيما تلقت الجماعة الثقافية المصرية ببالغ الحزن والأسى نبأ رحيل جمال الغيطاني. ولئن كان جمال الغيطاني قد ذكر في "التجليات" أنه ودع والدته في "يوم سبت" ورحل والده "يوم ثلاثاء" متسائلا عن اليوم الذي سيكون مختتمه في الحياة الدنيا فقد قضى كتابه أن يكون رحيله "يوم أحد" وأن يجيب هذا اليوم عن تساؤلات مشبعة بنظرته الفلسفية الصوفية وبلاغة الشجن مثل:"أمي ودعت أبي وأنا أعيش وداعها فمن سيسعى في اثري؟.. من سيشيعني.. وعلى أي مشهد سأغمض مقلتي إلى الأبد؟!". وشارك العديد من المثقفين جنبا إلى جنب مع "رجل الشارع" أو المواطنين البسطاء الذين أحبهم جمال الغيطاني في تشييع جنازة هذا المبدع المصري الكبير عصر أمس الأحد من مسجد "السيدة نفيسة" فيما دفن في مقبرة أسرته بمنطقة "الأباجية" ووري جثمانه ثرى مصر، ومن المقرر إقامة العزاء بعد غد الأربعاء بمسجد المشير طنطاوي. وجمال الغيطاني صاحب منصة عالية في إبداعات القلم، لكنها للمفارقة منصة رجل الشارع وأحكامه ووجهات نظره بعيدا عن "الأفكار النخبوية المعقمة" وهو ذاته الصحفي الملتحم بنبض الشارع المصري والمحرر العسكري، الذي قدم للقاريء بطولات أغلى الرجال في حرب السادس من أكتوبر عام 1973. وبصيغة إبداعية متفردة جمع جمال الغيطاني بين تقنيات صانع السجاد والمعماري الفيلسوف والمتصوف العاشق مع نزعة غلابة نحو البحث عن الخصوصية، فيما رأى أن "اللغة حالة وليست أسلوبا، وهي تتغير من عمل لأخر، بينما يجاهد مع اللغة ويكتشفها وتكتشفه". ومنذ منتصف شهر أغسطس المنصرم كان الكاتب الروائي والصحفي الكبير جمال الغيطاني يرقد في قسم رعاية القلب المفتوح بجناح الطوارئ بمستشفى الجلاء العسكري، فيما كان يعاني من ارتشاح في المخ ومشاكل جسيمة في عضلات القلب. وبلغت أزمته الصحية الحرجة ذروتها مؤخرا مع تعرضه لغيبوبة مستمرة ليثير حالة من الجزع في نفوس الكثيرين من محبيه وعارفي فضله الإبداعي، فيما وصفه الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور أبو الفضل بدران "بالقامة الأدبية الكبيرة وأحد رواد الرواية والسرد في مصر والعالم العربي". وصاحب كتاب "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" هو الذي تساءل أيضا في سفر تجلياته: "أي موقف سيبرق من الماضي بينما العتمة تهوي على؟".. وكان مهموما بفكرة الفراق وتأثر كثيرا لرحيل والدته، غير أنه وجد ترياقه في معينه الصوفي الذي شكل نظرته للموت في الحياة الدنيا "كبداية لطريق جديد وسكة مغايرة". أنه "مفهوم الدورات" الصوفي الذي أنتج تجليات ثقافية وفنية متعددة مثل "رقصة المولوية" والدوران الذي يرمز لحركة الكون حول الخالق العظيم والإقرار بوحدانيته وأنها رحلة استعادة الوجوه الحبيبة التي رحلت إلى الله، فيما الذكريات تضمد جرح الفقد وأحزانه حتى اللقاء الموعود. وإذا كانت قصة "الفريسة" التي أصر الكاتب الأسكتلندي الراحل ايان بانكس على استكمالها وهو يحتضر في مواجهته اليائسة لمرض السرطان اللعين هي في حد ذاتها قصة مبدع في لحظة مواجهة مع هذا المرض، فإن كتابات جمال الغيطاني توميء إلى أن الحياة ليست مزرعة موت والوجود ليس بجبال رماد وتلك الأيام ليست أشلاء تذروها الرياح وضواري الأحداث لتكون مجرد عدم. كان جمال الغيطاني يعلم حقيقة مرضه أما ايان بانكس الذي قضي في العاشر من شهر يونيو عام 2013 عن عمر يناهز 59 عاما فلم يعلم في البداية أنه مصاب بالسرطان بل أنه قطع شوطا طويلا في قصة "الفريسة" وهو لا يعرف أنه سيتحول هو ذاته إلى فريسة لمرض لن يرحمه. والمثير للتأمل أن هذه القصة بكل ظروفها المأساوية أنها حظت بإقبال كبير في الغرب، بينما اختار ايان بانكس أن تكون آخر كلماتها على لسان بطل القصة: "فليحاربني السرطان كما يشاء لكنني سأهزمه بقلمي".. إنه ايان بانكس الذي رفض الحرب على العراق ومزق جواز سفره البريطاني احتجاجا على مشاركة بريطانيا في هذه الحرب - وشأنه شأن جمال الغيطاني - عرف بسرعة الكتابة المتقنة حتى أنه كان يكتب رواية كاملة في أقل من ثلاثة أاشهر وكأنه في سباق مع الزمن لإنجاز أكبر قدر ممكن من الإبداعات الجيدة واستكمال صرحه الإبداعي في ذاكرة قرائه. أما قصته الأخيرة التي كانت ظروف كتابتها قصة أخرى في حد ذاتها فقد عمد فيها للسخرية من السرطان الذي حتى لو نجح في أن يكتب اسمه ضمن عداد الموتى فإنه لن ينجح أبدا في أن يغيبه عن هؤلاء الذين أحبوه كما أنه لن ينجح بخسة صفاته كمرض في حجب الشمس أو تفريغ الحياة من معانيها وذاكرتها. نعم كانت اللعبة في الواقع والخيال لهذا القاص والروائي الذي بكته بريطانيا، هي الصراع بين الذاكرة التي ستبقى وبين مرض يعمد لاذلال المبتلى به بطريقة السلب والنهب التي لا تعرف حياء، ولأن المبدع لا يريد أبدا أن يفقد جوهره الإنساني الذي يدخل في صميم ما سيتركه لذاكرة محبيه فإن ايان بانكس يقول عبارة دالة في قصته الأخيرة عن المعركة مع السرطان: "لا اعتزم الدخول في معركة مع الوحوش ليس لشيء إلا لأنني أرفض أن أتحول من إنسان إلى وحش". فالرسالة هنا: كيف تنظر لهاوية سحيقة سقطت فيها رغما عنك دون أن تعني هذه المأساة المروعة سقوط الجوهر الإنساني ذاته، وكيف تعيش ما تبقى لك من لحظات مع وحش غادر دون أن تفقد إيمانك بمعنى الوجود وتسقط في هوة العدمية والاعتقاد الخاطيء بأن كل شيء في هذا العالم محض عبث. والتدوينات الأخيرة لجمال الغيطاني جاءت بروحه المتفلسفة دون تكلف تتسم بسمة أخرى تميز أسلوب الحكي، وهي اللجوء إلى الشذرات للتعبير البليغ المقتضب الذي يلمح ولا يصرح أبدا، وتلك لغة الصوفية في الكتابة وفي الأناشيد أيضا كما يقول الناقد الدكتور سعيد توفيق. ويتابع قائلا:"وذلك نجد الغيطاني يلجأ إلى نصوص لبعض كبار المتصوفة"، لافتا إلى أن أسلوبه الخاص يأتي على نحو يضارع لغة المتصوفة أنفسهم بحيث لا يمكن للقارئ أن يميز بين نصوص الغيطاني ونصوص الصوفية المقتبسة إلا من خلال الإشارة إلى صاحبها التي يضعها الغيطاني أسفل النص". وفيما يرى أن "التصوف أعلى مستويات اللغة" واختار "كتاب الوجود" عنوانا لأحد نصوصه لا يخلو نص من نصوص الغيطاني الكثيفة المقتضبة من أسئلة الوجود بصورة تمزج ما بين الأدب والفلسفة أو على حد قول الناقد الدكتور سعيد توفيق: "إننا نجد أنفسنا إزاء نص أدبي ممتزج بطابع فلسفي صوفي". والروائي جمال الغيطاني "صاحب الابتسامة الوادعة الودودة والهدوء المطمئن والفخر الدائم بأن جذوره تغوص عميقا في حواري منطقة الجمالية" هو ذاته كما يقول الكاتب الصحفي ونقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد أحد أنبه المحررين العسكريين الذين عاشوا حرب السادس من أكتوبر عام 1973 وكتبوا عن أمجادها. ويضيف مكرم محمد أحمد "تنقل الغيطاني بين الأدب والصحافة إلى أن كتب رائعته الزيني بركات التي حددت مكانته روائيا مصريا من طراز فريد يمتلك كل أدوات النجاح والذيوع والانتشار لأنه يملك قدرة سرد مختلفة، يغمس مداد قلمه في واقع مصري قح وتنبع تجلياته الأدبية والصوفية من تراث إنساني عميق". هذا التراث تعرف عليه الغيطاني ليس فقط من خلال الجوار الجغرافي باعتباره من أبناء حي الجمالية، ولكن - كما يوضح الكاتب الصحفي الكبير مكرم محمد أحمد - من خلال دأب الدراسة والبحث والتفتيش المستمر عن الحقيقة مما مكنه من تجاوز أبعاد الجغرافيا إلى عمق التاريخ الحافل بمتناقضات ومفارقات عديدة جعلته يدرك أزمة الإنسان العربي في شوقه الدائم إلى الحرية والتقدم وعجزه عن كسر القيود التي تكبله. وواقع الحال أن جمال الغيطاني أحد أبرز المثقفين المصريين والعرب الذين تحدثوا بألم عن تدمير العمران والاجتماع ومخاطر الفوضى والتقاتل بين المكونات الثقافية والسياسية والاثنية والمذهبية التي يصطنعها أعداء الأمة من أجل "استباحة الأمة العربية". وكان الكاتب الروائي جمال الغيطاني قد توج في شهر يونيو الماضي بأهم جائزة ثقافية مصرية في الآداب، وهي "جائزة النيل" لتكون الجائزة الكبرى قد عرفت طريقها لمبدع جمع ما بين "ثقافة الاتقان" وروح الصوفي وفلسفة المعماري وصبر نساج السجاد دون أن يحول انضباطه عن تحليقه كعصفور طليق في عالم الإبداع. وواقع الحال أن أي جولة متمهلة بعض الشيء في عالم جمال الغيطاني كفيلة بمتع ولذائذ متنوعة ومتعددة، فضلا عن كثير من الدروس والقيم وفي مقدمتها قيمة الإخلاص للكتابة والإخلاص للوطن والشعب كما تحدث سعيد توفيق الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة عن "ومضات الزمن التي تشع وتستبقي المعدوم والمنقضي" في تدوينة جمال الغيطاني التي جاءت بعنوان "نثار المحو"، معربا عن دهشته لتوالي إصدار التدوينات الغيطانية عبر سنوات قليلة. وكان هذا الناقد المصري البارز قد أصدر كتابا بعنوان "عالم الغيطاني.. قراءات في دفاتر التدوين"، مشيرا إلى أنه بعد إصدار هذا الكتاب جاء الغيطاني بمفاجأة جديدة هي "من دفتر الإقامة" التي تحمل السؤال الكبير للكاتب الكبير "كيف أكون هنا وهناك في آن؟!". واعتبر جمال الغيطاني كل صنوف الإبداع تصب في الرواية فهي عنده "فن الفنون"، وجاءت"حكايات هائمة" التي تحمل أسلوبيا رائحة الحكي في ألف ليلة وليلة وعبق خيالها الفاتن لتكون التدوينة الأخيرة لجمال الغيطاني، فيما يتساءل الدكتور سعيد توفيق "من أين يأتي هذا الفيض؟!.. من أي مخزون هذا الذي لا ينضب معينه؟!".. ويمضي في تساؤلاته ليقول: "أم أن أسلوب الغيطاني في الكتابة هو الذي يتيح ويفتح باستمرار أفقا وعالما في الكتابة قابلا للتجدد باستمرار: كتابة الذات ورؤية الذات للعالم"؟. وجمال الغيطاني من أصحاب "سؤال الذاكرة"، الذي يستدعي المكان مضفرا ومجدولا بالزمان وأحداثه، فيما كان قد بدأ منذ عام 1996 مشروعه الروائي "دفاتر التدوين" بإصدار الدفتر الأول "خلسات الكرى"، ثم توالت الدفاتر: "دنا فتدلى" و"رشحات الحمراء" و"نوافذ النوافذ" و"نثار المحو" و"رن" و"دفتر الإقامة"، والتي لم تكن بعيدة عن أسئلة الحياة والموت. دائما سيكون هناك موت ولن تنتهي أبدا سرادقات العزاء.. فهل معنى ذلك أن كل شيء ينتهي مع نهاية سرادق العزاء؟!.. ثمة خلود في قلب المحب وما أكثر المحبين لجمال الغيطاني الذي أحب مصر ليكون قبسا من روحها الخالدة.