ما بين الثقافة والرياضة تتردد أسئلة البحث عن البراءة في العالم المعاصر وتتجلى في كتب وكتابات كما تتبدى على المستطيل الأخضر ومدرجات المشجعين. والبراءة تحولت إلى عناوين لكتب وروايات لعل أشهرها رواية للكاتب الروائي الأمريكي دين كونتز الذي تتميز رواياته بمسحة غموض مشوق وغالبا ماتشق طريقها لقوائم أعلى مبيعات الكتب فيما تتناول روايته "براءة" قضية العزلة عن مجتمع حافل بالشرور فيما اختار رجل وامرأة التنائي عن هذا المجتمع لتربط بينهما الوحدة والمآساة. وإذا كان الراحل المصري العظيم الفنان أحمد زكي قد أبدع في فيلم "البريء" فإن الأمريكي سكوت تورو ابدع قصة بعنوان "البريء المفترض" اعتبرها نقاد في الغرب "قصة مذهلة تكشف عن عالم من الخيانة والقتل والفساد وتوغل في اعماق القلب الإنساني الجريح" فيما تحولت هذه الرواية إلى فيلم هوليوودي من بطولة هاريسون فورد. أما الروائي النوبلي التركي اورهان باموق فقد ابدع رواية "متحف البراءة" التي تستعيد قصة الحب الضائع بين "كمال" وحبيبته "فوسون" فيما يمكن وصف هذه الرواية بأنها رحلة بحث عن "البراءة الضائعة في اسطنبول". ومن منظور ثقافي فان بعض الكتابات التي تنعي غياب البراءة أو تغييبها عن عالم اليوم إنما تبحث عن سبيل لتبديد "أجواء ضلال تهيمن على العالم المعاصر وتكاد تفتك بالروح الإنسانية" غير أنه من الأهمية بمكان تفادي "شراك البراءة المدعاة" وكل مايحجب الرؤية عن "أبواب البراءة الأصيلة" حتى يتحقق حلم الشاعر التركي الراحل ناظم حكمت عندما قال لزوجته من وراء قضبان السجن:"فندرك الكون كما لو كنا نقرأ في كتاب ونميد به كما بأغنية حب". والبحث عن البراءة مطروح بقوة في عالم الرياضة كما لاحظت "مجلة الأهلي" في عددها الشهري الأخير لتطرح تساؤلات مثل:"هل أن سنوات السبعينيات في القرن العشرين بالفعل عصر الكرة البريئة والحقبة الذهبية للساحرة المستديرة وهل انتهت البراءة الكروية للأبد بنهاية السبعينيات ؟!. أسئلة مجلة الأهلي مطروحة في مصر والشرق كما هي مطروحة في الغرب !..في مصر هي سنوات محمود الخطيب "بيبو" وعبد العزيز عبد الشافي "زيزو" وإبراهيم عبد الصمد وحسن حمدي وحسن شحاتة وفاروق جعفر وعلي أبو جريشة والقائمة طويلة والأسماء كثيرة هنا وهناك على امتداد الأرض المصرية الطيبة. هذه الحقبة لم تجد بعد في مصر مايكفي من الكتب ذات المستوى الرفيع للاجابة على سؤال كهذا.. أما في الغرب فهذا الكتاب الجديد يسعى للاجابة على هذا السؤال وغيره من الأسئلة التي يبحث عشاق كرة القدم عن إجابات لها. والكتاب الذي صدر بعنوان "عصر براءة كرة القدم في سنوات السبعينيات" لمحرره ريويل جولدن يتضمن طروحات لكتاب ونقاد رياضيين لهم شهرتهم في الغرب مثل روب هيوز ودافيد جولد بلات وبريان جلانفيل ويؤكد أن كرة القدم كلعبة بريئة في أصلها تقترن دوما بالبهجة وتثير مداعبات إنسانية لطيفة. وإذا كان الأسطورة الكروية الخالدة "بيليه" الذي قاد منتخب البرازيل للفوز بمونديال المكسيك في فاتحة سبعينيات القرن العشرين ينسب له مصطلح "اللعبة الجميلة" فهذا الكتاب يؤكد أن كرة القدم بلغت في سنوات السبعينيات ذروة الجمال وباتت حينئذ بالفعل مرادفة للبهجة في شتى أنحاء العالم وبين 4 أركان المعمورة بفضل فرق موهوبة بصورة غير عادية ولاعبين من أصحاب الكاريزما التي يدخلون بها قلوب البشر في كل مكان. وتناول الكتاب حقبة هامة للغاية في تاريخ الساحرة المستديرة ويبحث قضايا وظواهر عديدة وطريفة أحيانا مثل تأثير كرة القدم على الموضة وعالم الأزياء والسيارات وحتى الصداقات والتعارف بين الجنسين ناهيك عن ظاهرة "الهوليجانز وشغب الملاعب" التي تنال من اللعبة الجميلة ومشاعر البهجة أن لم تكن النشوة !. والكتاب الذي يتحدث عن التأثير العالمي والثقافي لكرة القدم كان له أن يثير اهتمام مثقفين بارزين في الغرب وهذا الاهتمام قد يثير نوعا من التساؤل عن علاقة المثقف بكرة القدم !..واقع الحال أن العلاقة بين المثقفين وكرة القدم تثير العديد من التساؤلات ولاتخلو من طرائف كما هو الحال في بوح كاتب ومثقف بريطاني كبير عن أسرار شبابه المبكر وهو يعلق على هذا الكتاب الجديد !. فخلافا لصورة المثقف المطبوعة في بعض الأذهان كشخص يتلفع بأسراره ويحتمى بعزلته بعيدا عن الصخب فان العديد من المثقفين سواء في مصر والعالم العربى أو في العالم ككل هم من عشاق الساحرة المستديرة.. وتعيد الظاهرة للأذهان اسماء لامعة لمثقفين في حجم وقامة اديب نوبل الراحل نجيب محفوظ الذي برع في صباه كلاعب كرة ولم يقطع جسور الود والحنين للساحرة المستديرة بعد أن ذاعت شهرته ككاتب واديب لايبارى في تعبيره عن الوجدان المصرى. ومن هنا لن يكون من الغريب –كما تقول مجلة الأهلي في عددها الشهري الأخير-أن يثير الكتاب الجديد عن كرة القدم في السبعينيات شجن وذكريات مثقف بريطاني كبير مثل الكاتب المتعدد الاهتمامات ايد فوليامي الذي يعد من كبار الصحفيين في جريدة الأوبزرفر البريطانية وعمل كمراسل لهذه الصحيفة لمدة 6 سنوات في الولاياتالمتحدة وغطى من قبل أحداثا كبرى وحروبا من بينها حرب البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن العشرين. ومحرر الكتاب ريويل جولدن درس السياسة في جامعة ساسكس البريطانية وله عدة كتب من بينها كتاب عن "البيتلز" كما أنه صاحب اهتمامات عميقة بعالم الصورة الصحفية اما ايد فوليامي الذي يكتب في السياسة. كما أنه صاحب طروحات ثقافية عميقة فيبوح في سياق تناوله لهذا الكتاب بقصة حب للساحرة المستديرة وعلاقته باللعبة الجميلة على المستطيل الأخضر منذ أيام الصبا والشباب المبكر وحرصه على مشاهدة مباريات كأس الاتحاد الانجليزي لكرة القدم وحتى مايصفه "بموت البراءة في هيسيل" أو كارثة ملعب هيسيل البلجيكي يوم التاسع والعشرين من شهر مايو عام 1985 عندما قضى 39 مشجعا أثناء مباراة نهائي أبطال أوربا بين فريقي ليفربول الانجليزي ويوفنتوس الإيطالي. في هذه الكارثة التي وقعت بسبب تدافع المشجعين وسقوط أجزاء من المدرجات قبل ساعة من بدء مباراة ليفربول ويوفنتوس وكان أغلب ضحاياها من الايطاليين يتحمل الاتحاد الأوربي لكرة القدم جانبا كبيرا من المسئولية بسبب سوء التنظيم فيما وصفت الكارثة "بأسوأ ساعة في تاريخ الكرة الأوربية". وفريق ليفربول الذي يشجعه فوليامي علامة من علامات الكرة الجميلة في عصر البراءة كما جاء في هذا الكتاب الذي يرى مؤلفه ريويل جولدن أنه تضمن علامات لن تنسى في تاريخ الساحرة المستديرة تتمثل في فرق اياكس الهولندي وبايرن ميونيخ الألماني ونيويورك كوزموس الأمريكي. وثمة مشاهد طريفة في الكتاب حافل بالصور ومن بينها صورة دالة لكيفن كيجان مهاجم ليفربول في سبعينيات القرن العشرين مع زوجته جين..ووسط هذه المشاهد يستدعي ايد فوليامي مشهده الخاص، حيث أن هناك عشرات المشجعين من أصحاب الجيوب الخاوية وهم يتسلقون الأسوار برغبة عارمة لمشاهدة نجم ليفربول جون توشاك ويهللون له وهو يعطي "علقة كروية للكوكني" أو ابناء البلد في لندن !. الحقيقة أن ايد فوليامي أحد الذين اقدموا على "التزويغ" ودخول الملاعب دون تذكرة في شبابه المبكر عندما كان الجيب خاويا من جنس المال وصنف العملة !..وهاهو يسرد مخزونه من هذه الذكريات الطريفة وكأنه يصنع كتابه على هامش كتاب يقرأه عن عصر براءة كرة القدم في سنوات السبعينيات ويقر بأنه كان "وغدا من الأوغاد الصغار الذين يشاهدون المباريات دون تذاكر"!..واليوم فإنها يعترف بأن مافعله كان يشكل جريمة !!. ربما كان العزاء الوحيد لايد فوليامي عندما كان يدخل استاد ويمبلي خلسة أو قفزا فوق الأسوار بمهارة متسلقي الجبال قلة المال مع كثير من الولع الكروي في شبابه المبكر ثم أنه لقي جزاءه عندما هوى ذات مرة من حالق في قبضة شرطي بينما يقول عن رفيقه الوغد الذي شاركه في هذه الجريمة أنه بدا مثل "فص ملح وذاب وسط الجماهير الغفيرة" ليتركه مع الشرطي الذي ساقه بقبضته القوية لقسم الشرطة في "هارو رود" وكانت عقوبته الحقيقية أنه حرم من مشاهدة المباراة لفريق ليفربول الذي ورث حبه وتشجيعه ابا عن جد !. هذا الكاتب الصحفي المعروف بعمقه الثقافي في بريطانيا والغرب كان مغرما بنجوم ليفربول السبعينيات ويستعيد بشجن وحنين صور لاعبين مثل ستيفي هايواي ومنح جزءا من عواطفه لفريق كوينز بارك رينجرز ولاعبه العظيم دون جيفنز بحكم الجيرة في منطقة نوتينج هيل!. ومع أنه كان يحمل هذه المرة تذكرة دخول لاستاد هيسيل البلجيكي لمشاهدة مباراة نهائي أبطال أوربا بين فريقي ليفربول الانجليزي ويوفنتوس الإيطالي ولم يتسلق سور الاستاد كما كان يفعل في بلاده ايام الصبا والشباب المبكر فان ايد فوليامي يرى أن الكارثة التي وقعت في هذه المباراة عام 1985 تشكل النهاية الفعلية لعصر البراءة الكروية وهي البراءة التي لم يبق منها أثر في نظره بعد كارثة أخرى حدثت عام 1989 وهي "كارثة ملعب هيلسبورج" عندما قضى نحو 96 شخصا جراء تدافع أثناء مباراة ليفربول ونوتينجهام فورست. و توقف المثقف البريطاني الكبير بعد كارثة هيلسبورج عن مشاهدة أية مباراة لكرة القدم في الملعب وإن كان مازال يتابع مباريات الدوري الانجليزي الممتاز "البريمير ليج" عبر شاشات التليفزيون فيما لايخفي مرارته من رعاية بنك تجاري لهذا الدوري لأن النزعة التجارية المتصاعدة في عالم الساحرة المستديرة تجرح براءة كرة القدم من وجهة نظره. من نافلة القول أن كاتبا كهذا لن يعدم الحجج التي تعزز وجهة نظره وهاهو ييمم وجهه شطر الكرة الألمانية التي يرى أنها تسيدت العالم وتوجت بمونديال 2014 في البرازيل لأنها أكثر وفاء لقيم البراءة وأقل خضوعا لغواية النزعة التجارية مقارنة بالكرة الانجليزية مع اهتمام بتفعيل مباديء مثل الرياضة للجميع والتدريب المفتوح وضمان أن تكون أسعار تذاكر المباريات في متناول أي مشجع وتبني فكرة "النوادي من المجتمع وفي خدمة المجتمع". إن الثقافة الرياضية الألمانية المتصلة على نحو أو آخر بقيم البراءة أفرزت فريقا فاز بكأس العالم لكرة القدم عام 2014 بينما ينعي ايد فوليامي وغيره من المثقفين الانجليز ممن وقعوا في هوى الساحرة المستديرة "النزعة التجارية التوربينية النفاثة لكرة القدم في بريطانيا مما افضى لسوء نتائجها رغم مايتقاضاه لاعبو منتخب انجلترا مثلا من رواتب فلكية". وعصر البراءة الكروية-كما تلاحظ مجلة الأهلي- يصنعه اللاعبون قبل أي شيء آخر وهذا ماكان في سبعينيات القرن العشرين كما يستعيد ايد فوليامي ضاربا المثل بمنتخب البرازيل فيما يؤكد على أن "مفهوم النجومية" اختلف بشدة بين زمن مضى في السبعينيات وزمن نعيشه اليوم أمسى فيه لاعب الكرة يتصرف كممثلي السينما وهو مفهوم يجافي عصر البراءة الكروية. ومن هنا ينحاز هذا الكاتب المثقف بقوة الحنين لعصر البراءة إلى لاعبي البرازيل في سبعينيات القرن العشرين على حساب لاعبي هذا المنتخب الذي كتب صفحة حزينة للكرة البرازيلية في المونديال الأخير..مشاعره كلها مع نجوم السامبا في السبعينيات مثل جيرزينهو وتوستاو وسقراط كفنانين حقيقيين في محراب الساحرة المستديرة وأضافوا جمالا للعبة الجميلة خلافا لما يصفه باللاعبين المليونيرات في منتخب البرازيل أثناء مونديال 2014 والذين شكلوا صفحة بائسة في تاريخ كرة السامبا البرازيلية. وسواء في الثقافة أوالرياضة تبقى مقولة ناظم حكمت دالة أبدا على الأمل والتمسك بأهداب البراءة:"أن أجمل البحار هي تلك التي لم نذهب إليها بعد..واجمل الأطفال من لم يكبر بعد..وأجمل أيامنا لم نعشها بعد".