هذا الكتاب هو حصيلة بحوث أجراها الباحث السويسري باتريك هايني، على مدي عشر سنوات ويزيد من خلال المناقشات الفكرية التي خاضها، حيث ألقى الضوء على تحولات نوعية حدثت في سيرة التدين خلال العقود الماضية.. ميزة الكتاب أنه يدافع عن هذه الأطروحة بعدد وافر من الأمثلة من بلدان إسلامية متنوعة، من إندونيسيا لمصر لتركيا للمسلمين في أوربا والولايات المتحدةالأمريكية. يقول «هايني»، إن الجيل الجديد قرر الانصراف عن الأطروحات الصلبة للتنظيمات، وظهر نوع جديد من الدعاة يروج لمفاهيم الإدارة الحديثة والتركيز على الفرد بدلًا من تسويق مفاهيم كبري كالنهضة والخلافة، فهو يري أن الظاهرة الإسلامية ابتلعها السوق وأصابتها العلمنة. ويرصد «هايني»، تحول الدعوة إلى مشهد على شاشة الفضائيات، وسلع تباع في فيديوهات لبرامج تليفزيونية، ويقول: «هي لا تتم مجانًا بل هناك حركة رأسمال». في هذا الفضاء ثروات تتراكم ونجوم تُصنع وتُسوق لصالح هذا النموذج من «إسلام السوق»، فالظاهرة الإسلامية خلقت مستهلكين استفاد منهم السوق وبعض المستفيدين من أبناء الحركة الإسلامية أنفسهم. ولو تأملنا كمثال، ملف المدارس الإسلامية التي باتت موجة تسويقية واسعة منذ «مدرسة الكمال» التي تأسست في الثمانينيات وصولا لمدارس إسلامية تقدم مختلف أنواع شهادات التعليم الأجنبي للطبقة الأرستقراطية الجديدة التي تستهلك هذا المنتج طالما كانت المعلمات محجبات من خريجات الجامعات الأجنبية أو المعتنقات حديثا للإسلام من بلاد الغرب. وينطبق نفس الأمر على الحجاب، فكيف تحولت فلسفته من لباس يعكس التواضع والبساطة والحشمة، ويخفي بدرجة كبيرة الفوارق الطبقية بين النساء لصالح رؤية عدالة اجتماعية واسعة؟ في مقدمة الطبعة العربية للكتاب رصد «هايني» دفع الربيع العربي «الإخوان المسلمين» من مساحة العمل المجتمعية إلى السعر المركز للحصول على السلطة والهيمنة، وانتقل بالسلفيين من رفض المشاركة السياسية إلى الانخراط في الفضاء الديمقراطي الجديد الذي أخرجهم من ضيق التشدد المذهبي الذي عُرفوا به إلى سعة البراجماتية، مع توسع الظاهرة الجهادية. وعلي مستوى ظواهر المجال الديني، فإن الربيع العربي لا يشكل فقط لحظة انقطاع، بل يؤكد التوجهات الجديدة التي سبقته، فالإخوان فعلا ليبراليون اقتصاديا، ونموذج المؤسسة استقر في عالم النضالية، وتراجع نموذج التنظيمات النضالية الكبيرة لصالح شركات بلا رأس أو قيادة. وتأكد بعد عامين من بدء غليان الاحتجاجات في العالم العربي عدة أمور، منها قدرة المجتمعات العربية على التفاعل مع حركتي الأسلمة والعولمة في الوقت ذاته وعجز الإسلام السياسي عن طرح بديل فعلي، ففي تركيا كما في تونس يدين نموذج الإسلام السياسي ببقائه إلى مزجه بين الاندماج في المؤسسات القائمة، وبين الليبرالية الاقتصادية ونزعة محافظة اجتماعيا، وسيطرة النظام العسكري في بلدان أخرى، مع غياب واضح لأي أيديولوجية بديلة. «إسلام السوق» ليس حركة مؤسسة على حزب أو تنظيم ولا تيارًا أيديولوجيًا كالفلسفة وسياسيًا كالإسلام السياسي، ولا يمثل مدرسة في الفكر الديني، إنما هو في الواقع حالة أو توجه قادر على التوطن والتأثير في كل حقائق الإسلام المعاصر، وهذا التوجه يمكن أن يتجلى في بعض أنماط الحياة وأشكال معينة من الدعوة وحركة فكرية جديدة.