30 صورة من العرض التاريخي لملابس البحر ب "أمهات" السعودية    وزير التعليم يلتقي الرئيس التنفيذي للمجلس الثقافي البريطاني    زراعة الإسماعيلية تنظم ندوة عن دعم المُزارع (صور)    صراع الكبار على المنصب الرفيع، تفاصيل معركة ال 50 يوما فى إيران بعد مصرع الرئيس    اجتماع عاجل لاتحاد الكرة غدًا لمناقشة ملفات هامة    محمد صلاح ضمن المرشحين للتشكيل المثالي في الدوري الإنجليزي    تفاصيل معاينة النيابة لمسرح حادث غرق معدية أبو غالب    الشعلة الأولمبية على سلالم مهرجان كان السينمائي (صور)    عليه ديون فهل تقبل منه الأضحية؟.. أمين الفتوى يجيب    اعرف قبل الحج.. ما حكم نفقة حج الزوجة والحج عن الميت من التركة؟    دراسة علمية حديثة تكشف سبب البلوغ المبكر    الشاي في الرجيم- 4 أعشاب تجعله مشروبًا حارقًا للدهون    رئيس البرلمان العربي يشيد بتجربة الأردن في التعليم    الأمن العام يكشف غموض بيع 23 سيارة و6 مقطورات ب «أوراق مزورة»    البحوث الفلكية: الأحد 16 يونيو أول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    قرار جديد ضد سائق لاتهامه بالتحرش بطالب في أكتوبر    حزب الله يشدد على عدم التفاوض إلا بعد وقف العدوان على غزة    «رفعت» و«الحصري».. تعرف على قراء التلاوات المجودة بإذاعة القرآن الكريم غدا    مدير مكتبة الإسكندرية: لقاؤنا مع الرئيس السيسي اهتم بمجريات قضية فلسطين    محمد عبد الحافظ ناصف نائبا للهيئة العامة لقصور الثقافة    كيت بلانشيت ترتدي فستان بألوان علم فلسطين في مهرجان كان.. والجمهور يعلق    مصر تدين محاولة الانقلاب في الكونغو الديمقراطية    تكنولوجيا رجال الأعمال تبحث تنمية الصناعة لتحقيق مستهدف الناتج القومي 2030    أستاذ بالأزهر: الحر الشديد من تنفيس جهنم على الدنيا    خصومات تصل حتى 65% على المكيفات.. عروض خاصة نون السعودية    "هُدد بالإقالة مرتين وقد يصل إلى الحلم".. أرتيتا صانع انتفاضة أرسنال    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد سير العمل والخدمات الطبية بمستشفى الحسينية    «منقذ دونجا».. الزمالك يقترب من التعاقد مع ياسين البحيري    وزيرة الهجرة: نحرص على تعريف الراغبين في السفر بقوانين الدولة المغادر إليها    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    ريال مدريد ضد بوروسيا دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا.. الموعد والقنوات الناقلة    زراعة النواب تقرر استدعاء وزير الأوقاف لحسم إجراءات تقنين أوضاع الأهالي    وزارة العمل: افتتاح مقر منطقة عمل الساحل بعد تطويرها لتقديم خدماتها للمواطنين    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    أفضل نظام غذائى للأطفال فى موجة الحر.. أطعمة ممنوعة    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    الخميس المقبل.. فصل التيار الكهربائي عن عدة مناطق في الغردقة للصيانة    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    عمر العرجون: أحمد حمدي أفضل لاعب في الزمالك.. وأندية مصرية كبرى فاوضتني    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: مصر المكون الرئيسي الذي يحفظ أمن المنطقة العربية    انتظار مليء بالروحانية: قدوم عيد الأضحى 2024 وتساؤلات المواطنين حول الموعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البنا..المراوغ السياسي..وصانع الميليشيات (1939 : 1945)
نشر في البوابة يوم 12 - 02 - 2013


القسم الثالث
الحرب العالمية الثانية: موقف الاخوان من الأنجليز
يتسم موقف الإخوان المسلمين من الحرب العالمية الثانية بالدقة والحذر والوعى السياسي، فقد أعلنوا فى المذكرة التى رفعوها إلى حكومة على ماهر، أكتوبر 1939، أنهم لا يؤيدون معاهدة سنه 1936، وما تفرضه على مصر من التزامات، وطالبوا رئيس الوزراء بأن تقتصر إجراءات حكومته على تأمين الحدود المصرية، وعدم التورط فى ممارسات تقود البلاد إلى المشاركة الفعلية فى الصراع .
ويمكن ترجمة هذا الموقف، باللغة السياسية السائدة فى تلك المرحلة، أنه تعبير عن نظرية تجنيب مصر ويلات الحرب، وهو ما يترجمه حسن البنا فى دعوته إلى الحياد والاستعداد، وليس أفضل من هذا الموقف – كما يقول البنا – لأننا مجبرون عليه.
وفى كثير من المصادر الإخوانية والانجليزية والمحايدة، ما يؤكد أن السفارة البريطانية، فى أغسطس 1940، عرضت على جماعة الإخوان مبلغ عشرين ألف جنيه مقابل الدعاية ضد المحور، وجاء هذا العرض فى اجتماع ضم الجنرال كلايتون والمستشرق هيورت، ممثلين للجانب الانجليزى، وأحمد السكرى مندوباً عن الإخوان .
اعتمد المنطق الانجليزى على ان وقوف جماعة الإخوان ضد المحور يتوافق مع التعاليم الإسلامية، التى تقترب من الديمقراطية بقدر تنافرها مع النازية والفاشية.
وإذا كان مؤرخو الإخوان يجدون فى رفض البنا للعرض الانجليزى دليلاً على استقلاليته ونزاهته، فإن خصوم الإخوان يتساءلون بدورهم عن السر فى قبول البنا لتبرع شركة قناة السويس، عند بداية تأسيس الحركة، وعن الفارق بين التبرعين!.
الأقرب إلى الدقة والانصاف أن رفض عرض السفارة كان لأسباب سياسية، فالرأى العام المصرى معبأ ضد الانجليز ومشحون بكراهيتهم، والإخوان أنفسهم لا يرون أن الفكر الديمقراطى أقرب إلى الإسلام من الفاشية والنازية، بل إن حماسهم لهذه الأفكار يبدو واضحاً مقارنة بموقفهم السلبى من الديمقراطية.
وعلى الرغم من رفض البنا والإخوان للتعاون المباشر الصريح مع الإنجليز، وما ترتب على ذلك من اعتقال البنا لفترة قصيرة وإبعاده عن القاهرة، فإن المؤتمر السادس للإخوان، فى يناير 1941، حاول توجيه رسالة تهدئة للانجليز، مع الإيحاء بأن الإخوان يتبنون المسلك الديمقراطى ويبتعدون عن التطرف الذى لا تخفيه جماعات أخرى مثل الحزب الوطنى وحركة مصر الفتاة.
أكد المؤتمر أن الإخوان لا يؤمنون بالعمل الانقلابى العنيف، وأن الوسيلة الأساسية لنشر الدعوة هى الإقناع والعمل السلمى، وأن التغيير الذى ينشدونه يعتمد على الطرق البرلمانية الدستورية. ويتجلى ذلك بوضوح فى اتخاذ المؤتمر لقرار اشتراك الجماعة فى أول انتخابات نيابية قادمة.
لقد حاول المؤتمر أن يضفى على الجماعة سمة الحزب الديمقراطى المؤمن بالنظام البرلمانى، وفى الوقت نفسه نشط حسن البنا فى تشكيل فرق الجوالة الإخوانية، وقد بلغ عدد أفراد هذه الفرق حوالى 2000 عضو عند انعقاد المؤتمر السادس، فضلاً عن التوسع فى الشعب االإخوانية التى وصل عددها، فى التاريخ نفسه، إلى 500 شعبة.
فى أول سبتمبر 1939، اشتعلت الحرب العالمية الثانية، بعد أن اجتاحت الجيوش الألمانية حدود بولندا – أعلنت انجلترا وفرنسا الحرب، أثر رفض الألمان لسحب قواتهم من الأراضى البولندية.
كان هدف السياسة البريطانية فى مصر أن تخلو الأوضاع من القلاقل التى تسبب المتاعب لقوات الحلفاء، وأن تحول دون تحرك الاتجاهات الموالية للمحور لمناصرة ألمانيا وإيطاليا.
بناء على طلب السفارة الإنجليزية، بادرت حكومة على ماهر باعلان الحكام العرفية، وتم تعيين على ماهر حاكما عسكريا، وفُرضت الرقابة على الصحف والمجلات والمراسلات.
لم يكن على ماهر، الذى تولى رئاسة الوزارة فى الثانى عشر من أغسطس 1939 بعد استقالة وزارة محمد محمود، يحظى بثقة الإنجليز الكاملة. وعلى الرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر وألمانيا، فقد تم تعيين الفريق عزيز المصرى رئيساً لأركان حرب الجيش المصرى، وهو المعروف بعدائه للانجليز وتعاطفه مع الألمان، كما أصبح صالح باشا حرب وزيراً للحربية، فسعى منذ اليوم الأول لإقامة العراقيل فى وجه التعاون العسكرى بين مصر وبريطانيا، وبادر بإنشاء جيش مرابط، أوكل قيادته إلى وزير الأوقاف عبد الرحمن باشا عزام، الذى كان يبث الحماس الوطنى فى نفوس الضباط. وقد روى الجنرال ولسون، قائد القزات البريطانية فى مصر، أن عزيز المصرى أشاد بالعسكرية الألمانية أمام الضباط المصريين، وقلل من شأن القوات البريطانية. وفى الوقت نفسه، لم يستمر التعاون بين البعثة العسكرية البريطانية وبين القيادة المصرية بصورة مرضية، مما أدى إلى نشوب كثير من المصادمات.
وما لبثت ألمانيا أن أحرزت انتصارات مدوية على الحلفاء، وهو ما دفع بعض الأوساط البرلمانية المصرية إلى المفنداة باتباع سياسة حيادية، والعمل على استغلال الصعوبات التى تواجهها بريطانيا لتعديل معاهدة 1936. وقد أدى ذلك كله إلى تحول فى اتجاهات الرأى العام نحو مزيد من العداء للانجليز من ناحية، والمزيد من التعاطف مع دول المحور من ناحية أخرى. وازداد قلق السفارة البريطانية لشعورها بتشجيع الحكومة والسراى للاتجاهات المناوئة لها، وهو ما دفعها إلى ممارسة المزيد من الضغوط على رئيس الوزراء، فمنح عزيز المصرى أجازة طويلة ثم أحاله إلى الاستيداع. وظلت العلاقة متوترة بين على ماهر والسلطات البريطانية، حتى انفجرت الأزمة فى يونيو 1940، بدخول إيطاليا إلى ساحة الحرب.
اكتفى على ماهر بأن يطرح للتصويت أمام البرلمان موضوع قطع العلاقات مع إيطاليا، وقرر البرلمان المصرى، بناء على اقتراح على ماهر، أن مصر لن تشارك فى الحرب إلا إذا بادرت إيطاليا بغزو الأراضى المصرية، أو إذا تعرضت المدن المصرية لقصف جوى إيطالى، أو أغارت القوات الإيطالية على أهداف عسكرية مصرية. وقد فسرت الدوائر البريطانية سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب، التى اتبعها على ماهر، بأنها انحياز ضمنى إلى جانب ألمانيا وإيطاليا، بل إن تعاطفه مع المحور، الذى قيل إن كل حاشية الملك كانت تشاركه فيه، كان موضعا لهمسات ملحة فى دوائر الحلفاء، فى الوقت الذى تمكنت فيه جهود الدبلوماسية الفاشية من أن تكسب إلى جانبها، ليس فقط على ماهر، بل والملك فاروق نفسه، وقطاعات واسعة من الرأى العام، ومعظم الأحزاب السياسية، باستثناء الهيئة السعدية التى يتزعمها السياسيان البارزان أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى.
وهكذا، قاومت حكومة على ماهر، بتأييد من السراى والرأى العام، كل ضغوط السفارة البريطانية الداعية إلى مزيد من التعاون والتنسيق، وتلقت القوات المصرية المرابطة فى الغرب أوامر بعدم إطلاق النار على الجنود الايطاليين، وطلبت السفارة إلغاء هذا الأمر، الذى أصبح مثاراً لخلاف عميق بين الجانبين، وسرعان ما ازدادت خطورته فى الوقت الذى كان فيه على ماهر يريد إعلان القاهرة مدينة مفتوحة وخالية من القوات البريطانية.
بفعل هذا كله، ازدادت الضغوط البريطانية، وتوترت العلاقة بين الوزارة والسفارة إلى حد خطير، وانتهى الأمر بسقوط وزارة على ماهر فى يونيو 1940.
الصراع السياسي والحزبي:
فى الثالث والعشرين فى يونيو 1940، سقطت حكومة على ماهر نتيجة الضغط البريطانى، واتهامها الصريح بالانحياز إلى المحور. كلف الملك حسن صبرى باشا بتشكيل حكومة جديدة، لكنها لم تستمر إلا أقل من ثلاثة شهور، بعد وفاة رئيسها وهو يلقى خطاب العرش. وخلال هذه الشهور، حرصت الحكومة على اتباع سياسة الحكومة القديمة التى تعمل وفق نظرية تجنيب مصر ويلات الحرب، وتشكلت وزارة جديدة برئاسة حسين سرى باشا، تعاون فيها مع الأحرار الدستوريين واستبعد الهيئة السعدية، وقد استمرت هذه الوزارة حتى حادث 4 فبراير 1942، وفشلت فى طمأنة مخاوف البريطانيين، بقدر فشلها فى مواجهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التى ازدادت تفاقما.
فى مايو 1941، أندلعت حركة رشيد عالى الكيلانى القومية ضد الإنجليز فى العراق، وشارك مصطفى الوكيل، نائب رئيس حركة مصر الفتاة، الذى كان موجودا فى بغداد، فى نشاط الحركة التى أقلقت الإنجليز، الذين ربطوا بينها وبين تصاعد العداء لهم فى الشارع المصرى.
وفى هذا الإطار، طلب السير مايلز لامبسون، السفير الانجليزى فى مصر، من حكومة حسين باشا سرى، أن تتدخل للحد من أنشطة المعادين للحلفاء، وكان حسن البنا من هؤلاء الأعداء المتهمين بالعمل لحساب إيطاليا.
استجاب حسين سرى للضغوط الانجليزية، وتقرر نقل البنا إلى مدرسة فى قنا بصعيد مصر، كما نقل وكيل الجماعة أحمد السكرى إلى قرية نائية فى الوجه البحرى، كما قررت الحكومة إيقاف صحف الجماعة ومجلاتها، وأصدرت أوامرها بمنع نشر أى أخيار عنها فى الصحف الأخرى.
لكن الصراع السياسى الحزبى صب فى مصلحة البنا والإخوان، دون غيرهم من ضحايا حكومة سرى، فقد تكفل نواب الوفد فى البرلمان باستثمار ما حدث للبنا والسكرى من أجل إحراج الحكومة والتشهير بها، وتقدموا بملف كامل يبرهن على أن نقل البنا لم يكن لإهماله فى القيام بواجباته كمعلم، لكنه كان عقابا سياسيا، وشارك الأحرار الدستوريون، وهم حلفاء حسين سرى فى الحكومة، فى حملة الضغط، وهو ما ادى إلى رضوخ رئيس الوزراء سرى، ووزير المعارف الدكتور محمد حسين هيكل، فتم إلغاء القرار بنقل البنا وعاد المرشد إلى القاهرة.
ولكى تكتمل ملامح الخريطة، لابد من الإشارة إلى أن الحملة الانجليزية لم تستهدف البنا والإخوان فحسب، ذلك أنها امتدت إلى كل من يمكن تصنيفهم فى خانة العداء للانجليز، وهنا تظهر أسماء بارزة مثل السياسى المعروف على باشا ماهر، رجل الملك القوى، وعبد الرحمن باشا عزام، قائد الجيش المرابط، والفريق عزيز المصرى، رئيس أركان الجيش المصرى الذى أحيل إلى التقاعد. المشترك بين هؤلاء جميعاً هو العداء للانجليز، والتعاطف مع دول المحور، والولاء للملك.
لقد تدهورت الأوضاع العسكرية للانجليز على جبهات القتال، وأشارت التقارير البريطانية إلى وجود تحالف معارض يؤلب الرأى العام المصرى، ويضم مصر الفتاة والإخوان المسلمين والحزب الوطنى والفريق عزيز المصرى، وترددت أنباء عن اتصال بعض الضباط بعزيز المصرى، عن طريق حسن البنا، وأنهم شرعوا فى تخزين الأسلحة بشكل سرى.
كانت هذه الاتصالات هى البداية الحقيقية لإيجاد صلة بين الإخوان وبعض ضباط الجيش، وكان هذا المناخ هو الذى هيأ لتدخل انجليزى حاسم للحيولة دون المزيد من تدهور الأوضاع، وكان حادث الرابع من فبراير سنه 1942.
فى مطلع العام 1942، كانت الأوضاع تزداد تدهورا بالنسبة للانجليز، وأدت المظاهرات الطلابية الساخطة فى أول فبراير إلى استقالة وزارة حسين سرى.
بعد قبول الملك لاستقالة الوزارة، قام السفير البريطانى السير مايلز لاميسون بزيارة للملك فاروق، وطلب منه دعوة زعيم الوفد مصطفى النحاس لتشكيل الوزارة، ووعد الملك بعقد مؤتمر لزعماء الأحزاب بهدف تشكيل حكومة ائتلافية.
كان الانجليز راغبين فى وجود حكومة شعبية قوية قادرة على الالتزام بما جاء فى معاهدة 1936، من التزامات، وكان الملك راغبا فى المناورة ورافضا لقيام حكومة وفدية خالصة، وحاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين فى الرابع من فبراير لتفرض على الملك أن يقبل الانذار ويشكل الحكومة الوفدية، أو يتنازل عن العرش.
لم يجد فاروق بدا من قبول الانذار، وكلف النحاس بتشكيل الحكومة، التى استمرت إلى قرب نهاية الحرب، بعد أن أدت الأهداف التى يريدها الإنجليز، وأهم هذه الأهداف هو الحفاظ على استقرار الجبهة الداخلية، ومقاومة المؤامرات التى تُدبر ضد المجهود الحربى الانجليزى.
البنا والحكومة الوفدية:
كان القرار الأول لوزارة النحاس، فى السابع من فبراير، هو حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. وقرر الإخوان، تنفيذا لقرارات مؤتمرهم السادس فى يناير 1941، أن يخوضوا المعركة الانتخابية، واعلن البنا عن ترشيح نفسه فى دائرة الإسماعيلية.
عارض النحاس ترشيح البنا، وأثمر اللقاء بينهما عن إبرام صفقة تقضى بانسحاب البنا من الترشيح، مقابل تعهد الوفد بالسماح للجماعة أن تقوم بانشطتها فى حرية، كما اتخذت الحكومة بعض القرارات التى تتوافق مع دعوة الإخوان، مثل تقييد بيع المشروبات الروحية فى أوقات معينة يوميا وخلال شهر رمضان والأعياد، كما تم إغلاق بعض بيوت الدعارة والحد من نشاطها.
وفى سياق رغبة النحاس فى تحقيق المصالحة مع القوى المعارضة لحكومته، أطلق سراح كثير من الرموز الوطنية المعارضة للانجليز، مثل عزيز المصرى وحسين ذو الفقار صبرى وعبد المنعم عبد الرءوف، فضلاً عن الإفراج عن المجاهد الفلسطينى محمد على طاهر وعدد من معتقلى حركة مصر الفتاة.
فى مارس 1942، أعلن البنا عن تأييده للحكومة الوفدية، فى الوقت الذى شكلت فيه أحزاب الأقلية جبهة معادية للوفد، ولم تشهد أجواء المعركة الانتخابية نشاطا تحريضيا من الإخوان المسلمين.
لقد آثر البنا، لحسابات سياسية شهدت تغييرا فى موازين القوى الفاعلة، أن يبتعد عن القصر الملكى والجبهة المناوئة للوفد والإنجليز، ولم يلتزم زعيم الإخوان بأى تعهد صريح حين عرضت عليه بعض القوى الوطنية داخل الجيش، طبقا لرواية السادات، توجيه ضربة إلى الجنود البريطانيين المتقهقرين فى أعقاب الهجوم الألمانى خلال شهرى مايو ويونيو 1942. رفض البنا أن يغامر بمواجهة غير متكافئة ضد الانجليز والوفد.
وعلى الرغم من الالتزام الإخوانى بالاتفاق المبرم مع حكومة النحاس، فإن الحكومة نفسها لم تكن كاملة الانسجام فيما يتعلق بالموقف من الإخوان. يتجلى ذلك بوضوح فى الإجراء الذى تم اتخاذه قرب نهاية عام 1942، حيث تم إغلاق جميع شعب الجماعة ما عدا مكتب المرشد العام، وسرعان ما تغير الموقف مع بداية عام 1943، حيث قام مجموعة من وزراء الوفد، برئاسة فؤاد سراج الدين، بزيارة مقر الإخوان، وصرح سراج الدين بأنه يعتبر نفسه جنديا فى جيش الإخوان! .
تراوحت العلاقة بين الوفد والإخوان، حتى إقالة الحكومة الوفدية، بين المودة والعداء، فمن المطاردة والرقابة وتضييق الحصار على النشاط الإخوانى، إلى المصالحة والتعاون وإتاحة حرية الحركة.
يرى الجناح الليبرالى فى الوفد أن الاتجاه المحافظ الذى يتزعمه فؤاد سراج الدين كان راغبا فى استثمار الإخوان كأداة لمواجهة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التى تزايدت خلال سنوات الحرب، وللحيلولة دون انتشار الحركة الشيوعية التى تمثل تهديدا لمجمل النظام القائم. ويتهم هذا الجناح سراج الدين بمساعدة الحركة الإخوانية على الانتشار فى الريف، وكان سراج الدين وزيرا للزراعة، ويعيبون عليه أنه لم ينتبه إلى حقيقة ان الإخوان سلاح من أسلحة القصر، وأنهم يُستخدمون فى الصراع ضد الوفد.
تجنب الصدام والتركيز على البناء التنظيمي:
كان البنا حريصا على تجنب الصدام مع الانجليز والحكومة الوفدية، وفى منتصف عام 1943، صارح المرشد إخوانه فى إحدى رسائله بأن الدعوة لا زالت مجهولة عند الكثير من الناس، وأن أهدافها ستلقى مقاومة وتعانى الكراهية والعقبات.
قرر البنا أن يركز جل اهتمامه على البناء التنظيمي، مدركا أن النجاح فى هذه المهمة سيعينه على تحقيق أهدافه بعد أن تنتهى الحرب، وتتغير خريطة الصراع.
خلال فترة الحكم الوفدى، من فبراير 1942 إلى أكتوبر 1944، توسعت جماعة الإخوان المسلمين بشكل هائل، وتحولت إلى قوة حقيقية ذات بأس . استفاد الإخوان من توقف النشاط الحزبى بسبب فرض الأحكام العرقية، ومن توقف نشاط حركة مصر الفتاة، التى ظل نشاطها محظورا. ولأن الحركة لم تُعامل معاملة الأحزاب التقليدية، ولم تتعرض للقهر والاضطهاد الذى تعرض له أحمد حسين وأنصاره، فقد ارتفع عدد أعضاء جوالة الإخوان من ألفى عضو سنة 1941، إلى أربعة آلاف وخمسمائة عضو قرب نهاية الحرب، كما تزايد عدد الشعب الإخوانية من 500 شعبة إلى 1500 شعبة، كما استثمرت الجماعة دعم فؤاد سراج الدين للانتشار فى الريف المصرى، وقامت سنة 1943، بتنفيذ أول مشروع اجتماعى شامل فى محيط القرية المصرية، وتحولت جوالة الجماعة إلى ما يشبه نظام البلديات، من حيث الإشراف على النظافة والإضاءة وتقديم الخدمات الصحية وفض المنازعات وأصبح نمط الجوال الإخوانى، الذى يرتدى الجرابات والحذاء والبنطلون القصير، سائدا فى الريف.
لاستيعاب التوسع التنظيمى الكبير خلال سنوات الحرب، قامت جماعة الإخوان ياستحداث نظام الأسر فى هياكلها التنظيمية، والأسرة الإخوانية أقرب إلى الخلية، لا يزيد عدد أعضاء كل منها عن خمسة أعضاء.
تشكيل البناء الخاص:
وخلال الفترة نفسها، شكل البنا “,”النظام الخاص“,”، وهو ما يعرف خارج الجماعة باسم “,”الجهاز السرى“,”. وعلى الرغم من صعوبة التحديد اليقينى الصارم لتاريخ تأسيس الناظم الخاص، الذى سيلعب أخطر الأدوار فى تاريخ الجماعة خلال السنوات التالية، فإنه بمثابة التجسيد العلمى لمرتبة “,”المجاهد“,” التى أقرها المؤتمر الثالث للجماعة فى مارس 1935، وهى المرتبة التى يتم اختيار أعضائها ممن هم فى درجة العضوية العاملة، اى من أعضاء فرق الجوالة، بالنظر إلى عضوية الجوالة كانت شرطا أساسياً للعضوية العاملة.
ويمكن تبرير إنشاء الجهاز الخاص بمخاوف حسن البنا مما قد يهدد الجماعة وشخصه، وهو ما تعبر عنه رسالة الوداع التى كتبها عام 1943، وتنبأ فيها باحتمال مواجهة الجماعة للمحنة ومخاصمة الحكومات لها.
أهداف تشكيل النظام الخاص
يمكن تحديد ثلاثة أهداف رئيسية : أولها شن الحرب على الاستعمار البريطانى فى الوقت المناسب، وثانيها قتال الذين يخاصمون الجماعة وردعهم، أما الهدف الثالث فهو إحياء فريضة الجهاد.
وإذا كانت الحرب ضد الاحتلال هدفا مؤجلا إلى أن يحين الوقت المناسب، وإذا كان إحياء فريضة الجهاد هدفا نظريا وفكريا عاما، فإنه يمكن القول بأن الهدف الأساسى هو ردع أعداء الإخوان فى الداخل، ومن هنا بدأت بذرة العنف والقوة فى النمو والازدهار.
ويقترن بهذا التوجه، انفتاح الإخوان على العسكريين الذين يعادون الوجود البريطانى، فقد كان الضباط الكارهون للاحتلال والساعين إلى مقاومته فى طليعة المرشحين للانخراط فى التنظيم ذى الصبغة العسكرية .
وفى المقابل، وجد هؤلاء الضباط فى التنظيم الإخوانى متنفسا لهم وسندا شعبيا.
وطبقاً لشهادة خالد محى الدين، الذى ارتبط خلال فترة من حياته بالإخوان المسلمين، فإن التنظيم العسكرى للجماعة قد تبلور بشكل متكامل قرب نهاية العام 1944،وقام الضابط الإخوانى عبد المنعم عبد الرءوف بدور المنسق بين الجماعة والضباط الشباب.
ضمت الخلايا الأولى عددا من الأسماء العسكرية الشابة البارزة، فى مقدمتهم جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وحسين الشافعى وعبد اللطيف بغدادى وحسن إبراهيم، وكلهم من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار فيما بعد، فضلاً عن أسماء أخرى مهمة مثل مجدى حسنين وحسين حمودة وسعد توفيق وصلاح خليفة وأحمد مظهر، الذى أصبح فيما بعد من اهم وأشهر نجوم السينما المصرية! .
التقى البنا بهؤلاء الضباط، واعتبرهم أعضاء يتسمون بخصوية تعفيهم من اداء التزامات العضو العادى لقد اعتبر البنا أن التنظيم العسكرى بمثابة الإطار الذى يمكن من خلاله اختيار الكوادر الفعالة وضمها إلى النظام الخاص، وفى هذا السياق تم ضم جمال عبد الناصر وخالد محى الدين، ويؤكد خالد فى مذكراته أنه أقسم وعبد الناصر، فى غرفة مظلمة، على مصحف ومسدس، يمين الطاعة والولاء للمرشد العام، فى المنشط والمكره.
وامتد نشاط حسن البنا إلى مغازلة التشكيلات السرية شبه العسكرية فى الحزب الوطنى ومصر الفتاة، ويؤكد قائد السرب حسن غرت أن الشيخ أحمد حسن الباقورى، أحد قادة شباب الأزهر والكادر الإخوانى النشيط، كان ذا صلة بالجهاز السرى للحزب الوطنى، وتعرف عليه إبان اتصال مجموعته العسكرية بمجموعة عبد العزيز على من الحزب الوطنى.
سقوط الحكومة الوفدية واستعادة العلاقات مع القصر:
بسقوط حكومة الوفد، تحول موقف البنا والإخوان بشكل كامل، والأقرب إلى المنطق أن العلاقة الايجابية من الوفد، التى ترتبت على اللقاء الذى جرى بين النحاس والبنا، كانت أقرب إلى الاستثناء، وتعبيرا عن رغبة إخوانية فى تحقيق مكاسب سياسية لا تغير من حقيقة الموقف المعادى للوفد.
لقد أدى تنازل حسن البنا عن الترشيح، وفقا للصفقة التى أبرمها مع مصطفى النحاس، إلى غضب الملك فاروق، الذى قرر أن يقطع المعونة المقدمة من القصر إلى الجماعة، لكن المياه بدأت تعود إلى مجاريها قرب نهاية سنه 1942، بعد أن عمل البنا جاهدا لإرضاء الملك والتقرب إليه، فقد توجه إلى قصر عابدين ليرفع إلى الملك العدد الأول من مجلة الإخوان المسلمين نصف الشهرية، التى صدر عددها الأول فى التاسع والعشرين من أغسطس. كما أن الإخوان، بعد انسحابهم من الانتخابات التى أجراها الوفد، دعموا المرشحين المناوئين والمعارضين، ووفقا لتقارير المخابرات البريطانية، فقد صدرت الأوامر لأعضاء الجماعة بان يعطوا أصواتهم لصالح المسلمين الصالحين فى دوائرهم، أو لصالح مرشحى حزب العمال، الذى أسسه النبيل عباس حليم بدعم من القصر.
لم يكن مستغربا إذن أن يتنكر الإخوان للوفد بعد إقالة النحاس فى أكتوبر 1944، وأن يتحالف الإخوان مع القصر وحكومات الأقلية التى تولت الحكم دون سند شعبى أو شرعية دستورية.
عند اشتعال الحرب العالمية الثانية، وخلال السنوات التى استغرقتها، تبلورت الخريطة السياسية المصرية من خلال مجموعة من القوى متباينة الأهمية والتأثير. ياتى الحزب الشعبى الأول، الوفد، بقيادة الزعيم مصطفى النحاس، فى الطليعة، بالنظر إلى نفوذه الجماهيرى واتكائه على معطيات ثورة 1919، وشعاراتها، وحول الوفد تتناثر مجموعة الأحزاب المصطلح على تسميتها بأحزاب الأقلية، وبعض هذه الأحزاب تعود فى نشاتها إلى ثورة 1919، وما قبلها، مثل حزبى الأحرار الدستوريين والوطنى، وبعضها الآخر يمثل انشقاقا حديث من الوفد، مثل الهيئة السعدية التى انشقت قبيل الحرب بقيادة أحمد ماهر والنقراشى، ومثل الكتلة الوفدية التى اسسها القيادى الوفدى المنشق خلال سنوات الحرب مكرم عبيد.
وبعيدا عن الوفد والأحزاب التقليدية المناوئة له، فقد ظهرت قوى جديدة، تتمثل فى القيادات اليسارية والماركسية، وحركة مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين، فضلاً عن جماعة الإخوان المسلمين.
لا تملك هذه القوى جميعا أن تتحرك وتؤثر وتتفاعل مع الشارع المصرى، بمعزل عن مواقفها النظرية والعملية من القوتين الأعظم اللاعبتين فى الساحة السياسية : السراى بزعامة الملك فاروق التى تمثل القوة الشرعية ذات الثقل الدستورى، والنفوذ الشعبى النسبى، والسفارة البريطانية التى تمثل سلطة الاحتلال بكل امكاناتها الواقعية، التى تجعل منها القوة الأعظم فى فاعليتها ونفوذها .
الخريطة معقدة متشابكة، والتداخل قائم، والتغيير لا يتوقف، والقراءة الشاملة الواعية تتطلب أن تكون البداية مع حزب الوفد .
يذكر اللورد كيلرن، سفير بريطانيا فى مصر بعد توقيع معاهدة 1936، والذى كان يشغل من قبل مركز المندوب السامى، أن النحاس وقيادات الوفد قد انشغلوا بعد توقيع المعاهدة، إلى حد كبير، بالانغماس فى الأحاديث والمناسبات الاجتماعية، وانهم كرسوا الوقت القليل الذى يقضونه فى مكاتبهم لإرضاء مطامع ومطالب اتباعهم من الوفديين، الذين عُينوا فى كثير من المناصب الرئيسية فى الدولة، وهو ما هيأ للملك فاروق فرصة إقالة الوزارة، وظل النحاس وحزبه فى صفوف المعارضة، حتى اقتراب القوات الألمانية من الإسكندرية فى أوائل عام 1942.
عاد النحاس ليتولى الوزارة فى أعقاب حادث الرابع من فبراير، وفق الإرادة الانجليزية التى تم فرضها بالقوة على الملك فاروق، بعد حصار قصر عابدين بالدبابات الانجليزية. ولا يزال تقويم الحادثة الشهيرة، بعد أكثر من نصف قرن على وقوعها، مثارا للجدل والاختلاف .
المتعاطفون مع الوفد يعتبرون قبول النحاس للحكم انحيازا للديمقراطية ضد الفاشية، وانقاذا للبلاد من فرض السيطرة البريطانية المباشرة عليها، فى حين اعتبره خصوم الوفد والنحاس تآمرا على استقلال البلاد واستسلام للمستعمر.
وفضلاً عن الجراح التى أصابت الحزب الشعبى لقبوله الوزارة فى فبراير 1942، فقد ثارت أقاويل كثيرة عن النفوذ المتصاعد للسيدة زينب الوكيل، الزوجة الشابة للزعيم مصطفى النحاس، وقيل إنها تتدخل بصورة مباشرة لدى الوزراء لتعيين أو ترقية أقاربها ومعارفها، وهو ما أفض فى النهاية إلى تذمر الرجل الثانى فى الوفد، مكرم عبيد.
كانت أنظار القصر الملكى موجهة إلى مكرم عبيد، وعملت على استقطابه لكى تثأر من الإذلال الذى عاناه الملك فى فبراير، وراهن مستشارو الملك على أن غياب مكرم سيؤثر سلبيا على الحزب القوى .
كان لمكرم أنصار عديدون داخل الوفد، ويحظى بشعبية كبيرة، داخل الأوساط العمالية والشبابية. وانتهى الصراع بين النحاس ومكرم بطرد الرجل الثانى من الوزارة فى 26 مايو 1942، ثم فُصل من الحزب نهائياً بعد وقت قصير. وعندها، رفع مكرم شعار “,”نزاهة الحكم“,” ضد فساد الوفد، وألف “,”الكتاب الأسود“,” الحافل بعديد من الفضائح والاستثناءات، التى ثبت بعد ذلك أن معظمها غير صحيح، أو يتسم – على الأقل – بالكثير من المبالغات.
قد يكون صحيحا أن خروج مكرم عبيد لم يضع نهاية لحزب الوفد، لكن الصحيح أيضاً أن انشقاقه كان ذا آثار سلبية، وأضيفت إلى جبهة أعضاء الوفد قوة جديدة لا يُستهان بها، وخاصة أن الأغلبية العظمى من الأقباط كانت تنتمى تلقائياً إلى الوفد، وترى فى مكانة مكرم عبيد تعبيراً عن توجه الحزب الذى تتسم أفكاره بالتسامح ومفاداة الطائفية والتعصب الدينى.
كان المناخ مهيأ ليمارس الملك انتقامه ويطرد الوفد، فبعد ان خفت القيود المفروضة على مصر، وبعد أن تحولت مجريات الحرب بصفة أكيدة إلى جانب الحلفاء، سمح الانجليز للملك فاروق بإقالة النحاس فى أكتوبر 1944، وعاد الوفد إلى المعارضة من جديد .
كان تجمع أنصار السلام، والنادى الديمقراطى، أكبر تجمعين ماركسيين عند قيام الحرب العالمية الثانية .
وإلى جوارهما، وتفرعا منهما أو انسلاخا عنهما، كانت توجد بعض التجمعات الصغيرة التى لم يُقدر لها البقاء والاستمرار، مثل منظمة تحرير الشعب بقيادة مارسيل إسرائيل، التى تفرعت من النادى الديمقراطى، وتفرعت عنها بدورها “,” الخبر والحرية “,” و “,” ثقافة وفراغ “,”، وكان التنظيم الأول للمصريين فقط، وكلاهما تنظيمان علنيان لم يصلا إلى حد التنظيم السياسى . كما تفرع من النادى الديمقراطى تجمع “,” الفن والحرية “,”، الذى وقع تحت تأثير التروتسكيين .
ظهور قوى جديدة على الساحة السياسية:
بعد قيام الحرب العالمية، غيرت جماعة أنصار السلام اسمها إلى جماعة البحوث، واستطاعت أحداث الحرب العالمية، بكل ما فيها من متغيرات جذرية طالت الساحتين الدولية والإقليمية، والمحلية، أن تعزل العناصر الأجنبية فيها بعيداً، وتفرز العناصر المصرية التى أسست عند نهاية الحرب جماعة “,” الفجر الجديد “,”، التى لعبت دوراً بارزاً من خلال تحالفها مع الوفديين، فى إطار الاحتفاظ باستقلاليتها، ومارست نشاطاً مع الطلبة الوفديين والطليعة الوفدية .
فى عام 1942، انقسم الاتحاد الديمقراطى إلى تنظيمين مهمين : الأول هو الحركة المصرية للتحرر الوطنى، بقيادة هنرى كورييل، وكان يرفع شعار التمصير، بمعنى الانفتاح على المصريين مباشرة، وتصعيدهم إلى القيادة .
أما التنظيم الثانى فهو تنظيم ايسكرا، وهى كلمة روسية تعنى “,” الشرارة “,”، وقادة هليل شوارتز، وضم إليه كثير من المثقفين المصريين الذين ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية .
لم تكن البدايات اليسارية قوية ومؤثرة من حيث المنظور العددى، لكنها نجحت فى إشاعة أجواء فكرية وسياسية جديدة، ورسخت لمجموعة من الشعارات والمطالب التى تركت ظلالها العميقة على القوى والتجمعات السياسية المختلفة : التقليدى منها ممثلاً فى الوفد من خلال جناحه الشبابى ذى النزعة اليسارية، وغير التقليدي ممثلاً فى حركة مصر الفتاة والإخوان المسلمين .
كان الإخوان مطالبين بالالتفات على المتغيرات الجديدة، وحريصين على تقديم خطاب يتوافق مع ما أحدثته الحرب، ومن هنا تنبع أهمية المؤتمر السادس للإخوان .
بعد إقالة حكومة الوفد فى أكتوبر 1944، اختار الملك فاروق أحمد ماهر، زعيم الحزب السعدى، لتشكيل حكومة جديدة، واتخذ رئيس الوزراء الجديد قراراً بإجراء الانتخابات، التى خاضها حسن البنا فى مدينة الإسماعيلية، وشارك فيها خمسة من الإخوان فى دوائر انتخابية متفرقة .
أُجريت الانتخابات فى يناير 1945، وأسفرت عن سقوط جميع مرشحى الإخوان، لكن هذا الفشل لا يعد مقياساً يمكن الاعتداد به، فقد كان التزوير علنياً وسائراً .
كان عداء الحكومة السعدية للإخوان جزءاً من العداء العام تجاه كل من رشحوا انفسهم من خارج الحزب ن لكن هذه العمومية لا تنفى أن أحمد ماهر كان يستريب فى نوايا الإخوان، ولا يبدى ارتياحاً لتنامى قوتهم العددية والتنظيمية، والمعروف أنه سعى للحصول على فتوى من الشيخ المراغى، شيخ الجامع الأزهر ورجل الملك القوى، تفيد أن هناك عدداً أكثر مما ينبغى من الجماعات الإسلامية، وكان واضحاً أن مثل هذا الفتوى موجهه إلى الإخوان فى المقام الأول .
لا ينجو الإخوان من الاتهام الذى يطاردهم بأنهم مستولون، على نحو ما، عن اغتيال أحمد ماهر، ويتضبث القائمون بالاتهام بأن اعتراف قاتله بالإنتماء إلى الحزب الوطنى، لا ينفى انه كان أقرب على الإخوان، وأن كثيراً من معارفه وأصدقائه كانوا من المحسوبين إلى جماعة الإخوان المسلمين .
اغتيال ماهر كان رداً على موقفه من إعلان الحرب ضد المحور، ويعود هذا الموقف إلى سنوات عديدة سابقة لاغتياله ولتوليه منصب رئيس الوزراء .
حين دخلت إيطاليا الحرب فى يونيو 1940، نادى أحمد ماهر بضرورة إعلان مصر الحرب على دول المحور، وكان منطقه أن عدم دخول الحرب يعد إقراراً منها بأن انجلترا تحميها، وبأنها هى المسئولة عن استقلالها، فى حين أن اشتراكها فى الحرب يعطيها الحق، بعد انتصار الحلفاء، فى التوصل إلى جلاء القوات البريطانية عن أراضيها . لكن رأى أحمد ماهر لم يؤثر كثيراً على الرأى العام، الذى لم يكن يتوقع انتصار انجلترا وحلفائها، فضلاً عن التخوف من أن يؤدى إعلان مصر للحرب على دول المحور إلى أن تتعرض أراضيها للقصف الجوى والدمار، وبالتالى فقد مالوُ إلى سياسة تجنيب البلاد ويلات الحرب، وهى السياسة التى سارت عليها وزارة على ماهر، التى خلفت وزارة محمد محمود، ومع ذلك فقد تمسك السعديون بضرورة دخول مصر الحرب، واستقالوا من وزارة حسن صبرى الذى خلف على ماهر .
بعد أن تولى أحمد ماهر الوزارة، خلفاً للنحاس، أعلن أمام البرلمان، خلال جلسة سرية، عزمه على إعلان الحرب ضد ألمانيا واليابان، ولم يكن لهذا القرار من هدف، وقد أوشكت الحرب على الإنتهاء، سوى أن يُسمح لمصر بالحصول على مقعد فى مؤتمر السلام . ولما كان إعلان الحرب لا يمكن أن يعتبر إعلان لحرب دفاعية، فقد تقرر عرض الأمر على البرلمان فى جلسة سرية، يعقدها مجلس النواب ثم يعقدها مجلس الشيوخ، لكن الأسباب التى ساقها أحمد ماهر لإعلان الحرب لم تنل ما تستحق من فهم، وبعد أن عرض رؤيته على مجلس النواب، ومر بالبهو الفرعونى متجهاً إلى مجلس الشيوخ، تصدى له المحامى الشاب محمود عيسوى، وأطلق عليه الرصاص فأرداه قتيلاً وكان ذلاك فى الرابع والعشرين من فبراير 1945، قبل أن تنتهى الحرب العالمية بشهور قليلة .
لمتابعة القسم الرابع الاخير والوثائق إضغط هناااا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.