اعتبر الكثيرون من المتخصصين في الموسيقى أن شتراوس أهم مؤلفي الموسيقى الأوبرالية في القرن العشرين، ورغم اعترافه بأنه سبق تفكير جمهوره، خاصة في ألمانيا، إلا أن هذا الجمهور لم يلبث أن تفاعل سريعاً مع الموسيقي العبقري ووضعه في مكانه الصحيح؛ ورغم رؤيته لبلاده تنهار في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي بدأتها، لكنه استمر في إبداعه حتى النهاية. ولد ريتشارد شتراوس في الحادي عشر من يونيو عام 1864 في مدينة ميونيخ، وهو ابن عازف الهورن الأول في أوركسترا بلاط ميونيخ، لذلك كانت نشأته برجوازية ومثقفة، وبدأ في تعلم مبادئ الموسيقى من أفراد العائلة، وواصل دراسته الموسيقية، ثُم بدأ محاولات لتأليف مقطوعات موسيقية وهو لايزال في الثانية عشرة، وواصل التأليف أثناء دراسته الثانوية مُقدماً رباعيتين وسيمفونية و كونشرتو للكمان؛ وفي عام 1884 لاحظ موسيقار صديق لوالده صعود الفتى في عالم التأليف، فاقترح تدريبه على قيادة الأوركسترا تحت إشرافه، فأصبح قائد أوركسترا مساعداً، بناء على توصيته. سافر شتراوس في رحلة إلى إيطاليا عام 1886، وألف هناك أول مؤلفاته أعماله "من إيطاليا"، التي تُعد أولى قصائده السيمفونية، ثُم ألف أثناء إقامته في مدينة ميونيخ التي دامت ثلاث سنوات "دون جوان" و"ماكبث"، وأعقبهما ب"الموت والتجلي، وأصبح قائد أوركسترا رئيساً، وبقي بميونخ أربعة أعوام ألّف فيها ثلاث قصائد سمفونية "تيل المهزار"، "هكذا تكلم زرادشت"، و"دون كيشوت"؛ وانتقل إلى برلين عام 1898 ليعمل في دار أوبرا برلين، وبدأ تأليف "حياة بطل"، وأوبرا "أزمة نار"، وفي عام 1901 قدم أولى حفلاته في فيينا، وتنقل في جولات موسيقية في أوربا، وفي عام 1904 قام بجولة إلى أمريكا اقدم فيها "السمفونية المنزلية"، ووقع في سحر دراما "سالومي" لأوسكار وايلد، فقام بتحويلها إلى أولى أوبراته الناجحة، وقدمها في مدينة درسدن عام 1905 فلاقت نجاح كبير؛ وانهالت عليه الدعوات من عواصم أوروبا لإحياء حفلات قدم في خلالها أعماله، وتلقى عشرات الألقاب والأوسمة من الجمعيات الثقافية والموسيقية. انتهى شتراوس من تأليف أوبراه الأشهر "إليكترا" عام 1908، ولكنها لم تلق النجاح المرجو، فأدرك حقيقة عجز جمهوره عن اللحاق به في درب الحداثة والتراجيديا القاتمة، لكنه أعاد تقديمها في فيينا وبرلينوميونيخ وهامبورج لتُحقق النجاح المتوقع،وأعقبها بأوبرا "فارس الوردة"، أكثر أعماله تعبيراً عن شخصيته وميوله، والتي حققت نجاحاً عظيماً، وتسابقت دور الأوبرا العالمية على تقديمها، وشهدت إقبالاً لم يسبق له مثيل؛ بعد ذلك ألف باليه "قصة يوسف" و"السمفونية الألبية"، ثُم "أريانا في ناكسوس" التي جعلته أفضل مؤلف أوبرا في القرن العشرين؛ وفي عام 1919 عُين مديراً لدار أوبرا فيينا فقدم أوبرا "امرأة بلا ظل"، ثم باليه "الكريمة المخفوقة"، وأوبرا "إنترمتزو"، وعند اقتراب نهاية عقده مع الدار، تعددت حفلات تكريمه وتم منحه عِدة ألقاب، مثل "مواطن شرف لمدينة فيينا"، و"رئيس فخري لمهرجان سالزبورج، وغيرها. مع تعديه حاجز الستين بدأت لدى المؤلف العبقري أزمة سياسية فرضت نفسها بصعود تيار النازية في ألمانيا، وبوادرها التي أنذرت بزعزعة الاستقرار الأوربي؛ و على الرغم من الصعوبات، نجح في تأليف أوبرا "المرأة الصامتة" التي تُعّد إعجازاً فنياً يستحيل إنجازه في شروط قاسية مثل التي كان يمُليها النظام النازي؛ ومع تعاقب سنوات الحرب، تصاعدت العقبات المادية والسياسية في وجه طموحاته الفنية، واضطر يائساً إلى تأليف ثلاث أوبرات "يوم سلام"، "دافني"، و"حب دناي"؛ كذلك قدم آخر أعماله أوبرا "نزوة" بمساعدة صديقه كراو"، والتي قدمت عام 1942 بمدينة ميونيخ في أجواء خيم عليها توتر الحرب وحتمية انهيار الرايخ الثالث. رحل شتراوس في الثامن من سبتمبر عام 1949، عن عمر يُناهز الخماسة والثمانين، تاركاً لتاريخ الموسيقى مقوطعات لا تزال تُعزف وتلقى الإقبال من آف الجماهير حتى الآن.