الشيخ أبوالعباس المرسي، عالم دين صوفي، وأحد أبرز رجالات الصوفية في سلسلة الطريقة الشاذلية، هو شهاب الدين أبوالعباس أحمد بن حسن بن على الخزرجى الأنصاري المرسي، ولّد في مدينة مرسية في الأندلس، ومنها حصل على لقبه المرسي، والذي أصبح اسمًا متدوالًا في مصر بعد حذف لام التعريف. يتصل نسبه بالصحابي سعد بن عبادة، ولد عام 616 ه الموافق 1219م، حيث نشأ في بيئة صالحة أعدته للتصوف، ولما بلغ سن التعليم بعثه أبوه إلى المعلم ليحفظ القرءان الكريم ويتعلم القراءة والكتابة والخط والحساب. وحفظ القرءان في عام واحد وكان والده عمر بن على من تجار مرسيه فلما استوت معارف أبي العباس وظهرت عليه علامة النجابة ألحقه والده بأعماله في التجارة وصار يبعثه مع أخيه الأكبر أبوعبدالله فتدرب على شئون الأخذ والعطاء وطرق المعاملات واستفاد من معاملات الناس وأخلاقهم. وفي عام 640ه. (1242م) كانت له مع القدر حكاية عظيمة وذلك حين صحبه والده مع أخيه وأمه عند ذهابه إلى الحج فركبوا البحر عن طريق الجزائر حتى إذا قاربوا الشاطئ هبت عليهم ريح عاصفة غرقت السفينة غير أن عناية الله تعالي أدركت أبا العباس وأخاه فنجاهما الله من الغرق، وقصدا تونس وأقاما فيها واتجه أخوه محمد إلى التجارة واتجه أبوالعباس إلى تعليم الصبيان الخط والحساب والقراءة وحفظ القرءان الكريم. و كان لأبي العباس في تونس مع القدر حكاية أخرى حددت مستقبله وأثرت على اتجاهه فيما بعد ذلك أنه تصادف وجود أبي الحسن الشاذلي على مقربة منه في تونس ويروي أبوالعباس نفسه عن لقائه بأستاذه الشيخ أبي الحسن الشاذلي فيقول: "لما نزلت بتونس وكنت أتيت من مرسيه بالأندلس وأنا إذ ذاك شاب سمعت عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي وعن علمه وزهده وورعه فذهبت إليه وتعرفت عليه فأحببته ورافقته". ولازم أبوالعباس شيخه أبا الحسن الشاذلي من يومها ملازمه تامة وصار لا يفارقه في سفر ولا في حضر، ورأي الشيخ الشاذلي في أبيالعباس طيب النفس وطهارة القلب والاستعداد الطيب للإقبال على الله فغمره بعنايته واخذ في تربيته ليكون خليفة له من بعده وقال له يوما يا أبا العباس ما صحبتك إلا أن تكون أنت أنا وأنا أنت، وقد تزوج أبو العباس من ابنة شيخه الشاذلي وأنجب منها محمد وأحمد وبهجه التي تزوجها الشيخ ياقوت العرش. أما أبوالحسن الشاذلي فهو تقي الدين أبو الحسن على بن عبد الجبار الشريف الإدريسي مؤسس الطريقة الشاذلية وأستاذ أبي العباس فينتهي نسبه إلى الأدارسه الحسينيين سلاطين المغرب الأقصى. وفي عام 642ه. 1244م. خرج أبوالحسن الشاذلي إلى الحج وسافر إلى مصر عبر الإسكندرية، وكان معه جماعة من العلماء والصالحين وعلى رأسهم الشيخ أبو العباس المرسي وأخوه أبوعبدالله جمال الدين محمد وأبوالعزائم ماضي. وقد حج الشيخ أبو الحسن الشاذلي وعاد إلى تونس وأقام بها ولحق به أبوالعباس المرسي ثم وفدوا جميعا إلى مصر للإقامة الدائمة بها واتخذ من الإسكندرية مقاما له ولأصحابه. ولما قدموا إلى الإسكندرية نزلوا عند عامود السواري وكان ذلك في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب في عصر الدولة الأيوبية، ولما استقروا بالإسكندرية اتخذ الشاذلي دارا في كوم الدكة نزل بها هو وأصحابه وعلى رأسهم أبو العباس وبدأوا يدعون إلى الله في كل مكان حتى قصدهم العلماء والفضلاء ولازم مجالسهم الطلاب والمريدون وذاع صيتهم في الديار المصرية. وقد اختار الشيخ أبو الحسن الشاذلي جامع العطارين لإلقاء دروسه فيه وعقد حلقات الوعظ والإرشاد وفيه وأقام الشيخ أبو العباس المرسي خليفة له وأذن له في إلقاء الدروس وإرشاد المريدين وتعليم الطلاب ومناظرة العلماء وتلقين مبادئ وآداب السلوك. وقد أقام أبو العباس المرسي رضي الله عنه 43 عاما بالإسكندرية ينشر فيها العلم ويهذب فيها النفوس ويربي المريدين ويضرب المثل بورعه وتقواه... وقد استأذن أبوالعباس شيخه الشاذلي في القيام بأمر الدعوة في القاهرة واتخذ من جامع أولاد عنان مدرسة لبث تعاليمه ومبادئه بين الطلاب والمريدين واتخذ هذا المسجد مأوي له وكان يذهب كل ليلة إلى الإسكندرية ليلتقي بشيخه أبي الحسن ثم يعود إلى القاهرة ولم يستمر طويلا إذ عاد واستقر بالإسكندرية. و في عام 656ه. (1258م.) اعتزم الشيخ أبوالحسن الشاذلي الحج فصحب معه جماعة من إخوانه وعلى رأسهم أبوالعباس المرسي وأبو العزائم ماضي وفي الطريق مرض مرضا شديدا فمات رضي الله عنه ودفن بحميثرة من صحراء عذاب وهي في الجنوب من أسوان على ساحل البحر الأحمر. ولما أدي الشيخ أبوالعباس فريضة الحج بعد وفاة شيخه عاد إلى الإسكندرية فتصدر مجالسه وأخذ شانه في الارتفاع وذاع صيته فأمه الطلاب والمريدون من جميع البلاد ورحل إليه الزوار وذوو الحاجات من جميع الأقطار، وتوافد عليه العلماء والأمراء والأغنياء والفقراء. وكان إذا جاء الصيف رحل إلى القاهرة ونزل بجامع الحاكم وصار ينتقل بينه وبين جامع عمرو بالفسطاط ليلقي دروسه ومواعظه وكان أكثر من يحضر دروسه من العلماء خصوصا عند شرحه لرسالة الأمام القشيري. و كان رضي الله عنه على الطريقة المثلي من الاستقامة والزهد والورع والتقوى وكان حاد الذهن قوي الفطنة نافذ الفراسة سريع الخاطر زكي الفؤاد مستنير البصيرة حسن الطباع، وقد أخذ المرسي من كل فن بنصيب وافر وأتقن علوما كثيرة وكان فقيها وأديبا وعالما بأمور الحياة. وقد ظل الشيخ أبوالعباس المرسي يدعو إلى الله ملتزما طريق التقوى والصلاح ناشرا للعلوم والمعارف بين الخلق ومهذبا لنفوس الطلاب والمريدين حتى وفاته في الخامس والعشرين من ذي القعدة 685ه. (1287م.) ودفن في قبره المعروف خارج باب البحر بالإسكندرية. ولم يترك أبو العباس المرسي شيئا من آثاره المكتوبة فلم يؤلف كتابا ولم يقيد درسا ولكنه ترك من التلاميذ الكثيرين فقد تخرج على يديه في علم التصوف وآداب السلوك ومكارم الأخلاق خلق الكثيرون وتلاميذ نجباء منهم الأمام البوصيري وابن عطاء الله السكندري وياقوت العرش الذي تزوج ابنته وابن الحاجب وابن اللبان وابن أبي شامة وغيرهم. ومن أذكاره - يا الله يا نور يا حق يا مبين احي قلبي بنورك وعرفني الطريق إليك - يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين طاعتك على بساط محبتك وفرق بيني وبين هم الدنيا والآخرة واملأ قلبي بمحبتك وخشع قلبي بسلطان عظمتك ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين. - اللهم كن بنا رؤوفا وعلينا عطوفا وخذ بأيدينا إليك اخذ الكرام عليك، اللهم قومنا إذا اعوججنا، وأعنا إذا استقمنا وخذ بأيدينا إليك إذا عثرنا، وكن لنا حيث كنا وقد ظل قبر أبي العباس المرسي قائما عند الميناء الشرقيةبالإسكندرية بلا بناء حتى كان عام 706ه.(1307م) فزاره الشيخ زين الدين القطان كبير تجار الإسكندرية وبني عليه ضريحا وقبة وانشأ له مسجدا حسنا وجعل له منارة مربعة الشكل وأوقف عليه بعض أمواله وأقام له إماما وخطيبا وخدما وكان القبر يقصد للزيارة من العامة والخاصة. وفي سنة 882ه. 1477م. كان المسجد قد أهمل فأعاد بناءه الأمير قجماش الأسحاقي الظاهري أيام ولايته على الإسكندرية في عصر الملك الأشرف قايتباي وبني لنفسه قبرا بجوار أبي العباس ودفن فيه سنة 892ه. وفي عام 1005ه.(1596م.)جدد بناءه الشيخ أبو العباس النسفي الخزرجى. وفي عام 1179ه-1775م وفد الشيخ أبو الحسن على بن على المغربي إلى الإسكندرية وزار ضريح أبي العباس المرسي فرأي ضيقه فجدد فيه كما جدد المقصورة والقبة ووسع في المسجد. وفي عام 1280ه.(1863م.) لما أصاب المسجد التهدم وصارت حالته سيئة قام أحمد بك الدخاخني شيخ طائفة البناءين بالإسكندرية بترميمه وتجديده وأوقف عليه وقفا واخذ نظار وقفه فيما بعد في توسعته شيئا فشيئا. وظل المسجد كذلك حتى أمر الملك فؤاد الأول بإنشاء ميدان فسيح يطلق عليه ميدان المساجد على إن يضم مسجدا كبيرا لأبي العباس المرسي ومسجدا للإمام البوصيري والشيخ ياقوت العرش ومازالت هذه المساجد شامخة تشق مآذنها عنان السماء يتوسطها مسجد العارف بالله الشيخ أبي العباس المرسي أحد إعلام التصوف في الوطن العربي وشيخ الإسكندرية الجليل الذي يطل بتاريخه المشرق على شاطئ البحر مستقبلا ومودعا لكل زائر من زوار الإسكندرية التي تجمع بين عبق التاريخ وسحر المكان.