فى كندا وبينما أسير بالسيارة ذات يوم فى أحد شوارع مونتريال، سمعت صوت الموتور يزعق قليلا على نحو تصورت معه أن الشكمان به عيب يحتاج إلى إصلاح. توجهت إلى ورشة لأجل لحام الشكمان المثقوب. بعد أن رفع الفنى السيارة أنزلها وأخبرنى بأن الشكمان سليم، ثم أشار علىِّ بالذهاب إلى ميكانيكى ليرى العيب الحقيقى ويصلحه، ورفض أن يتقاضى أى فلوس لأنه لم يفعل شيئا. تذكرت هذه الواقعة عندما انتابنى ذات الشك فى السيارة وأنا أسير بها فى القاهرة فتوجهت إلى ورشة إصلاح شكمانات. نزل الفتى أسفل السيارة لأن تكنولوجيا رفع السيارات ما زالت بعيدة ثم خرج من تحتها وملامحه تنطق بالغضب ثم قذفنى بالخبر: أنت إزاى ماشى بالعربية كده؟.. الشكمان كله خربان ومحتاج يتغير بالكامل! قلت له: يا رجل لعل به ثقبا بسيطا يحتاج بنطة لحام وكان الله بالسر عليم. زاد غضبه منى وكأننى قتلت أمه وصاح قائلا: هل تريد أن تعلمنى شغلى؟.. الشكمان كله بايظ. تركته وانصرفت لأننى لم أسترح إلى سحنته الغاضبة كما لم أصدق حكاية أن الشكمان كله يحتاج إلى التغيير، لكننى اضطررت إلى أن أدفع له خمسة جنيهات ثمن الكشف! ذهبت إلى آخر بنفس الشارع بالحى السادس بمدينة نصر فتلقانى بالترحاب ثم انطرح أسفل السيارة لثوان وصعد ومعه نفس الوجه الكئيب الذى رأيته منذ قليل لزميله وكرر نفس الأسطوانة عن الشكمان التالف الذى لا يرجى إصلاحه. شعرت بدهشة حقيقية.. هل سيارتى تغضبهم إلى هذا الحد؟ هل ما يرونه بالأسفل مأساويا لدرجة أن الابتسامة تختفى وتحل محلها النظرة الحانقة على الرجل القاسى الذى يعامل شكمانه بوحشية ويمرضه إلى درجة يستحيل معها إصلاحه؟.. تساءلت بينى وبين نفسى: أوليس خبر تلف الشكمان بالكامل خبرا سعيدا بالنسبة لأى ورشة؟ ألا يعنى أنهم سيبيعون لى واحدا جديدا بمئات الجنيهات ويربحون من الشغلانة.. فلماذا الغضب إذن؟ بدا لى الأمر عندئذ أن هذا الغضب مجرد حركة تمثيلية تهدف إلى خداعى وإلزامى موقف الدفاع وموافقتى على شروطهم دون أن أجرؤ حتى على الفصال ومحاولة المساومة فى السعر. بادلت الأخ الحانق غضبا بغضب وانصرفت دون أن أعطيه ثمن الكشف الوهمى بعد أن فقدت ثقتى فى ورش الشارع كله. أخذت السيارة وتوجهت بها إلى ورشة ميكانيكا يملكها أحد أصدقائى وحكيت له الموضوع فرفع السيارة للكشف ثم نفى أن يكون بالشكمان أى عيب ولا حتى مجرد خُرم صغير، وأكد لى أن الموتور سليم والسيارة بحالة جيدة والصوت الذى سمعته موجود فى خيالى فقط بسبب الوسوسة. فى طريق العودة كنت سارحا فى ملكوت الله أفكر فى عباده المصريين وما حدث لهم.. طبعا من السهل على أى أحد أن يقول لى إنه كما يوجد الصنايعى فاقد الضمير يوجد صنايعية لا يغشون ولا يسرقون.. هذا الكلام سهل ومريح لكنه لا يقنعنى ولا يقدم إجابات للأسئلة التى تنهشنى عن الشرف والضمير وإتقان العمل.لقد كان بإمكان كلا العاملين اللذين خدعانى أن يفعل شيئا من اثنين، أحدهما صائب والآخر ملتوٍ: إما أن يصارحنى بحقيقة أن السيارة سليمة ويأخذ ثمن الكشف، وإما أن يتحلل قليلا من الأخلاق ويتظاهر بأن الشكمان به ثقب ويأخذ ثمن اللحام الوهمى وهو فى النهاية مبلغ بسيط.. لكن من الواضح أن منهج العمل صار هو السعى لنهش الزبون وسرقته بوحشية وذلك ببيعه أجزاء جديدة لا تحتاجها السيارة ثم الاستيلاء على الأجزاء الأصلية السليمة أيضا وبيعها لمغفل جديد! وهنا أحب أن ألفت انتباهكم إلى أن السرقة ليست فقط ما أدهشنى ولكن شيئا آخر عجيب.. هؤلاء الشباب من الصنايعية رأيتهم فى ميادين الثورة يبلون بلاء حسنا ويذودون عن الوطن بأرواحهم. رأيت فيهم شجاعة وشهامة وجدعنة لا مثيل لها، ولا يحاول أحد إقناعى أن من يثورون ضد الظلم وانتهاك الأعراض هم الصنايعية الذين لا يغشون فى الورشة.. لا.. المسألة أعمق من هذا. ويمكن لمن يريد أن يصل إلى ما أقصده أن ينظر إلى شهيد الشرطة الذى سقط الأسبوع الماضى برصاص تجار المخدرات وهو يطاردهم ويدفع عنا بلاءهم.. لقد بكيت وبكت مصر كلها على شبابه الذى ضاع على يد المجرمين الأوغاد وهو يؤدى واجبه بمنتهى البسالة والإقدام لحمايتنا وكفالة أمننا.. كما أن صورة أسرته الصغيرة وأطفاله الذين تيتموا جعلتنى أدرك مدى التضحية التى قدمها الشهيد من أجل الوطن. ملحوظة صغيرة فقط أود أن أذكرها هى أن هذا الشهيد العظيم كان قبل عدة أشهر قد تم تصويره فى أثناء ضبط مجموعة من المجرمين فى فيديو شهير شاهدناه فيه وهو يقوم بتعذيب أحد المجرمين وصعقه بالصاعق الكهربائى.. أنا أثق بأن الله برحمته الواسعة قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنه بموته خلال الواجب قد ألحق نفسه بالصديقين والشهداء.. لكن غايتى من الحواديت السابقة هى أن أشير إلى أن سنوات مبارك الملعونة قد أحدثت شيزوفرينيا لدى الجميع وجعلت الضابط المستعد لتقديم روحه فداء للوطن لا يدرك أن تعذيب المجرم جريمة! والصنايعى الثائر الجدع الذى يواجه الموت بشجاعة فى ميادين الثورة لا يدرك أن سرقة الزبون جريمة! وهو الأمر الذى أتمنى أن تصلحه الثورة من خلال إرساء قيم العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.. فنحن لا تنقصنا الجدعنة، ولكن ينقصنا حاكما لا يدفعنا بظلمه إلى الجنوح!